نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 25/6/2011.
هدفت خطة رفع سقف الدين في الولايات المتحدة إلى خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 إلى ما يقارب الـ 75% تقريبا، وإن كان ذلك لا يعني أن القيمة الاسمية للدين سوف تنخفض، وإنما سيواصل الدين العام الأمريكي ارتفاعه حتى يصل إلى حوالي 18 تريليون دولارا في هذا العام وفقا لتقديرات الخزانة الامريكية، غير أن الناتج المحلي الإجمالي في هذه السنة يتوقع أن يصل إلى حوالي 25 تريليون دولارا تقريبا، مما يتسبب في تراجع نسبة الدين إلى الناتج، وعلى الرغم من أن خطة رفع سقف الدين لم تحل مشكلة الدين العام من الناحية المطلقة، إلا أن الخطة احتوت على أحد التوصيات الهامة التي تهدف إلى بحث تعديل الدستور الامريكي بحيث تصبح الميزانية المتوازنة قيدا دستوريا على الكونجرس والادارة الامريكية.
ربما لم تطرح الفكرة بصورة الزامية على الحكومات مسبقا نظرا لأن الديون العامة للدول كان من السهل دائما التعامل معها، كما أنها كانت بشكل عام في الحدود المأمونة التي تجعل من السهل على الحكومات تحمل أعباءها بدون أن يترتب على ذلك تهديد لقدرات الدولة المالية على المدى الطويل. إلا أنه وبعد أن استفحلت مشكلة الديون في مناطق كثيرة من العالم وتحولت إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة لتعصف باستقرار العالم، عاد مبدأ الميزانية المتوازنة إلى العالم بقوة اكبر من أي وقت مضى، مدعوما بما يحدث على الأرض من آثار سلبية لتفحل مشكلة الدين العام في معظم انحاء الكرة الأرضية، ولضمان تحقق المبدأ على أرض الواقع ولإجبار الحكومات على الالتزام به، فإن مقترح الميزانية المتوازنة يأتي مصحوبا بتعديل دستوري يجعل من الميزانية المتوازنة أحد المواد الدستورية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها هذا المقترح، فالمقترح متداول منذ فترة، على سبيل المثال في عام 1995 قام مجلس النواب الامريكي بإقرار مقترح الميزانية المتوازنة وتعديل الدستور الامريكي وفقا لذلك، إلا أن مجلس الشيوخ رفض المقترح. كذلك تم التفكير بجدية في المقترح مرة أخرى في عام 2010.
اليوم لا يقتصر الحديث عن مقترح الميزانية المتوازنة على الولايات المتحدة فقط وإنما امتد ايضا إلى عدة دول في العالم خصوصا تلك التي تواجه نموا في دينها العام بما يهدد قدرتها على خدمة ديونها على المدى الطويل، على سبيل المثال كانت اسبانيا قد ادخلت مبدأ الميزانية المتوازنة في عام 2001، غير ان الحكومة الاشتراكية التي تلت اصدار القانون قامت بتعديله بعد ذلك وهو ما أدى إلى نمو الدين العام على النحو الذي نراه حاليا.
من ناحية أخرى فإنه وفي عام 2009 تم تعديل الدستور الألماني لكي يمنع حكومات الولايات والحكومة الفدرالية من أن تحقق عجزا في ميزانياتها، ووفقا للتعديل الدستوري فإن الحكومات لن تكون قادرة على تحقيق عجز في ميزانياتها يزيد عن 0.35% من الناتج المحل الإجمالي (اقل من 1%)، بدءا من 2016، وبحلول 2020 لا يجب أن تحقق الحكومة أي عجز على الاطلاق. كذلك تدفع ألمانيا حاليا الدول الأعضاء في منطقة اليورو نحو تبني النموذج الألماني للميزانية المتوازنة كجزء من حزمة السياسات التي تهدف إلى تدعيم استقرار اليورو، ويجد المقترح الألماني دعما واضحا من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.
كذلك فقد اقترح وزير المالية الإيطالي أن يتم موازنة الميزانية بحلول 2013، بدلا من 2014، وذلك في إطار الإجراءات التقشفية التي تتخذها إيطاليا للتعامل مع مشكلة نمو دينها العام، الذي أصبح يمثل حوالي 120% من ناتجها المحلي الإجمالي، وحث البرلمان على الدفع بإقرار مقترح تعديل الدستور بما يفرض على الحكومات الإيطالية الالتزام بتوازن الميزانية في أي مشروع مقترح لها. من ناحية أخرى فقد أعلن مؤخرا في اسبانيا عن طرح المقترح مرة أخرى بتعديلات دستورية تمنع الحكومة من أن تحقق عجزا في الميزانية.
لضمان تحقق المبدأ على أرض الواقع ولإجبار الحكومات على الالتزام به، فإن مقترح الميزانية المتوازنة يأتي مصحوبا بتعديل دستوري يجعل من الميزانية المتوازنة أحد المواد الدستورية، ولكن ما المقصود بالميزانية المتوازنة؟ وما هي مزايا هذا المقترح؟ وما هي أهم عيوبه؟ وهل هو بالفعل اقتراحا قابلا للتطبيق؟ في هذا المقال نتناول بالتحليل الإجابة على هذه الاسئلة.
من الناحية النظرية، ووفقا لما نقوم بتدريسه للطلبة في مناهج مبادئ الاقتصاد الكلي، فإن مبدأ الميزانية المتوازنة لا يعني أن السياسة المالية المتمثلة في هذا المبدأ لن يكون لها آثارا توسعية على النشاط الاقتصادي، بالعكس فإنه حتى مع توازن الميزانية العامة فإن السياسة المالية سوف تسهم ايضا في النمو من خلال ما يسمى بمضاعف الميزانية المتوازنة والذي يساوي الواحد الصحيح. على سبيل المثال إذا تمت زيادة الضرائب بمليار دولارا وزيادة الانفاق بنفس المقدار، بحيث تظل الميزانية متوازنة، فإن مثل هذه السياسة تؤدي أيضا إلى إحداث زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بمليار دولارا، وإن كانت قيمة المضاعف سوف تكون محدودة في هذه الحالة، والتي تقتصر على الواحد الصحيح كما سبقت الاشارة.
مقترح الميزانية المتوازنة هو إذن مقترح يهدف إلى ادخال تعديلات في المواد الدستورية للدولة بحيث يتم وضع قيد حديدي على قدرة الحكومات على الاقتراض، بحيث تكون مجبرة على أن تخطط لإنفاقها في حدود مواردها المتاحة لها من كافة المصادر، وبالتالي لا تواجه الحكومة عجزا في ميزانيتها نتيجة لذلك، ومن الواضح أن المقترح يؤدي إلى رفع درجة المسئولية المالية للحكومات، ويفرض عليها نسقا محددا من التصرف إزاء قرارات الانفاق فيها، حيث أن قيد الميزانية المتوازنة سوف يدفع الحكومات نحو البحث في كيفية رفع كفاءة الانفاق العام والبحث عن مناطق الهدر في هذا الانفاق، ومحاولة ترشيد هذا الهدر، وهو ما يعتبر أحد أهم الحجج التي تساق للدفاع عن مبدأ الميزانية المتوازنة.
بناء على ما سبق يمكن تعريف مقترح الميزانية المتوازنة بأنه تعديل دستوري يهدف إلى تقييد الانفاق الإجمالي للحكومة بحيث يكون اقل من الايرادات العامة لها، أو على الأقل مساويا لهذه الايرادات، وبحيث تتقدم الحكومة كل سنة إلى البرلمان بمقترح ميزانيتها العامة في السنة القادمة متضمنا تصوراتها لإيراداتها العامة من مصادرها المختلفة، وكذلك خطط انفاقها المتوقع في اطار هذه الايرادات، وبحيث لا يتم اقرار ميزانية الدولة إلا بعد استيفاء شرط توازن مقترح الميزانية، ولكن ماذا يعني ذلك؟ الإجابة هي أن ذلك يعني أن الادارة الحكومية التي لا تلتزم بالعمل على توازن ميزانيتها سوف تصبح مخالفة لدستور البلاد، وهي مخالفة في منتهى الخطورة، ولكن كيف ستتمكن الحكومات من التأكد من توازن ميزانيتها في كل سنة؟ من الناحية النظرية، مرة أخرى، فإن ذلك سوف يتم ببساطة من خلال تعديل مستويات الانفاق بما يتوافق مع مستوى ايرادات الدولة، أو من خلال تعديل مستويات الايرادات (الضرائب) لكي تتوافق مع مستويات الانفاق العام للدولة، وبحيث تقدم الادارة الحكومية مشروع ميزانيتها في كل سنة على نحو متوازن بدون ان تضطر إلى الاستدانة وتكوين دين عام قد لا تتمكن من خدمته على المدى الطويل.
من الواضح أيضا أن أهم مزايا المقترح هي أنه يضع قيودا على نمو حجم الحكومة ويطلق بالتالي المجال امام القطاع الخاص للقيام بالمشروعات الأساسية للبنى التحتية وتقديم الخدمات العامة بدلا من الاعتماد على الدولة. مثل هذه المزايا للمقترح تبدو جذابة جدا عندما يتم تناولها من الناحية النظرية، ولكن عندما نطبقها سوف نجد أن الامر ليس بهذا القدر من النصاعة.
صحيح أن مبدأ توازن الميزانية من المبادئ التي تتداول على الصعيد النظري منذ فترة طويلة، غير أن المقترح لم يجد طريقا إلى النور لصعوبة تطبيق المبدأ على أرض الواقع من الناحية العملية، نظرا للقيود التي يفرضها على حرية الحركة للحكومات، وما يترتب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مقبولة، خصوصا في أوقات الأزمات، عندما يتطلب الامر تدخل الإدارات الحكومية بقوة لدفع مستويات النشاط الاقتصادي ومواجهة الآثار السلبية التي تلحق باقتصادها، بصفة خاصة بالنسبة للبطالة.
لعل أهم أوجه الاعتراض على المقترح تتمثل في أن زيادة الانفاق في كافة الدول المدينة حاليا تمت بدون أن يصاحبها تمويل من خلال زيادة الضرائب. بل على العكس لقد لجأ بعض الدول إلى خفض الضرائب. بالطبع عندما يتم خفض الضرائب فإن المحافظة على توازن الميزانية تتطلب تخفيض مستويات الانفاق، وما حدث هو أن دول العالم كانت مضطرة إلى زيادة الانفاق للتعامل مع مفرزات الأزمة، وبالطبع لا يمكن تصور وضع الميزانية عندما يزيد الانفاق ولا يصاحب ذلك زيادة في الضرائب إلا من خلال منظور زيادة مستويات الدين العام، ومن ثم فإن نمو الدين العام كان أمرا طبيعيا في مثل هذه الأوضاع.
من ناحية أخرى فإن أخطر مشكلات المقترح تتمثل في أنه يقيد قدرة الحكومة على الاستجابة للمشكلات التي تترتب على الانخفاض الذي يحدث في مستويات النشاط الاقتصادي، بصفة خاصة ارتفاع مستويات البطالة، وكذلك قدرتها على توفير الخدمات العامة. ففي أوقات الانحسار الاقتصادي من الممكن أن يترتب على تراجع الايرادات العامة للدولة (بصفة خاصة الضرائب) تأثر قدرة الحكومة على تمويل الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، حيث لا تستطيع الدولة رفع مستويات الضرائب، ولذلك فإن عجز الميزانية يعد أمرا أساسيا لاستمرار قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها في مثل هذه الظروف، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن يتم تطبيق مبدأ الميزانية المتوازنة بصورة حرفية، في أوقات انحسار النشاط الاقتصادي، بدون أن يصاحب ذلك تراجعا واضحا في مستويات رفاهية السكان، ولذلك لا بد وأن يصاحب المقترح خارطة طريق توضح للحكومة كيفية مواجهة التزاماتها في أوقات تراجع النشاط الاقتصادي.
لهذه الاسباب ينظر البعض إلى مقترح الميزانية المتوازنة على أنها فكرة سيئة جدا، فعندما يحدث الكساد يزداد الانفاق التقديري على الخدمات الاجتماعية مثل إعانة البطالة بينما تقل الإيرادات العامة للدولة، بصفة خاصة من الضرائب، مما سيؤدي إلى وجود فجوة في الميزانية، يصعب التعامل معها في ظل المقترح سوى من خلال تخفيض الانفاق العام. وهو ما يترتب عليه تراجع مستويات النشاط على نحو اسوأ، ومن ثم تعميق آثار أي ازمة اقتصادية يمكن أن تمر على الاقتصاد المحلي. ولذلك يرى البعض أنه لا يمكن أن يتم اقرار مثل هذا المقترح دون أن ينص على استثناءات لعجز الميزانية مثلما هو الحال في أوقات الازمات أو في أوقات الحروب حيث يصبح العجز أمرا لا مفر منه.
وأخيرا فإن المقترح يعني أنه في أوقات الأزمات سوف تشل السياسة المالية من خلال وقف الخيارات المتاحة أمام الحكومات للتحفيز المالي (تحفيز النشاط الاقتصادي من خلال زيادة الانفاق العام او تخفيض الضرائب)، ومن ثم لن يجد صانع السياسة الاقتصادية أمامه من خيار سوى الاعتماد بشكل أساسي على السياسات النقدية وتكثيف استخدام السياسات النقدية غير التقليدية مثل الجرعات المكثفة والمتتالية من التيسير الكمي مع ما يمكن ان يصاحبها من مخاطر على المستوى العام للأسعار والقوة الشرائية للعملات.
الخلاصة هي أن تحقيق الحكومات لتوازن ميزانيتها مسألة ليست مضمونة في كل الأحوال، فالحكومات لا تستطيع أن تعيش من وقت إلى آخر بدون عجز، وقد يكون العجز هو أفضل الحلول أمام الحكومات في ظل الاوضاع الاقتصادية التي قد تقتضي ذلك، مثل أوقات الكساد والحروب، حيث ينظر إلى العجز على أنه ضرورة وليس ترفا، وحينما يتراجع الاستثمار الخاص بحيث يترتب على زيادة الانفاق الحكومي زيادة الاستثمارات الخاصة وليس مزاحمتها.