نشر في مجلة المصارف عدد فبراير 2009
الجزء الثالث
2. ضعف رقابة السلطات النقدية
ساعد على ازدهار تلك الابتكارات المالية مناخ السياسة النقدية المتساهل للاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وضعف بنية رقابة الاحتياطي الفيدرالي على القطاع المالي. وقد ساعدت معدلات الفائدة المنخفضة مع ضعف الرقابة المؤسسات المالية على اقتراض المزيد من الأموال مما أدى إلى رفع قدراتهم المالية على تمويل مشترياتهم من الأوراق المالية المرتبطة بالقروض العقارية. كذلك بدأت البنوك في إدخال ما يعرف بقيود خارج الميزانية Off-balance Sheet لتسجيل عمليات شراء الأصول المرتبطة بالتمويل العقاري والتي لم تكن تخضع للقيود الرقابية، كذلك لجأت المؤسسات المالية إلى الاقتراض قصير الأجل المرهون، مثل اتفاقيات إعادة الشراء، كما انتشر في النظام المالي بأكمله فشل في عملية تقييم المخاطر المصاحبة لعمليات الإقراض، أكثر من ذلك انتشرت مشكلة لا تماثل المعلومات Asymmetric information، حيث يكون لدى احد الأطراف في المعاملة المالية معلومات أكثر من الطرف الآخر، وفي مثل هذه الحالات عندما يقوم طرف بتقييم المخاطرة المصاحبة للتعامل مع الطرف الآخر استنادا إلى المعلومات المتاحة لديه، فانه سيفشل في تقييم مستوى المخاطرة على نحو دقيق إذا لم تكن المعلومات المتوافرة لدى الطرف الآخر متاحة لديه. ثم أخذت نماذج الحاسوب في تقييم مستويات المخاطرة في الانتشار كبديل عن التقييم البشري المباشر لتلك المخاطر، مما ترتب عليه إساءة تقييم المخاطر المصاحبة لعمليات الإقراض العقاري، وكذلك المخاطر المصاحبة للأوراق المالية التي يتم بيعها وهكذا. وقد ساعدت الحوافز المصاحبة لعمليات إصدار الأوراق المالية على نقص الاهتمام بعمليات تقييم المخاطر، حيث تتوافر القدرة على تحويل المخاطرة المصاحبة لأصل ما إلى طرف أخر، وهو ما قلل من اهتمام المؤسسات المالية بالمخاطر الفعلية المصاحبة لعملياتها المالية طالما أن طرفا آخر يمكن أن يتحمل تلك المخاطرة في النهاية.
ولكن ماذا عن المشترين لتلك المشتقات والذين يتحملون المخاطرة في النهاية، كيف لم يتمكنوا من تقييم المخاطر المصاحبة لتلك المشتقات، الإجابة هي أنهم مثل غيرهم، كانوا مدفوعين بثقافة البالون التي صبغت النظام بأكمله. بينما كان الآخرين مدفوعين بالأرباح الضخمة التي تحققها القروض العقارية من الدرجة الثانية. أكثر من ذلك فان تعقد النظام في ظل هذه الغابة من المشتقات جعل من الكثير من المتعاملين غير قادر على، أو ليس لديه المعلومات الكافية التي تمكنه من، تقييم السندات التي يحتفظون بها.
من ناحية أخرى كان هناك تدهورا خطيرا في شروط الإقراض، بصفة خاصة في عام 2004 أو 2005. فالأسر التي لا يتوافر لها دخل كاف أو مقدم تدفعه للحصول على مسكن، تم تشجيعها على الحصول على قروض عقارية، في كثير من الحالات بنسبة مرتفعة جدا للقرض إلى قيمة المسكن بلغت 100%، ومما لا شك فيه أن مثل هذه القروض تقوم على قيمة أقساط مرتفعة للقروض ومعدلات فائدة مرتفعة، مثل هذه القروض تتعارض بشكل واضح مع القواعد المتعارف عليها حول نسبة دخل المقترض اللازمة لخدمة القرض. وللتغلب على هذه المشكلة تم استخدام القروض العقارية القابلة للتعديل Adjustable Rate Mortgages، والتي كما سبقت الإشارة تبدأ بمدفوعات خدمة منخفضة في البداية، تمكن المقترض من خدمة الدين بسهولة وتمكن مقدم القرض من المضي في منح القرض.
وقد ساعدت السياسة النقدية التوسعية التي سعت إلى تخفيض معدلات الفائدة وتشجيع عمليات الاقتراض لشراء الأصول، على استمرار ارتفاع أسعار الأصول. فخلال الفترة من 2001 لعبت السياسة النقدية دورا في ازدهار أسعار الأصول، حيث ساعدت على زيادة الطلب على المساكن ومن ثم تشجيع المكاسب الناجمة عن تملك المساكن، كذلك حث الكونجرس مؤسستي الإقراض العقاري Fannie Mae و Freddie Macعلى زيادة عمليات شراء المساكن من خلال منح المزيد من القروض العقارية ومد تلك القروض للمقترضين من ذوي الدخول المنخفضة.
وفي عام 1996 وضعت إدارة الإسكان والتنمية الحضرية في الولايات المتحدة هدفا لمؤسستي الإقراض العقاري بأن تخصص 42% من عمليات تمويلها العقاري لكي تذهب إلى مقترضين مستويات دخولهم اقل من الدخل المتوسط في المناطق التي يعيشون فيها، وتم رفع هذا الهدف إلى 60% عام 2008. وقد استطاعت الشركتين تحقيق هذه المستهدفات سنويا من خلال تسهيل تمويل مئات المليارات من الدولارات في صورة قروض، الكثير منها كان في صورة قروض من الدرجة الثانية، أي منحت لمقترضين اشتروا مساكن بمقدمات تقل عن 10% من قيمة المساكن. كذلك اشترت المؤسستين مئات المليارات من الدولارات في صورة أوراق مالية مغطاة بقروض من الدرجة الثانية، وذلك لتوفير التمويل اللازم لاستيفاء المستهدفات الخاصة بتوفير مساكن بتكاليف مناسبة للمشترين. وبهذا الشكل أصبحت مؤسستي الإقراض العقاري Fannie Mae و Freddie Mac مساهمتين أساسيتين في الطلب على السندات المغطاة بالقروض العقارية من الدرجة الثانية Anna J. Schwartz 2008. ومن ثم ساهم توجيه المؤسستين بزيادة جهودهما في مجال رفع مستويات ملكية المساكن بين السكان الفقراء في المساهمة في تغذية فقاعة أسعار المساكن.
3. ضعف عملية تقييم المخاطر
قبل أن تتم عملية بيع الأوراق المالية، فان مؤسسات التصنيف الائتماني تقوم بتقييم احتمال فشل تلك الأوراق، من عدمه. ويعتمد المستثمرون على تلك التصنيفات التي تعطى للأوراق المالية من أجل تحديد مستوى المخاطرة العام لها. وإذا ما تم تقييم الأدوات المالية بدقة فان مؤسسات التصنيف الائتماني تقدم في هذه الحالة تصنيفات غير متحيزة لتلك لأدوات التمويل والاستثمار. وتشير الدلائل المتاحة إلى أن مؤسسات التصنيف الائتماني قد قامت بتقديم تصنيفات متحيزة للأدوات المالية تقلل من مستوى المخاطرة الحقيقية المصاحبة لتلك الأدوات، وهو ما يعنى أن درجة المخاطرة الحقيقية للأصول المالية كانت أعلى بكثير مما يعتقد المشترون لتلك الأصول. وتشير التقارير المتاحة إلى أن التقنيات التي استخدمتها مؤسسات التصنيف أدت إلى تقييم مستويات المخاطرة بصورة اقل من مستوياتها الحقيقية، وبصفة خاصة بالنسبة للقروض العقارية من الدرجة الثانية فان مؤسسات التصنيف الائتماني اعتمدت على وسائل إحصائية وتقنية تستند إلى البيانات التاريخية حول حالات التوقف عن السداد في القروض العقارية.
من ناحية أخرى فانه ومن خلال عملية تخطيط التدفقات النقدية الناجمة عن تلك الديون المرهونة استطاع مطورو تلك الأدوات إقناع وكالات التصنيف الائتماني بأن تمنح أعلى درجات التصنيف للأوراق المالية ذات درجات المخاطرة المرتفعة. ويعني ذلك أن تلك المؤسسات قد أعطت الأدوات المالية تقييما أعلى مما تستحق. واستنادا إلى تلك التصنيفات المعيبة قامت المؤسسات المالية بشراء أدوات مالية ذات مخاطر عالية لم تكن لتقدم على شراءها لو كانت على دراية بمستويات المخاطرة الحقيقية لها، ومن ثم انتشرت خسائر تلك المؤسسات على نحو واسع عندما أخذت أسعار الأصول في التراجع
ويعني ذلك أن تبني الابتكارات المالية في مجال أدوات الاستثمار مثل التوريق، والمشتقات.. بدون أن يعي السوق بطبيعة العيوب التي تعاني منها عمليات تصميم تلك الابتكارات كان له أثر كارثي على الصناعة. بصفة أساسية كان العيب الرئيسي في تلك المشتقات هو صعوبة تحديد أسعارها، فلم يحدد مطوروا تلك الأدوات كيفية تسعيرها، حيث تركت عملية تسعير تلك الأدوات لمؤسسات التصنيف الائتماني. من ناحية أخرى فان مؤسسات التصنيف الائتماني لم تكن تملك آليات محددة لتسعير هذه المخاطر، وبشكل عام أدت عملية التقييم إلى المغالاة في قيمة الأوراق المالية، كما أنها كانت تحكمية إلى حد بعيد. أكثر من ذلك فان هذه الأدوات معقدة إلى الدرجة التي تؤدي إلى صعوبة تقييم مستويات المخاطرة المصاحبة لشرائها، فلا بائع هذه الأدوات ولا مشتريها يفهم بوضوح ودقة طبيعة المخاطرة التي يتحملونها من جراء التعامل في هذه الأدوات.
ومن الواضح أن أدوات الائتمان الجديدة أدت إلى زيادة عمليات تملك المساكن وأدت إلى توزيع مخاطر تلك الأدوات الناجمة عن احتمال التوقف عن السداد، غير أن هذا النظام للابتكارات المالية كان يعاني من نقاط ضعف قاتلة، فطالما أن أسعار المساكن تميل نحو الارتفاع فان النظام يعمل بدون أية مشاكل. غير انه مع انتهاء فورة أسعار المساكن بدأت نقاط ضعف النظام في الظهور على السطح بقوة، حيث توقف الكثير من أصحاب المساكن عن السداد لأنهم قاموا أساسا بشراء مساكن غير قادرين على تحمل تكاليفها، في ظل ارتفاع تكاليف القروض العقارية من الدرجة الثانية، وكما سبق فان الشرط الأساسي لاستمرار مثل هذا النظام من التمويل أن تستمر أسعار المساكن في الارتفاع حني يتمكن ملاك المساكن من إعادة التمويل وتخفيض تكلفة الائتمان، ومع توقف أسعار المساكن عن الارتفاع لم يتمكن الكثير من ملاك المساكن من إعادة التمويل ومن ثم أخذ الكثير من ملاك المساكن في التوقف عن السداد، وعندما أدركت بنوك الاستثمار أعداد المساكن التي توقف مالكوها عن السداد قد أخذت في الارتفاع توقفت فورا عن إصدار أي تسهيلات ائتمانية جديدة، وتوقفت بالتالي عمليات إصدار القروض العقارية من الدرجة الثانية، وحدث انخفاض حاد في القروض الجديدة هو ما أدى إلى انخفاض الطلب على المساكن الحديدة، ومن ثم أخذت عمليات إفلاس المؤسسات المالية في التزايد، وبدأ القطاع المالي في الولايات المتحدة في الانهيار وأخذت سلسلة حلقات الأزمة تنفض واحدة تلو الأخرى.
هذه هي باختصار الجذور الأولى للازمة المالية التي يعاني منها العالم اليوم. في الحلقة القادمة نتناول مسار الأزمة المالية وكيف شبت الأزمة في النظام المالي وتطورت إلى الحد الذي هددت فيه بالإطاحة بالاقتصاد الأمريكي برمته.
ساعد على ازدهار تلك الابتكارات المالية مناخ السياسة النقدية المتساهل للاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وضعف بنية رقابة الاحتياطي الفيدرالي على القطاع المالي. وقد ساعدت معدلات الفائدة المنخفضة مع ضعف الرقابة المؤسسات المالية على اقتراض المزيد من الأموال مما أدى إلى رفع قدراتهم المالية على تمويل مشترياتهم من الأوراق المالية المرتبطة بالقروض العقارية. كذلك بدأت البنوك في إدخال ما يعرف بقيود خارج الميزانية Off-balance Sheet لتسجيل عمليات شراء الأصول المرتبطة بالتمويل العقاري والتي لم تكن تخضع للقيود الرقابية، كذلك لجأت المؤسسات المالية إلى الاقتراض قصير الأجل المرهون، مثل اتفاقيات إعادة الشراء، كما انتشر في النظام المالي بأكمله فشل في عملية تقييم المخاطر المصاحبة لعمليات الإقراض، أكثر من ذلك انتشرت مشكلة لا تماثل المعلومات Asymmetric information، حيث يكون لدى احد الأطراف في المعاملة المالية معلومات أكثر من الطرف الآخر، وفي مثل هذه الحالات عندما يقوم طرف بتقييم المخاطرة المصاحبة للتعامل مع الطرف الآخر استنادا إلى المعلومات المتاحة لديه، فانه سيفشل في تقييم مستوى المخاطرة على نحو دقيق إذا لم تكن المعلومات المتوافرة لدى الطرف الآخر متاحة لديه. ثم أخذت نماذج الحاسوب في تقييم مستويات المخاطرة في الانتشار كبديل عن التقييم البشري المباشر لتلك المخاطر، مما ترتب عليه إساءة تقييم المخاطر المصاحبة لعمليات الإقراض العقاري، وكذلك المخاطر المصاحبة للأوراق المالية التي يتم بيعها وهكذا. وقد ساعدت الحوافز المصاحبة لعمليات إصدار الأوراق المالية على نقص الاهتمام بعمليات تقييم المخاطر، حيث تتوافر القدرة على تحويل المخاطرة المصاحبة لأصل ما إلى طرف أخر، وهو ما قلل من اهتمام المؤسسات المالية بالمخاطر الفعلية المصاحبة لعملياتها المالية طالما أن طرفا آخر يمكن أن يتحمل تلك المخاطرة في النهاية.
ولكن ماذا عن المشترين لتلك المشتقات والذين يتحملون المخاطرة في النهاية، كيف لم يتمكنوا من تقييم المخاطر المصاحبة لتلك المشتقات، الإجابة هي أنهم مثل غيرهم، كانوا مدفوعين بثقافة البالون التي صبغت النظام بأكمله. بينما كان الآخرين مدفوعين بالأرباح الضخمة التي تحققها القروض العقارية من الدرجة الثانية. أكثر من ذلك فان تعقد النظام في ظل هذه الغابة من المشتقات جعل من الكثير من المتعاملين غير قادر على، أو ليس لديه المعلومات الكافية التي تمكنه من، تقييم السندات التي يحتفظون بها.
من ناحية أخرى كان هناك تدهورا خطيرا في شروط الإقراض، بصفة خاصة في عام 2004 أو 2005. فالأسر التي لا يتوافر لها دخل كاف أو مقدم تدفعه للحصول على مسكن، تم تشجيعها على الحصول على قروض عقارية، في كثير من الحالات بنسبة مرتفعة جدا للقرض إلى قيمة المسكن بلغت 100%، ومما لا شك فيه أن مثل هذه القروض تقوم على قيمة أقساط مرتفعة للقروض ومعدلات فائدة مرتفعة، مثل هذه القروض تتعارض بشكل واضح مع القواعد المتعارف عليها حول نسبة دخل المقترض اللازمة لخدمة القرض. وللتغلب على هذه المشكلة تم استخدام القروض العقارية القابلة للتعديل Adjustable Rate Mortgages، والتي كما سبقت الإشارة تبدأ بمدفوعات خدمة منخفضة في البداية، تمكن المقترض من خدمة الدين بسهولة وتمكن مقدم القرض من المضي في منح القرض.
وقد ساعدت السياسة النقدية التوسعية التي سعت إلى تخفيض معدلات الفائدة وتشجيع عمليات الاقتراض لشراء الأصول، على استمرار ارتفاع أسعار الأصول. فخلال الفترة من 2001 لعبت السياسة النقدية دورا في ازدهار أسعار الأصول، حيث ساعدت على زيادة الطلب على المساكن ومن ثم تشجيع المكاسب الناجمة عن تملك المساكن، كذلك حث الكونجرس مؤسستي الإقراض العقاري Fannie Mae و Freddie Macعلى زيادة عمليات شراء المساكن من خلال منح المزيد من القروض العقارية ومد تلك القروض للمقترضين من ذوي الدخول المنخفضة.
وفي عام 1996 وضعت إدارة الإسكان والتنمية الحضرية في الولايات المتحدة هدفا لمؤسستي الإقراض العقاري بأن تخصص 42% من عمليات تمويلها العقاري لكي تذهب إلى مقترضين مستويات دخولهم اقل من الدخل المتوسط في المناطق التي يعيشون فيها، وتم رفع هذا الهدف إلى 60% عام 2008. وقد استطاعت الشركتين تحقيق هذه المستهدفات سنويا من خلال تسهيل تمويل مئات المليارات من الدولارات في صورة قروض، الكثير منها كان في صورة قروض من الدرجة الثانية، أي منحت لمقترضين اشتروا مساكن بمقدمات تقل عن 10% من قيمة المساكن. كذلك اشترت المؤسستين مئات المليارات من الدولارات في صورة أوراق مالية مغطاة بقروض من الدرجة الثانية، وذلك لتوفير التمويل اللازم لاستيفاء المستهدفات الخاصة بتوفير مساكن بتكاليف مناسبة للمشترين. وبهذا الشكل أصبحت مؤسستي الإقراض العقاري Fannie Mae و Freddie Mac مساهمتين أساسيتين في الطلب على السندات المغطاة بالقروض العقارية من الدرجة الثانية Anna J. Schwartz 2008. ومن ثم ساهم توجيه المؤسستين بزيادة جهودهما في مجال رفع مستويات ملكية المساكن بين السكان الفقراء في المساهمة في تغذية فقاعة أسعار المساكن.
3. ضعف عملية تقييم المخاطر
قبل أن تتم عملية بيع الأوراق المالية، فان مؤسسات التصنيف الائتماني تقوم بتقييم احتمال فشل تلك الأوراق، من عدمه. ويعتمد المستثمرون على تلك التصنيفات التي تعطى للأوراق المالية من أجل تحديد مستوى المخاطرة العام لها. وإذا ما تم تقييم الأدوات المالية بدقة فان مؤسسات التصنيف الائتماني تقدم في هذه الحالة تصنيفات غير متحيزة لتلك لأدوات التمويل والاستثمار. وتشير الدلائل المتاحة إلى أن مؤسسات التصنيف الائتماني قد قامت بتقديم تصنيفات متحيزة للأدوات المالية تقلل من مستوى المخاطرة الحقيقية المصاحبة لتلك الأدوات، وهو ما يعنى أن درجة المخاطرة الحقيقية للأصول المالية كانت أعلى بكثير مما يعتقد المشترون لتلك الأصول. وتشير التقارير المتاحة إلى أن التقنيات التي استخدمتها مؤسسات التصنيف أدت إلى تقييم مستويات المخاطرة بصورة اقل من مستوياتها الحقيقية، وبصفة خاصة بالنسبة للقروض العقارية من الدرجة الثانية فان مؤسسات التصنيف الائتماني اعتمدت على وسائل إحصائية وتقنية تستند إلى البيانات التاريخية حول حالات التوقف عن السداد في القروض العقارية.
من ناحية أخرى فانه ومن خلال عملية تخطيط التدفقات النقدية الناجمة عن تلك الديون المرهونة استطاع مطورو تلك الأدوات إقناع وكالات التصنيف الائتماني بأن تمنح أعلى درجات التصنيف للأوراق المالية ذات درجات المخاطرة المرتفعة. ويعني ذلك أن تلك المؤسسات قد أعطت الأدوات المالية تقييما أعلى مما تستحق. واستنادا إلى تلك التصنيفات المعيبة قامت المؤسسات المالية بشراء أدوات مالية ذات مخاطر عالية لم تكن لتقدم على شراءها لو كانت على دراية بمستويات المخاطرة الحقيقية لها، ومن ثم انتشرت خسائر تلك المؤسسات على نحو واسع عندما أخذت أسعار الأصول في التراجع
ويعني ذلك أن تبني الابتكارات المالية في مجال أدوات الاستثمار مثل التوريق، والمشتقات.. بدون أن يعي السوق بطبيعة العيوب التي تعاني منها عمليات تصميم تلك الابتكارات كان له أثر كارثي على الصناعة. بصفة أساسية كان العيب الرئيسي في تلك المشتقات هو صعوبة تحديد أسعارها، فلم يحدد مطوروا تلك الأدوات كيفية تسعيرها، حيث تركت عملية تسعير تلك الأدوات لمؤسسات التصنيف الائتماني. من ناحية أخرى فان مؤسسات التصنيف الائتماني لم تكن تملك آليات محددة لتسعير هذه المخاطر، وبشكل عام أدت عملية التقييم إلى المغالاة في قيمة الأوراق المالية، كما أنها كانت تحكمية إلى حد بعيد. أكثر من ذلك فان هذه الأدوات معقدة إلى الدرجة التي تؤدي إلى صعوبة تقييم مستويات المخاطرة المصاحبة لشرائها، فلا بائع هذه الأدوات ولا مشتريها يفهم بوضوح ودقة طبيعة المخاطرة التي يتحملونها من جراء التعامل في هذه الأدوات.
ومن الواضح أن أدوات الائتمان الجديدة أدت إلى زيادة عمليات تملك المساكن وأدت إلى توزيع مخاطر تلك الأدوات الناجمة عن احتمال التوقف عن السداد، غير أن هذا النظام للابتكارات المالية كان يعاني من نقاط ضعف قاتلة، فطالما أن أسعار المساكن تميل نحو الارتفاع فان النظام يعمل بدون أية مشاكل. غير انه مع انتهاء فورة أسعار المساكن بدأت نقاط ضعف النظام في الظهور على السطح بقوة، حيث توقف الكثير من أصحاب المساكن عن السداد لأنهم قاموا أساسا بشراء مساكن غير قادرين على تحمل تكاليفها، في ظل ارتفاع تكاليف القروض العقارية من الدرجة الثانية، وكما سبق فان الشرط الأساسي لاستمرار مثل هذا النظام من التمويل أن تستمر أسعار المساكن في الارتفاع حني يتمكن ملاك المساكن من إعادة التمويل وتخفيض تكلفة الائتمان، ومع توقف أسعار المساكن عن الارتفاع لم يتمكن الكثير من ملاك المساكن من إعادة التمويل ومن ثم أخذ الكثير من ملاك المساكن في التوقف عن السداد، وعندما أدركت بنوك الاستثمار أعداد المساكن التي توقف مالكوها عن السداد قد أخذت في الارتفاع توقفت فورا عن إصدار أي تسهيلات ائتمانية جديدة، وتوقفت بالتالي عمليات إصدار القروض العقارية من الدرجة الثانية، وحدث انخفاض حاد في القروض الجديدة هو ما أدى إلى انخفاض الطلب على المساكن الحديدة، ومن ثم أخذت عمليات إفلاس المؤسسات المالية في التزايد، وبدأ القطاع المالي في الولايات المتحدة في الانهيار وأخذت سلسلة حلقات الأزمة تنفض واحدة تلو الأخرى.
هذه هي باختصار الجذور الأولى للازمة المالية التي يعاني منها العالم اليوم. في الحلقة القادمة نتناول مسار الأزمة المالية وكيف شبت الأزمة في النظام المالي وتطورت إلى الحد الذي هددت فيه بالإطاحة بالاقتصاد الأمريكي برمته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق