يعيش العالم حاليا أزمة طاحنة بدأت بوادرها في صورة اضطراب للقطاع المالي في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم امتدت آثار تلك الأزمة بعد ذلك لتطال النظم المالية لدول العالم كافة بسبب الترابط الشديد بين النظم المالية لدول العالم المختلفة في ظل مناخ العولمة المدعوم بثورة الاتصالات التي يشهدها العالم اليوم. كذلك فقد امتدت آثار الأزمة من القطاع المالي إلى القطاع الحقيقي من الاقتصاد العالمي، وأصبح العالم مهدد حاليا بضغوط انكماشية حادة وارتفاع في معدلات البطالة وارتفاع في مستويات الفقر، وانخفاض في تدفقات التجارة الدولية، وتدهور في معدلات النمو على النطاق العالمي بشكل عام. الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم مدى ما ستسفر عنه الأزمة الحالية، حيث لا يستطيع كائنا من كان حاليا أن يتنبأ بمتى تنتهي الأزمة، أو كيف ستنتهي، أو بما سوف تنتهي عليه الأزمة. وعلى الرغم من أن هناك محاولات من قبل بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتنبؤ بالمدى الزمني الذي سوف تستمر طواله الأزمة، وبمعدلات النمو المتوقع خلال ذلك المدى الزمني، إلا أن تلك التنبؤات تتم في إطار نماذج اقتصادية كلية، يصعب فيها التنبؤ بآثار الأزمة أو المدى الزمني لها فضلا عن عدم قدرتها على الإحاطة بتأثير الكثير من المتغيرات من الناحية الواقعية. ولذلك نلاحظ تضارب التنبؤات بين المؤسسات المختلفة حول آثار الأزمة في المستقبل، فضلا عن أن تلك المؤسسات أصبحت تقوم من وقت لآخر بتعديل تنبؤاتها عن آثار الأزمة في ضوء المستجدات من المعلومات والآثار على المستوى الدولي نظرا لصعوبة التنبؤ بمسار وانعكاسات الأزمة في المستقبل بدقة.
في هذه السلسلة من المقالات نحاول فهم الأزمة المالية العالمية والأبعاد المختلفة لها من خلال التعرف على جذور الأزمة، ثم مسار تلك الأزمة وكيف شبت الأزمة في النظام المالي، ثم نقوم تحليل كيفية التعاطي مع الأزمة من قبل كافة دول العالم وتقييم الحلول المقدمة لمعالجة الأزمة، ثم تحليل التداعيات المختلفة للازمة على كل من الولايات المتحدة والدول الصناعية والاقتصاديات الناشئة والدول النامية، ودول مجلس التعاون على وجه الخصوص، وأخيرا نتناول بالتحليل الدروس المستفادة من الأزمة وكيف يمكن تجنب تكرار مثل هذه الأزمة على هذا النطاق.
كيف نشأت الأزمة
ببساطة شديدة نشأت الأزمة المالية من نظام مالي غير منضبط، تحدث فيه ابتكارات ماليةFinancial Innovations هدفها الأساسي هو زيادة حجم الاستثمارات المالية ومن ثم أصول المؤسسات المالية بدون حدود، بما في ذلك حدود قيود المخاطرة، ولم تخل تلك الابتكارات من اعتبارات المصلحة الخاصة والتي تمثلت في أن مديري المؤسسات المالية على اختلاف أنواعها يحصلون على نصيب من هذا التضخم في الأصول في صورة نسبة مئوية على شكل مكافآت إضافية أو Bonus. وعلى الرغم من أن تبني نظم المكافآت الإضافية كان يستهدف معالجة مشكلة التعارض بين المصالح الخاصة للمديرين وأصحاب المال في المؤسسات المختلفة، وهو ما يعرف علميا بمشكلة ألـ Principal Agent Problem، أي تعارض مصالح أصحاب المال (Principal) مع مصالح المديرين (Agent). إلا أن النمو الحادث في أصول القطاع المالي في الولايات المتحدة على وجه الخصوص فاق كافة الحدود المتعلقة بمعدلات نمو أي قطاع من قطاعات الاقتصاد الحقيقي. ونتيجة لهذا النمو الهائل في هذا القطاع حدثت فجوات هائلة بين عوائد ومرتبات ومكافآت القائمين على القطاع المالي وغيرهم من القائمين على قطاعات الاقتصاد الحقيقي الأخرى. أكثر من ذلك فان القطاع المالي في الولايات المتحدة الأمريكية كان يضيف سنويا مئات المليارات من الدولارات إلى الناتج المحلي الإجمالي متفوقا في ذلك على كافة القطاعات الأخرى في الاقتصاد. وتشير الشواهد إلى أنه من المؤكد أن قادة صناعة المال لم يحصلوا على تلك الملايين بطريقة صحيحة، وان الأرباح الضخمة التي حققتها الكثير من المؤسسات المالية كانت أقرب من أن تكون وهمية.
في مقال له بعنوان "اقتصاد مادوف" يشبه بول كروجمان عالم الاقتصاد المشهور والحاصل على جائزة نوبل، قصة مادوف الذي استولى على حوالي 50 مليار دولار من عدد من المؤسسات المالية الأمريكية وغير الأمريكية، بما حدث في صناعة الاستثمار المالي في الولايات المتحدة. حيث نمت صناعة الخدمات المالية الأمريكية على نحو جعل قادة هذا القطاع أثرياء على نحو فاحش. وإذا كان مادوف قد استطاع من خلال التحايل الحصول على 50 مليار دولار، فان صناعة الاستثمار المالي حاليا لم تضف إلى الناتج المحلي، بقدر ما أدت إلى تدمير قيمة الأصول وليس زيادتها، بحيث لا يمكن التفرقة بين ما فعله مادوف على المستوى الشخصي وما فعلته صناعة المال على المستوى الكلي من خلق أصول مالية ذات عوائد مالية مرتفعة، ولكن بمستويات مخاطرة مرتفعة لا يفهمها أحد.
وبشكل عام تعود النقطة الأصلية للازمة إلى قطاع العقار الأمريكي، وبالتحديد قطاع السكن الخاص، والذي واجه طلبا حادا على المساكن مدفوعا بابتكارات مالية مكنت الملايين من تملك مساكن خاصة ودفعت بأسعار المساكن نحو الارتفاع إلى مستويات فلكية مكونة بذلك ما عرف بفقاعة أسعار المساكن.
فقاعة أسعار المساكن
مع زيادة الطلب على المساكن وارتفاع الأسعار تبعا لذلك، تهيأت كافة العوامل لتكوين فقاعة أسعار المساكن والتي بلغت مستويات حرجة أدت إلى انفجارها مع تراجع أسعار المساكن وتوقفها عن الارتفاع. وترجع جذور الأزمة إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي مع الارتفاع الحادث في سوق العقارات، حيث أخذت أسعار المساكن في الارتفاع بصورة كبيرة من عام لآخر، لدرجة أن النمو في سعر المساكن أصبح يمثل الجانب الأكبر من ثروة الفرد الأمريكي، ولم تتماشى هذه الزيادات في الأسعار مع أسس التحليل الجوهري لتلك الأشكال من الاستثمار، مثل العلاقة بين الارتفاع في أسعار المساكن والنمو في دخول المستهلكين، أو العلاقة بين أسعار المسكن والإيراد الذي يولده المسكن. وقد ترتب على النمو السنوي في أسعار المساكن تكون فقاعة لأسعار المساكن أخذت في الانتفاخ عاما بعد آخر مع النمو الحادث في أسعار المساكن. الغريب في الأمر انه مع نمو أسعار المساكن لم يكن احد يتوقع أن فقاعة المساكن سوف تنفجر، بل على العكس كانت توقعات الأفراد دائما هي أن أسعار المساكن لا بد في صعود مستمر، ربما إلى ما لا نهاية، وهي احد المسلمات الناجمة عن النمو المستمر في أسعار المساكن خلال تلك الفترة. ويوضح الشكل رقم (1) الرقم القياسي لأسعار المساكن خلال الفترة من 1950 – 2007 في الولايات المتحدة. حيث تشير البيانات الحكومية إلى أن الأسعار الحقيقية للمساكن بعد تعديلها بمعدل التضخم خلال المدة من 1953- 1995 لم تتغير. وبحلول عام 2002 كانت أسعار المساكن قد ارتفعت بحوالي 30% بعد التعديل بالتضخم. ومن الشكل يتضح الزيادة الهائلة التي حدثت في أسعار المساكن بدءا من بداية العقد الأول لهذا القرن حتى عام 2007، حيث ارتفع الرقم القياسي لأسعار المساكن بمعدلات غير مسبوقة بعد عام 2000.
الشكل رقم (1)
الرقم القياسي لأسعار المساكن في الولايات المتحدة (عام 1953 = 100)
ومن الواضح أن هذا النمو الكبير في الطلب على المساكن في الولايات المتحدة الأمريكية قد حث نتيجة لعدة عوامل تقف وراء هذه الزيادة، غير انه وبشكل عام هناك 3 عوامل أساسية مسئولة عن هذا الارتفاع في أسعار المساكن:
السبب الأول: توقعات الأسعار، حيث أن ارتفاع أسعار المساكن يؤدي إلى تغذية التوقعات حول استمرار ارتفاع الأسعار في المستقبل، وهو ما يؤدي إلى تخفيض التكلفة الفعلية لتملك أي مسكن. ذلك أن التكلفة الحقيقية لتمويل المسكن في هذه الحالة لا بد وان يطرح منها الزيادة الرأسمالية في قيمة المسكن والتي ترتفع بمعدلات تفوق تكاليف التمويل، مثل هذه الأوضاع تؤدي إلى شيوع ثقافة الشراء بين الأسر اعتقادا منها أن الارتفاع المستمر في أسعار المساكن هو مسألة مفروغ منها وأنها احد مسلمات الاستثمار العقاري.
السبب الثاني: ارتفاع مستويات دخول الأفراد، وذلك بفعل معدلات النمو الحقيقي التي حققها الاقتصاد الأمريكي خلال العقدين الماضيين. فمع ميل متوسط نصيب الفرد من الناتج نحو الارتفاع من الناحية الحقيقية، ترتفع قدرة الأسر على تحمل تكاليف الاقتراض لتمويل المساكن، ومن ثم يرتفع الطلب على المساكن نتيجة لذلك. غير انه تنبغي الإشارة إلى أن النمو في أسعار المساكن قبل الأزمة الحالية قد فاق النمو الحادث في الدخول الحقيقية، لأسباب إضافية مرتبطة بالتطورات التي حدثت في مجال صناعة المال على النحو الذي سيرد ذكره.
السبب الثالث: انخفاض معدلات الفائدة الحقيقية، فمع ميل معدلات الفائدة الحقيقية نحو الانخفاض، مقارنة بسلوكها طويل الأمد قبل الأزمة، تميل تكلفة تمويل المساكن نحو الانخفاض، وهو ما ساعد على تغذية الطلب على الاقتراض العقاري ومن ثم تغذية الطلب على المساكن. ولكي تقوم الشركات المالية بزيادة معدلات أرباحها استغلت تلك الشركات انخفاض معدلات الفائدة واقترضت بشكل مكثف لكي تعيد استثمار كل تلك القروض. وفي الكثير من الحالات قامت تلك الشركات بالاقتراض وإعادة الاستثمار في السندات المغطاة بالقروض العقارية ذات معدلات العائد المرتفع. وعندما أخذت قيمة الأصول التي تغطي تلك السندات في التراجع لم يكن لدى تلك الشركات رأس مال كاف في ميزانياتها، لدرجة تحول الكثير من الشركات إلى شركات متعثرة، مثلما حدث لـ Lehman Brothers و Bear Stearns.
باختصار شهدت الفترة ما قبل الأزمة نموا كبيرا في الطلب على المساكن في الولايات المتحدة، كما يتضح من الشكل رقم (2) حيث نمت مبيعات المساكن الجديد في الولايات المتحدة بشكل متواصل بلغ أقصى مستوياته عام 2005. وعلى الرغم من ميل مبيعات المساكن الجديدة نحو الانخفاض في عام 2006، إلا أن متوسط المبيعات خلال الفترة من بداية الألفية الثالثة حتى 2006 كان أعلى بكثير من متوسط المبيعات قبل عام 1995.
الشكل رقم (2)
مبيعات المساكن الجديدة في الولايات المتحدة بالألف
من ناحية أخرى فان مبيعات المساكن القديمة قد شهدت نموا كبيرا هي الأخرى خلال الفترة كما هو موضح بالشكل رقم (3).
الشكل رقم (3)
مبيعات المساكن القائمة في الولايات المتحدة بالألف
ومن الطبيعي ان ينعكس هذه الطلب المتزايد على المساكن في على نمو صناعة البناء والتي أخذت في الانتعاش مع بداية هذا القرن، حيث يوضح رقم (4) عمليات بناء المساكن الجديدة في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس جانب العرض للمساكن الجديدة في الولايات المتحدة. ويعني ذلك أن النمو الحادث في الطلب المساكن كان مصحوبا أيضا بنمو في جانب العرض، ومن ثم انتعاش لقطاع البناء. ومما لا شك فيه أن هذا النمو لم يكن ممكنا إلا إذا توافرت فرص التمويل الكاف والمنخفض التكاليف.
الشكل رقم (4)
عمليات بناء المساكن الجديدة في الولايات المتحدة
مشكور يا دكتور
ردحذفهذه المدونة عبارة عن كنز من المعلومات، اشكرك جزيل الشكر