يحتفل الصينيون كل عام برأس السنة الصينية الجديدة، أو بدء سنة قمرية
جديدة، حيث يأخذ مئات الملايين من الصينيين في العودة الى مسقط رأسهم للاحتفال
بالأعياد مع أسرهم لعدة أسابيع، وتشهد هذه الفترة أكبر عملية نقل في العالم، حيث
تشهد محطات القطار والباصات والمطارات والطرق البرية السريعة ازدحاما كثيفا،
ويترتب على هذه العملية أن تخلو المدن الصينية الكبرى تقريبا من سكانها لتدب الحياة
مرة أخرى في الريف مسقط رأس معظم من يعيشون في المدن الصينية.
وفقا لإحصاءات المسافرين في هذه الفترة فإن عدد الرحلات يفوق عدد
السكان في الصين، حيث يقدر أن الشخص الواحد يقطع في المتوسط 3 رحلات عبر الدولة، وبالطبع
يصعب تخيل كيف يمكن إدارة أكثر من مليار رحلة سفر في غضون أسابيع قليلة، حيث يقدر
عدد المسافرين يوميا خلال الفترة بحوالي 80 مليون مسافر.
أكبر عمليات النقل في العالم هي انعكاس لأعظم هجرات العمال التي تمت
في التاريخ الإنساني في العصر الحديث، والتي تتمثل في هجرة الصينيين من الريف الى
المدن سعيا وراء فرص أفضل للتوظف والدخل ومستويات أفضل للمعيشة، بعيدا عن أماكن
إقامتهم الأصلية. فمنذ أن بدأت الإصلاحات الاقتصادية في الصين على يد الزعيم
الصيني الراحل دنغ شياو بنغ الذي سعى الى تحويل الصين من اقتصاد شيوعي الى اقتصاد
يعتمد على قواعد السوق مصحوبا بتطوير سياسي واقتصادي لتحويل الصين من اقتصاد زراعي
الى اقتصاد صناعي، تم خلق مئات الملايين من فرص العمل في المدن الصينية الكبرى، وبدأت
أكبر موجة هجرة للعمال في تاريخ العالم، والتي ترتب عليها أن أصبحت القرى تخلو
تقريبا حاليا من الشباب، والذين تركوا محال اقامتهم سعيا نحو الانتقال الى المدن،
لدرجة أن النمو الأساسي في المدن الصينية يتم من خلال المهاجرين من الريف، والذين
اصبحوا يشكلون الغالبية العظمى من سكان المدن.
تتسم الهجرة الداخلية للعمال في الصين بأن العمال المهاجرين يتركون
مزارعهم متجهين الى المناطق الحضرية، لممارسة أنشطة غير زراعية، وهؤلاء العمال
أصبحوا جزئا أساسيا من قوة العمل الصناعية في الدولة، كما ساهموا في خلق ثروة
الصين الحديثة، ورفعوا مستويات دخول المقيمين في الريف من خلال تحويلاتهم، كما
ساهموا في تطوير وتنمية المناطق الريفية والحضرية، ورفع درجة تحضر الدولة بشكل
عام. بالطبع درجة التفاوت في الدخول بعد الهجرة أصبحت أقل نسبيا، حيث تستفيد
المناطق الريفية من عوائد النمو في المناطق الحضرية من خلال التحويلات التي يقوم
بها العمال.
اصطدمت استراتيجيات التصنيع التي تبنتها الصين في البداية بنقص العمالة
اللازمة في المناطق الصناعية، الأمر الذي استلزم ضرورة تحرير نظم الهجرة والإقامة،
والمعروف باسم الهوكو، ويرجع الفضل الى هذا النظام في الحد من تيارات الهجرة
الداخلية من الريف للحضر، وبشكل عام تعد الهجرة في الصين أكثر أشكال الهجرة
المنظمة في العالم، فالشخص الذي يرغب في ترك محل اقامته عليه أن يحصل على موافقة
بالانتقال من محل اقامته الى منطقة أخرى، سواء بصورة دائمة أو مؤقتة وفقا لنظام
الهوكو، من السلطات المحلية. ووفقا للقانون فإن أي شخص يقيم في مكان مختلف عن
المكان المسجل فيه إقامته لأكثر من ثلاثة أيام، يتعين عليه أن يسجل نفسه لدى
البوليس وتقديم طلب الحصول على إقامة مؤقتة.
لا يتطلب الانتقال داخل المدينة أو القرية موافقة السلطات، لكن
الانتقال عبر حدود مكان الإقامة الى مكان آخر في منطقة أخرى يتطلب الموافقة
الرسمية على ذلك من السلطات الأمنية، ولا بد وأن يكون سبب الانتقال مقنعا للسلطات،
حتى يحصل المهاجر على الموافقة، ولكي يتم ذلك فإن الصين تتبنى نظام جواز السفر
الداخلي، حتى تمنع تدفق المهاجرين من الريف الى المدن، وحتى تسيطر على الخدمات
التي تؤديها الدولة للمقيمين في المدن.
من ينتقل من الريف الى المدن، يحصل على إقامة مؤقتة للعمل فيها وليس
من حقه الحصول على الكثير من المزايا والحقوق التي تمنح للمقيمين فيها بصورة
اتوماتيكية، ويقتصر منح هذه الحقوق والمزايا لفئة محددة من المهاجرين، وهم
الأغنياء والمهاجرين الذين ترتفع مستوياتهم التعليمية، وهم فقط العمال المهاجرين
تحت نظام الهوكو. أما بالنسبة للأشكال الأخرى من الانتقال فلا تعد هجرة، وانما
يطلق عليها لفظ السكان العائمين floating" population ومثل هذا المهاجر ليس
مسموحا له الإقامة في المناطق التي انتقل اليها بصورة دائمة.
تشير الدراسات إلى أن هناك أعدادا كبيرة تهاجر ويتم تشغيلها بصورة غير
رسمية، وبالتالي لا تكتسب الحقوق التي يتمتع بها المقيم في المدن من أصل حضري، مثل
الحق في خدمات السكن والتعليم والصحة وغيرها، التي تمنحها المدن لسكانها الأصليين.
على سبيل المثال يشير مكتب العمل الدولي إلى أن 40% فقط من العمال المهاجرين
يقومون بالهجرة بصورة رسمية، أي أن هناك 60% ينتقلون ويعملون من خلال القنوات غير
الرسمية وبدون الحصول على إذن من السلطات، وهو ما يعني أن الأرقام الرسمية المعلنة
عن تيار الهجرة العظيم تقل بصورة جوهرية عن الأعداد الحقيقية للمهاجرين، حيث لا
تظهر أعداد هؤلاء في الإحصاءات الرسمية الصينية.
لقد كان للهجرة الداخلية للعمالة فوائد عديدة سواء على النحو الداخلي
أو العالمي، فقد ساعدة الهجرة على القضاء على الفقر في المناطق الريفية ورفع
مستويات دخول أسر المهاجرين ومستويات رفاهيتهم، وتقليل الفوارق في الدخول بين
الريف والحضر، فالعامل المهاجر قد يحصل في مكان عمله الجديد أجرا شهريا يساوي أجر
سنة في مكان اقامته الأصلية. أكثر من ذلك فإن العامل المهاجر غالبا ما تكون لديه
فرصة العمل لوقت إضافي أكثر من عدد ساعات العمل اليومي، ومن ثم يتمكن من زيادة
دخله وتحويلاته ومدخراته الى موقع الأصل.
وفقا للإحصاء السكاني في عام 2000، كان هناك 131 مليون شخص يقيمون
خارج أماكن اقامتهم الأصلية، يقدر أن منهم 120 مليون مهاجر من المناطق الريفية،
اتجه منهم 100 مليون للمناطق الحضرية. بنهاية عام 2009 كان هناك حوالي 230 مليون
عامل مهاجر من المناطق الريفية. العام الماضي قدر المكتب القومي للإحصاءات اعداد
العاملين خارج أماكن اقامتهم لمدة 6 أشهر على الأقل ب 278 مليون عامل، أكثر من ذلك
يتوقع خلال العشرين عاما القادمة ان تستوعب المدن الصينية حوالي 300 مليون مهاجر
من المناطق الريفية بمعدل 10 مليون مهاجر سنويا. هذا التيار العظيم من الهجرة هو
الذي عمل على انتشار شعار "صنع في الصين" في العالم أجمع.
اليوم تتراكم الشواهد لتشير إلى تراجع أعداد المهاجرين من الريف الى
المدن، مع تحسن نوعية العمال وتزايد المطالبات بأجور أعلى، وحاليا يشار إلى أن
حقبة العمالة الرخيصة قد انتهت في الصين، وهو ما يعني أن الطلب على العمال سوف
يكون أقل في المستقبل، ومن ثم الهجرة. يعزز هذه التوقعات تراجع معدلات النمو في
الصين، أو دخولها ما يطلق عيه الوضع الطبيعي الجديد New
Normal. فقد أخذت الأجور بين المناطق الريفية والحضرية في التقارب وأن
العمال المهاجرين لا بد وأن يحصلوا على أجور أعلى لتشجيعهم على الانتقال، وهو ما
يؤثر سلبا على أرباح الشركات ويرفع من تكلفتها ويقلل من تنافسيتها. هذا الوضع
معروف في أدبيات التنمية الاقتصادية بنقطة لويس للتحول، حيث تأخذ أوضاع سوق العمل
في التحول بتناقص نسب الفوائض من عرض العمال في سوق العمل وبدء معدلات الأجور في
التصاعد، وهو ما ينذر ببدء تراجع تيار الهجرة العظيم الذي شهدته الصين خلال العقود
القليلة الماضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق