الجمعة، أغسطس ١٩، ٢٠١١

صدمة النمو في أوروبا

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 19/8/2011.
للأسبوع الثاني على التوالي أضطر إلى تغيير مخطط مقالاتي على الاقتصادية بسبب التغيرات المتلاحقة عالميا في الفترة الأخيرة. فبينما كنت أكتب في مقال مقترح الميزانية المتوازنة الذي كنت أخطط لإرساله  للنشر هذا الأسبوع، فاجأتني الأنباء التي نشرتها مؤسسة الاحصاءات الأوربية اليوروستات Eurostat ببيانات النمو في الربع الثاني من هذا العام في الاتحاد الأوروبي، والتي جاءت مخيبة للآمال بصورة كبيرة في الاقتصادات الرئيسة في أوروبا، وبصفة خاصة في ألمانيا وفرنسا، وهو ما أدى إلى تعميق المخاوف بانعكاس  انخفاض معدلات النمو في ألمانيا بالذات على الاقتصاد الأوروبي، والذي يستعد وفقا لآراء بعض المراقبين إلى الدخول في مرحلة كساد مزدوج. بل لقد أشار البعض إلى أن الاقتصاد العالمي بأكمله ربما يكون مهيئا للدخول في حالة تراجع مزدوج.

ووفقا لليورو ستات فإن الجدول رقم (1) يوضح معدلات النمو في منطقة الاتحاد الاوروبي خلال الربع الثاني من هذا العام، ومن الجدول يلاحظ أنه سواء بمقارنة معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الثاني من هذا العام مقارنة بربع السنة السابق عليه، أو بمقارنته بمعدل النمو في نفس ربع السنة في العام السابق، فإن معدلات النمو في الاقتصاد الأوروبي تتراجع على نحو مثير للقلق، على سبيل المثال نجد الاقتصادات الرئيسة مثل المانيا قد حققت معدل نمو 0.1% فقط في الربع الثاني من هذا العام، كذلك فإن فرنسا لم تحقق أي نمو على الإطلاق حيث بلغ معدل النمو بها 0%، بينما بلغ معدل النمو في هولندا 0.1%، وفي إسبانيا 0.2%، وفي المملكة المتحدة 0.2%، وايطاليا 0.3%. هذه المستويات المتدنية للغاية لمعدلات النمو تثير المخاوف حول اتجاهات معدلات النمو الحقيقي في المستقبل في الاتحاد الأوروبي. مشكلة هذه البيانات هي انها تعني ان أكبر اقتصادات اوروبا تواجه أسوأ تراجع في معدلات النمو بها في أعقاب الازمة المالية العالمية، بعد أن تحسنت معدلات النمو نسبيا في الفترة السابقة.  


على مستوى منطقة اليورو (17 دولة) فإن معدل النمو للربع الثاني اقتصر على 0.2% فقط، وهو أقل قليلا مما كان متوقعا لهذا الربع والذي قدر بـ 0.3%. كذلك اقتصر متوسط معدل النمو في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) على 0.2% فقط، وبهذا الشكل تقتصر معدلات النمو السنوي حتى الربع الثاني من هذا العام في كل من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على 1.7%. 

ما إن انتشرت هذه الأخبار السيئة حتى اصطبغت مؤشرات أسواق الأسهم في العالم وللشركات الاوروبية الرئيسية باللون الاحمر جميعا في يوم واحد مرة أخرى، بعد أسبوع كان اللون الاخضر هو الصبغة الغالبة عليها، الأمر الذي أدى الى توقف معدلات الصعود التي شهدتها البورصات العالمية في الأسبوع السابق، بعد خفض التصنيف الائتماني للدين الامريكي.

مصدر قلق العالم الأساسي من هذه المعدلات المنخفضة هو معدل النمو الألماني والذي جاء بصورة تقل عن التوقعات التي كانت تدور حول 0.5%. ووفقا للتقارير فإن السبب الأساسي لهذا التراجع في معدلات النمو يعود الى انخفاض الانفاق الاستهلاكي وانخفاض الانفاق الاستثماري الانشائي، وتراجع الصادرات الألمانية بفعل تراجع معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة في الولايات المتحدة وآسيا، في الوقت الذي تزايدت فيه الواردات من الخارج مما أدى الى حدوث عجز في ميزان المدفوعات انعكست آثاره على النمو.

إذا اضفنا الى معدل النمو الألماني معدل النمو الفرنسي فإن أكبر اقتصادان في أوروبا والمسئولان عن حوالي 50% من الناتج المحلي الاجمالي الأوروبي يكونا في حالة في حالة ركود في الربع الثاني من هذا العام، الأمر الذي يلقي بظلاله على آفاق النمو الاقتصادي الأوروبي، وبهذا الشكل يتضح أن الماكينة الالمانية فشلت في دفع النمو في الاتحاد الاوروبي قدما نحو الامام. من ناحية أخرى يصعب في ظل هذه الظروف أن تستمر سياسات الانقاذ، والتي أصبحت مسألة صعبة بعد أن قدمت الدولتين حوالي 8% من ناتجهما المحلي الاجمالي كاعتمادات لتمويل عمليات الإنقاذ للدول المثقلة بالديون في منطقة اليورو.  

من ناحية أخرى فقد كان البنك المركزي الأوروبي في بداية الربعين الثاني والثالث من هذا العام قد أعلن عن رفع معدلات الفائدة مرتين من 0.25% الى 0.50% في 13 ابريل 2011، وإلى 0.75% في 13 يوليو 2011، وقذ ذكر مدير البنك المركزي الأوروبي أن هذه الارتفاعات في معدل الفائدة في منطقة اليورو سوف يتبعها خطوات لرفع معدل الفائدة بصورة أكبر في المستقبل بهدف الحد من الضغوط التضخمية التي بدأت تتصاعد في منطقة اليورو، وهو ما نظر إليه على أنه بداية الخروج من سياسات معدلات الفائدة الصفرية والنقود الرخيصة. غير أنه أخذا في الاعتبار تلك التطورات على صعيد النمو فقد اصبحت احتمالات أن يقوم البنك المركزي الأوروبي برفع معدلات الفائدة بصورة اكبر في المستقبل محدودة. لذلك أتوقع حدوث تحول في اتجاه السياسات النقدية للبنك المركزي والذي ربما قد يلجأ الى إعادة خفض معدلات الفائدة مرة أخرى اذا تعمقت مشكلة النمو وتحمل قدرا أعلى من التضخم في مقابل دفع عجلة النمو.

الصورة الاوروبية تبدو أيضا اكثر قتامة عندما نتابع التطورات في سوق العمل الأوروبي، حيث يشير الجدول رقم (2) الى معدلات البطالة في منطقة الاتحاد الأوروبي، ويتضح من الجدول أن متوسط معدل البطالة في منطقة اليورو (17 دولة) ما زال مرتفعا ويصل الى 10% تقريبا، بينما يصل متوسط معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) الى حوالي 9.5%، وبينما تصل معدلات البطالة الى مستوى رقمين في إسبانيا التي تبلغ معدلات البطالة فيها في الربع الثاني من هذا العام 21%، فإن معدل البطالة في ايرلندا بلغ 14.2% وفي البرتغال 12.2%، في الوقت الذي تقتصر فيه معدلات البطالة في فرنسا إلى 9.7% وفي ايطاليا الى 8%، ويلاحظ أنه على الرغم من تراجع معدلات النمو في المانيا الى هذه المستويات المنخفضة فإن البطالة تعد منخفضة نسبيا حيث 6.1% في الربع الثاني، وهو ما يوحي بأن أوضاع سوق العمل في ألمانيا مازالت مطمئنة نسبيا، حيث ينخفض معدل البطالة الفعلي مقارنة بمعدل البطالة الطبيعي 5%، مما يعني أنه مازال هناك مجال للنمو الكامن في الاقتصاد الالماني.


والآن هل تدخل اوروبا والعالم مرحلة تراجع أو كساد مزدوج؟ الكثير من المراقبين يؤكدون ذلك، ولكن بالنسبة لي من الصعب الحكم حاليا على مدى صحة أو دقة هذا التوقع، فمازلنا في حاجة الى المزيد من المؤشرات حتى يمكن الحكم بالفعل على تعمق الأزمة من عدمه. فحتى هذه اللحظة معدلات النمو ما زالت موجبة بالرغم من تراجعها على نحو كبير، ومن ثم لا يمكن الحديث اليوم عن تراجع مزدوج إلا اذا تحولت معدلات النمو في الربع الثالث من هذا العام الى معدلات نمو سالبة. غير أنه تجدر الاشارة الى أن ارتفاع درجة عدم التأكد وانخفاض الثقة على نحو واضح في اوروبا يجعل من التعامل مع مشكلة الديون الأوربية مسألة أكثر تعقيدا، ذلك أن التعامل مع مشكلة الديون  يحتاج الى معدل نمو مناسب، وعندما تتراجع معدلات النمو فإن مشكلة الديون تصبح اكثر خطورة.

 مما لاشك فيه أن البيانات القادمة من الاقتصاد الالماني تلقي مزيدا من الضبابية على الاقتصاد العالمي خاصة وأنها تأتي في اعقاب البيانات السيئة عن النمو في الاقتصاد الامريكي في الربع الثاني هذا العام، الأمر الذي يؤدي الى تصاعد المخاطر التي تحيط بالاقتصاد العالمي على نحو خطير، وبما أن العالم قد استنفذ كافة خياراته واسلحته التي توفرها السياسات الاقتصادية المختلفة للتعامل مع الأزمة، خصوصا في مجالي السياسة النقدية والمالية، فإن الخيار المتبقي امام دول العالم حاليا هو العودة الى حرب العملات، وهو احتمال غير متوقع، على الأقل في الوقت الحالي، وان بدأت بعض الدول مثل اليابان وسويسرا في اتخاذ اجراءات للحد من التصاعد في قيمة عملاتها ازاء تراجع كل من الدولار واليورو في الفترة الاخيرة.  ولكني اتوقع حدوث صدمة كبيرة عالميا، بصفة خاصة في المنطقة الاوروبية، حيث من المنتظر أن تتراجع قيمة مؤشرات الأسهم، ومعدل صرف اليورو، بينما يحقق الدولار الامريكي بعض المكاسب في ظل هذه الازمة، وكذلك من المتوقع ان يتزايد الطلب على الذهب وترتفع اسعاره. بالنسبة لنا نحن في الخليج، فإنه بالإضافة الى الاثار المتوقعة على البورصات فإن تراجع معدلات النمو عالميا سوف يدفع بأسعار النفط نحو التراجع بصورة اكبر من تلك التي شهدناها في أعقاب تخفيض التصنيف الائتماني، ومن ثم أوضاعا مالية غير مريحة نسبيا أو أقل مما كان متوقعا في بداية السنة المالية الحالية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق