منذ أن بدأت الأزمة المالية العالمية والمتتبع لاتجاهات المتغيرات النقدية الأساسية في دولة الكويت يلاحظ أن السياسة النقدية تتجه نحو منحى انكماشي، وشهرا وراء الآخر تتراكم البيانات، حتى أضحى من الواضح أن السياسة النقدية المتبعة حاليا في الكويت لا تساعد على تخفيف الضغوط الانكماشية التي يعاني منها الاقتصاد.
يقصد بالسياسة النقدية استخدام البنك المركزي لأدوات مختلفة بهدف التحكم في عرض النقود للتأثير على معدلات الفائدة، ومن ثم تحفيز أو الحد من مستويات الإنفاق الكلي في الاقتصاد المحلي. ويطلق على السياسة النقدية التوسعية عبارة "النقود السهلة أو منخفضة التكاليف Easy Money" حيث يقوم البنك المركزي بالعمل على زيادة عرض النقود من خلال أدوات السياسة النقدية المختلفة، بحيث ينخفض معدل الفائدة، أو سعر الائتمان، مما يسهل من عملية الحصول على الائتمان اللازم لتمويل أوجه الإنفاق المختلفة، فيميل الإنفاق الكلي نحو التزايد. أما السياسة النقدية الانكماشية، فيطلق عليها عبارة "النقود المكلفة Tight Money"، حيث يقوم البنك المركزي في هذه الحالة بالعمل على الحد من النمو في عرض النقود أو تخفيضه بحيث تأخذ معدلات الفائدة، في التزايد مما يجعل من عملية الحصول على الائتمان اللازم لتمويل أوجه الإنفاق المختلفة عملية مكلفة، فيميل الإنفاق الكلي نحو التراجع، من ناحية أخرى فان ارتفاع معدلات الفائدة يؤدي إلى تحفيز مستويات الادخار ومن ثم يميل الجمهور إلى إنفاق قدر اقل رغبة في زيادة الادخار. غير أن هناك حدودا دنيا على تخفيض معدلات الفائدة، إذ لا يمكن أن تنخفض معدلات الفائدة إلى مستويات أقل من الصفر، ومن ثم يمثل الصفر قاع معدلات الفائدة. وعندما يصل معدل الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر فإن ذلك يعني أن سيطرة السلطات النقدية على اتجاهات النشاط الاقتصادي تكون قد قاربت على الانتهاء، ولا بد من البحث عن أدوات أخرى غير تقليدية منها التيسير الكمي.
وتتمثل مستهدفات بنك الكويت المركزي فيما يتعلق بمعدل الصرف في تعزيز الاستقرار النسبي للدينار الكويتي في مقابل العملات الأخرى، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، وذلك بهدف حماية الاقتصاد الوطني من التضخم المستورد، ويعني ذلك أن البنك المركزي سيحافظ دائما على فروق معدلات الفائدة على الدينار الكويتي والدولار الأمريكي عند حدود معينة لضمان هذا الاستقرار النسبي. وفيما يلي نحاول تحليل اتجاهات المتغيرات النقدية الأساسية في دولة الكويت.
معدل الخصم
معدل الخصم هو سعر الفائدة على القروض التي يمنحها البنك المركزي للبنوك التجارية، وفي معظم الدول يعد معدل الخصم هو سعر الفائدة الأساسي، أي المعدل الذي يتحدد بناءا عليه هيكل معدلات الفائدة الأخرى. ولذلك تعد معدلات الخصم أحد المؤشرات الدالة على اتجاه السياسة النقدية، فإذا كان المعدل مرتفعا فإن ذلك يعني أن البنك المركزي يتبع سياسة نقدية متشددة، وإذا كان ذلك المعدل منخفضا، فان ذلك يعني أن البنك المركزي يميل إلى إتباع سياسة نقدية متساهلة. وغالبا ما يكون البنك المركزي حريصا عند الإعلان عن أي تغيرات في معدل الخصم لكي لا يغذي التوقعات المستقبلية حول اتجاهات النشاط الاقتصادي.
ويوضح الشكل رقم (1) تطور معدل الخصم في الكويت مقارنة بمعدل الخصم لدى الاحتياطي الفدرالي منذ عام 2006، ومن الشكل يتضح أن معدل الخصم في الكويت ظل، وما زال، عند مستويات مرتفعة، مقارنة بمعدل الخصم في الولايات المتحدة، والذي مال في الأخيرة إلى مستويات دنيا في ظل مناخ الأزمة. ومنذ أن بدأت الأزمة تعددت الملاحظات بأن معدل الخصم في الكويت يبدو مرتفعا، إلا أن البنك المركزي استمر في الحفاظ على هذا المعدل عند مستويات مرتفعة مقارنة بمستواه في الولايات المتحدة. وقد استجاب يوم الأربعاء الماضي 13/5/2009 البنك المركزي بتخفيض معدل الخصم بواقع 50 نقطة، لتصل معدلات الخصم حاليا إلى 3%، ومع ذلك، وأخذا في الاعتبار أن معدل الخصم لدى الاحتياطي الفدرالي يصل إلى 0.05% حاليا، فان معدل الخصم في الكويت يبلغ حاليا ستة أضعاف مستوياته في الولايات المتحدة.
الأساس النقدي
يتمثل الأساس النقدي في مجموع النقود السائلة لدى الجمهور (أي خارج البنوك)، واحتياطيات البنوك من السيولة. ويطلق عليه الأساس النقدي لأنه يمثل أساس أي مقياس لعرض النقود، فعرض النقود بشكل عام هو الأساس النقدي مضروبا في المضاعف المناسب لعرض النقود. على سبيل المثال فان عرض النقود رقم (1) هو الأساس النقدي مضروبا في مضاعف عرض النقود رقم (1) وهكذا. وعندما يميل الأساس النقدي نحو الانخفاض فان عرض النقود يميل نحو الانخفاض بشكل عام. وقد اتجهت دول العالم حاليا نحو زيادة الأساس النقدي كسلاح غير تقليدي لمعالجة الأزمة وهو ما يعرف حاليا بـ "التيسير الكمي"، فعندما يصل معدل الفائدة إلى الصفر يمكن للبنك المركزي التأثير على سعر الائتمان من خلال عمليات التيسير الكمي، وعندما يصل الإصدار الجديد إلى البنوك في صورة مودعات، فان مستويات السيولة لدى البنوك تتحسن ومن ثم تجد نفسها أكثر رغبة في الإقراض. ولكي تحقق عملية التيسير الكمي أهدافها لابد وان تكون معدلات الإصدار الجديد مرتفعة لكي تحدث التأثير المطلوب على هيكل معدلات الفائدة.
ويتضح من الشكل رقم (3) أن الأساس النقدي قد انخفض في الكويت بشكل عام من 915 م د في شهر سبتمبر 2008 إلى 861 م د في شهر مارس 2009. ونتيجة لذلك مال معدل النمو في عرض النقود رقم (1) نحو الانخفاض كما هو موضح في الشكل (4). أما عرض النقود رقم (2)، فقد اتسمت معدلات النمو فيه نحو التقلب الشديد بصفة خاصة بدءا من أغسطس 2008 (انظر الشكل رقم 5)وترجع هذه التقلبات أساسا حسبما هو واضح من نشرات البنك المركزي إلى التغيرات في الودائع الحكومية والتغيرات في الاحتياطيات الأجنبية.
الشكل رقم (4) النمو في عرض النقود رقم (1)
ومع انكماش الأساس النقدي وعرض النقود بشكل عام ظلت مستويات الفائدة في الكويت مرتفعة مقارنة بتلك السائدة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال يوضح الشكل رقم (6) معدل الفائدة على القروض ما بين البنوك لمدة ليلة واحدة في الكويت والولايات المتحدة. ويطلق على معدل الفائدة على قروض ما بين البنوك لمدة ليلة واحدة في الولايات المتحدة الـ Federal Funds Rate، وهو يمثل معدل الفائدة الأساسي، والذي تعمل أدوات السياسة النقدية على استهدافه، بصفة خاصة من خلال عمليات السوق المفتوح. ففي الأوقات التي يرغب فيها الاحتياطي الفدرالي تحفيز مستويات الطلب الكلي، فانه يقوم بالعمل على زيادة حجم الاحتياطيات لدى البنوك، مما يؤدي إلى انخفاض معدل الفائدة بين البنوك لمدة ليلة، يعقب ذلك انخفاض في هيكل معدلات الفائدة قصيرة الأجل، ومن ثم طويلة الأجل، الأمر الذي يؤثر على مستويات الإنفاق الكلي بالارتفاع. والعكس في حالة رغبة الاحتياطي الفدرالي في تهبيط مستوى النشاط الاقتصادي. ومن الواضح من الشكل ميل معدل الفائدة على قروض ما بين البنوك لمدة ليلة واحدة في الكويت إلى أن يرتفع عن مستوياته السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية بدءا من انطلاق الأزمة في أغسطس 2008.
ونتيجة لاستمرار معدلات الفائدة الأساسية مرتفعة في دولة الكويت، مالت معدلات نمو الائتمان الممنوح للقطاع الخاص نحو التراجع بشكل عام، كما يتضح من الشكل رقم (7). وتنبغي الإشارة إلى انه في ظل ظروف الأزمة تعزف المؤسسات المالية عن الإقراض نظرا لارتفاع مستويات المخاطرة، وكذلك يقل الطلب على الائتمان من قبل المقترضين بسبب حالة التوقعات التشاؤمية، وهو ما يتطلب تكاتف كل من السياستين النقدية بأدواتها، حسب ما تم الإشارة إليه لاحقا، والسياسة المالية، من خلال برنامج مكثف للتحفيز المالي، بهدف تنشيط مستويات الإنفاق ودعم التوقعات التفاؤلية حول مستويات النشاط الاقتصادي والنمو في المستقبل.
من الواضح أن كافة المؤشرات السابقة تشير إلى أن السياسة النقدية الحالية قد لا تبدو مناسبة في ظل أوضاع الأزمة المالية التي انعكست آثارها بشكل سيئ على الأداء الاقتصادي الكلي، وبصفة خاصة على القطاع المالي، حيث تؤدي إلى تغذية الضغوط الانكماشية. فإذا كانت السياسة النقدية الحالية تغذي الضغوط الانكماشية، وأن السياسة المالية، كما اتضح من مشروع الميزانية العامة للدولة 2009/2010، انكماشية هي الأخرى، فإننا بهذا الشكل نكون قد احكمنا الخناق حول رقبة الاقتصاد المحلي ليغرق في دائرة الكساد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق