الاثنين، مايو ٠٤، ٢٠٠٩

أنفلونزا الخنازير: الصدمة العالمية المزدوجة


تمثل الأوبئة والآفات ما يعرف في علم اقتصاديات السكان بعناصر التحكم الطبيعي في حجم السكان على سطح الأرض، أي أنه عندما يزيد حجم السكان بالنسبة لموارد الأرض، يأتي وباء لينتشر بين سكان الكرة الأرضية ويحصد أرواح الملايين من البشر بحيث ينخفض حجم السكان مرة أخرى ليتوافق مع الموارد المتاحة على سطح الأرض. أو تنتشر آفة ما تؤدي إلى نقص عرض الغذاء ومن ثم انتشار المجاعة بين البشر بحيث ينخفض عددهم إلى مستوى التوازن الطبيعي، وقديما مثل الطاعون العدو الرئيسي للإنسان، وعنصر التحكم الأساسي في حجم البشر على سطح الأرض، بحيث حدث نوع من التوازن بين نمو البشر ونمو الموارد الطبيعية على سطح الأرض عبر العصور. غير أن سيطرة الإنسان حديثا على الأوبئة، وبصفة خاصة الطاعون، الذي تم إلغاؤه من قائمة الأوبئة التي تهدد البشر، قد أدى إلى التقليل من أثر عوامل التحكم الطبيعي على حجم البشر على سطح الأرض وهو ما سمح لعدد السكان في العالم بأن يتزايد إلى ما يقارب 7 مليار نسمة حاليا، بحيث أصبح يهدد التوازن المطلوب بين البشر وموارد الأرض.


في عام 1918 انتشرت الأنفلونزا الأسبانية في العالم وتحولت إلى وباء أصاب حوالي 50% من سكان الأرض في هذا العام (أي حوالي مليار نسمة)، كما حصد أرواح ما يزيد عن مائة مليون نسمة وفقا لبعض التقديرات، أي حوالي 5% من سكان الكرة الأرضية في هذا العام، وقد قدرت التكلفة الإجمالية للوباء بحوالي 4.8% من الناتج الإجمالي للعالم في هذا العام، وهو ما أهل وباء الأنفلونزا الأسبانية لأن يستحق بجدارة لقب أسوأ أوبئة القرن العشرين. وفي عام 1957 أدى انتشار الأنفلونزا الآسيوية إلى وفاة أكثر من مليوني شخص في العالم، كذلك أدى انتشار أنفلونزا هونج كونج 1968-1969 إلى وفاة حوالي مليون شخص في العالم. من ناحية أخرى فإن مرض نقص المناعة البشرية أو الإيدز حصد حتى الآن ما يزيد عن 20 مليون نسمة، ويعاني منه ما يزيد عن 40 مليون نسمة حاليا في مختلف دول العالم. كذلك تعرضت منطقة شرق آسيا في ربيع 2003 لوباء "السارس"، والذي مثل تهديدا خطيرا للنمو الاقتصادي في الإقليم قبل أن تتم السيطرة عليه. العالم إذن معرض من وقت لآخر للإصابة بأحد الأوبئة التي تمثل تهديدا للبشر. غير أن مشكلة وباء الأنفلونزا عن غيره من الأوبئة تكمن في سرعة انتشاره ومعدل الإصابة به مقارنة بوباء مثل السارس أو مرض الايدز.


في أبريل 2009 بدأت تنتشر عبر الكرة الأرضية أنباء سيئة عن الانتشار السريع لنوع خطير من أنفلونزا الخنازير موطنه المكسيك، حصد حتى كتابة هذا المقال 176 روحا بشرية في المكسيك فقط. هذه الأرقام مرشحة للتزايد في ظل عدم وجود علاج ناجع لهذا الشكل الجديد من فيروس الأنفلونزا. كذلك حذرت منظمة الصحة العالمية بأنه ليس هناك أي بقعة على سطح الأرض الآن آمنة أو محصنة من احتمال انتشار المرض، ووفقا لآخر الأخبار ظهر المرض في 12 دولة من دولة العالم حتى الآن، والعدد مرشح للتزايد بصورة لافتة للنظر خلال الأيام القليلة القادمة. الخطر الداهم الذي ربما ينتظر العالم يتمثل في احتمال أن تتحول أنفلونزا الخنازير إلى وباء عالمي. ففي ظل مناخ العولمة التي يعيشها العالم حاليا، فان انتشار مثل هذا الوباء مرشح إلى أن يكون أسرع ليطال كل بقعة في الكرة الأرضية، ما لم يتمكن الإنسان من السيطرة الفعالة على المرض. للأسف أتى وباء أنفلونزا الخنازير للعالم في توقيت سيئ تماما ربما ليمثل مع الأزمة المالية العالمية الصدمة المزدوجة التي يتعرض لها العالم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.


لاشك في أن انتشار الأوبئة أمر مكلف جدا من الناحية الاقتصادية، وهناك دلائل تاريخية تشير إلى تأثر أسواق المال بانتشار الأوبئة، على سبيل المثال يوضح الشكل التالي ردة فعل مؤشر داو جونز للأخبار الخاصة بوفيات الأنفلونزا الأسبانية في أوائل القرن الماضي. فعلى مدى الفترة من أكتوبر 1918 حتى فبراير 1919 انخفض مؤشر داو جونز بحوالي 11% بفعل الأخبار السيئة عن انتشار الوباء في العالم. وتجدر الإشارة أن استجابة وول ستريت لوباء الأنفلونزا الأسبانية ربما كان أقل مما هو متوقع، فقد أسهمت أنباء انتهاء الحرب العالمية الأولى، مع أنباء السيطرة على المرض في الحد من نزول المؤشر لأكثر من ذلك.


كذلك أدى انتشار وباء السارس إلى تأثيرات حادة على الاقتصاديات الآسيوية عام 2003، حيث انخفض معدل النمو الحقيقي في الصين 2003 من 10.3% في الربع الأول من العام إلى 7.9% في الربع الثاني من عام 2003. كذلك انخفضت تدفقات السياح بحوالي 70% إلى هونج كونج، في هذا العام، كما انخفض معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي بـ 9% في الربع الثاني من العام. كذلك أدى مرض السارس إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في هونج كونج بحوالي 2.6% في غضون هذه الفترة القصيرة وقت انتشار المرض. وتشير التقديرات إلى أن مرض السارس كلف إقليم شرق آسيا ما بين 18 – 60 مليار دولارا خسارة في الناتج، أو ما بين نصف إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي في الإقليم. لحسن الحظ كان أثر وباء السارس مؤقتا، حيث تعافي الاقتصاد الآسيوي من آثار الوباء بسرعة في الربع الثالث من عام 2003.


الشكل رقم (1) استجابة مؤشر داو جونز لانتشار الأنفلونزا الاسبانية


المصدر: http://bespokeinvest.typepad.com/bespoke/2009/04/1918-spanish-flu-and-the-market.html


ولكن ما الذي يمكن أن يحدث إذا تحول مرض أنفلونزا الخنازير إلى وباء عالمي. إن الإجابة على هذا السؤال سوف تعتمد على درجة انتشار الوباء. أي ما إذا كان انتشاره محدودا مثلما حدث بالنسبة لمرض السارس، أو إذا كان الوباء معتدلا مثلما حدث للأنفلونزا الآسيوية أو أنفلونزا هونج كونج، أو إذا كان الوباء شديدا مثلما حدث للأنفلونزا الاسبانية عام 1918. وتجدر الإشارة إلى أن مصنعو الأمصال على مستوى العالم قد بدءوا بالفعل في إجراءات تصنيع مصل وقائي للمرض، غير أن تلك العملية من المرجح أن تأخذ أشهرا قبل أن نرى علاجا ناجعا لأنفلونزا الخنازير، وحتى يحدث ذلك فإن كارثة اقتصادية عالمية حادة يمكن أن تحدث في غضون هذه الفترة القصيرة. ففي حال تحول وباء الأنفلونزا إلى وباء حاد، فان الأثر على الناتج العالمي سوف يكون كبيرا، وستلعب تأثيرات العولمة دورا خطيرا أكثر من أي وباء سبق في نقل تأثيرات الوباء إلى أسواق المال والسلع والعمل على المستوى العالمي وبسرعة رهيبة.


إذا ما كان انتشار أنفلونزا الخنازير محدودا مثلما حدث مع انتشار مرض السارس، فان الأثر المتوقع للوباء سوف يكون صغيرا ومؤقتا، وربما لا يشعر به العالم مقارنة بالتهديدات الأخرى للأوبئة، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدت إلى أوضاع اقتصادية متردية أصلا. فقد قدرت دراسة لمعهد لوي للسياسة الدولية الاسترالي في 2006، إن الانتشار المعتدل لوباء الأنفلونزا يمكن أن يكلف العالم أقل من 1% من الناتج العالمي.


لقد حذر الخبراء من الانتشار التالي لوباء الأنفلونزا، ونبهوا العالم للآثار الاقتصادية الضخمة التي يمكن أن تترتب علي مثل هذه الكارثة، على سبيل المثال فقد أشارت دراسة معهد لوي للسياسة الدولية الاسترالي إلى أن انتشار وباء الأنفلونزا على نحو عالمي يمكن أن يكلف العالم وفقا لأسوأ السيناريوهات حوالي 4.4 تريليون دولارا من الناتج الإجمالي العالمي. بينما قدرت دراسة أخرى للبنك الدولي عام 2008 أن وباء الأنفلونزا القادم قد يحصد أرواح أكثر من 70 مليونا من البشر، ويمكن أن تصل التكاليف الناجمة عن انتشار الوباء إلى أكثر من 3 تريليون دولارا أمريكيا، وهو ما سيؤدي إلى تخفيض حجم الناتج الإجمالي العالمي بحوالي 5%. والواقع أن تقديرات هاتين الدراستين اقل بكثير مما يمكن أن يحدث من آثار على المستوى العالمي لتحول الأنفلونزا إلى وباء شديد الحدة، حيث أن هناك قطاعات مهمة على المستوى العالمي مثل قطاع السياحة والسفر لم يتم تناولها بالحجم والأهمية الحقيقيان اللذان يمثلانهما على المستوى الدولي، كما أن الآثار الارتدادية من بعض القطاعات الحساسة مثل أسواق المال إلى القطاع الحقيقي لم تؤخذ في الاعتبار.


قطاع السياحة والسفر العالمي سوف يكون أول المتضررين من انتشار الوباء، حيث يتزايد الدور الذي يلعبه قطاع السياحة والسفر على المستوى العالمي. فمن ناحية الحجم يعد قطاع السياحة والسفر أكبر القطاعات الاقتصادية على المستوى العالمي وأسرعها نموا، حيث أنه وفقا لتقارير لمجلس السياحة والسفر الدولي يتوقع أن يبلغ حجم الناتج العالمي في قطاع السياحة والسفر حوالي 6 تريليون دولار أمريكي عام 2009، ويسهم هذا القطاع بحوالي 9.5% من الناتج المحلي العالمي. المشكلة في قطاع السياحة والسفر أنه قطاع كثيف الاستخدام لعنصر العمل، حيث يستوعب أعدادا كبيرة من العمال على المستوى العالمي. فوفقا لتقديرات مجلس السياحة والسفر الدولي يعمل في هذا القطاع ما يقارب 220 مليون عامل، وفي حالة تحول المرض إلى وباء شديد فان جميع هؤلاء معرض لفقدان وظيفته بدرجة أو بأخرى، مما يعني أن العالم قد يواجه اعنف أزمة للبطالة على المستوى الدولي، وبالنسبة لنا في الخليج ربما تشهد أسعار النفط الخام تراجعا في الأشهر المقبلة مع تراجع مستويات النشاط الاقتصادي على المستوى العالمي بفعل انتشار المرض.


قد تجد المكسيك، مركز المرض، نفسها في أعمق كساد تشهده في تاريخها المعاصر حيث من المتوقع أن يتضرر الاقتصاد بصورة شديدة، مع توقف التجارة الخارجية في السلع الزراعية مع باقي دول العالم بسبب الحظر المحتمل على المنتجات الزراعية المكسيكية. ومما لا شك فيه أن أشد القطاعات تأثرا في المكسيك سوف يكون قطاع السياحة، حيث تعد المكسيك عاشر اكبر دول العالم التي تواجه طلبا في هذا القطاع، فمن المتوقع أن يبلغ حجم الطلب العالمي على قطاع السياحة في المكسيك في عام 2009 حوالي 160 مليار دولار، أي حوالي 16% من الناتج المحلي الإجمالي للمكسيك، ويتوقع مجلس السياحة والسفر الدولي أن تكون المكسيك تاسع اكبر منتج لخدمات السياحة في العالم في عام 2009. ويعمل في قطاع السياحة في المكسيك حوالي 5.6 مليون عامل، جميعهم الآن مهدد بالبطالة. فقد تم إلغاء جانب كبير من الرحلات الجوية إلى المكسيك، كذلك تحولت مدينة مكسيكو سيتي إلى مدينة للأشباح، بعد مطالبة رئيس المكسيك السكان بالجلوس في المنازل وعدم الخروج منها للمساعدة في عدم انتشار المرض، وتمكين الأجهزة الصحية من حصر الإصابات والسيطرة عليها، كما طالب الشركات التجارية الخاصة غير الحيوية للاقتصاد بالتوقف عن العمل لتجنب أية إصابات جديدة بعدوى الفيروس، وهو ما سيعمق من الكساد الذي يعاني منه حاليا الاقتصاد المكسيكي حاله حال باقي دول العالم. الآثار على الطلب الكلي في المكسيك يمكن إذن أن تكون حادة، خصوصا مع إغلاق المرافق العامة، وربما المحال العامة كإجراءات وقائية ضمن خطة للحجر الصحي في المكسيك، الأمر الذي قد يصيب الاقتصاد المكسيكي بالشلل التام في الأجل القصير، خصوصا مع محاول الناس تدنية فرص تنقلاتهم خارج منازلهم إتقاءا لخطر احتمال الإصابة بالمرض. في ظل هذه الأوضاع من المتوقع أن تكون الآثار قصيرة الأجل لأنفلونزا الطيور على الاقتصاد المكسيكي حادة وأن تزداد هجمات المضاربين على البيزو المكسيكي.


من المؤكد أن أخبار انتشار مرض أنفلونزا الخنازير لم تكن سارة مطلقا للعالم الذي يقبع تحت نير الأزمة الاقتصادية حاليا، بحيث أصبح العالم في ظل الأزمة تحت تأثير صدمة مزدوجة يمكن أن تعقد من آثار الأزمة المالية العالمية، وتؤخر من سرعة تعافي الاقتصاد العالمي من الأزمة الاقتصادية الحالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق