نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 12/8/2011
يصعب على الفرد أن يخطط لمقالاته في ظل ما يحدث في العالم حاليا من تقلبات عنيفة. فقد كان من المفترض أن أتابع اليوم مسببات تضخم الدين العام الامريكي والسيناريوهات المستقبلية له، ولكن العالم تعرض هذا الاسبوع لعدة صدمات أعادتنا الى المربع صفر مرة أخرى، بعد أن كان العالم يستعد للخروج من أكبر أزمة أصابته منذ الكساد العالمي الكبير، وتعرضت الاسواق المالية في كافة انحاء العالم إلى ما يشبه الانهيار. انهيار يوم الاثنين الماضي القى بظلال كئيبة عبر العالم أجمع، وأخذنا نقارن ما يحدث حاليا بوضع الأسواق في 2008 عندما انطلقت الازمة المالية العالمية في 2008، وقد بدا من الواضح أن أي أصل مالي لم يعد يوفر الحماية للمستثمرين فيه.
في اجتماع لجنة السوق المفتوح في الاحتياطي الفدرالي الأمريكي يوم الثلاثاء 9 أغسطس قررت اللجنة الإبقاء على معدل الفائدة الصفري حتى منتصف 2013، كما أعلنت أنها سوف تستمر في إعادة استثمار إيرادات السندات التي يحل أجلها، والتي يحتفظ بها الاحتياطي الفدرالي في إطار سياسة التيسير الكمي، أو ما يطلق عليه سياسة نصف التيسير الكمي، كذلك أعلنت اللجنة أنها ستقوم بمراجعة حجم وتركيبة الأوراق المالية التي يحتفظ بها الاحتياطي الفدرالي وتعديلها بالشكل المناسب، وفي ذات الوقت سوف تستمر في مراقبة تطور الأوضاع الاقتصادية واتخاذ ما يلزم لدعم الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي.
بعد أن تم نشر محضر اجتماع اللجنة ارتدت الاسواق مرة أخرى، وأخذت مؤشرات الأسهم والدولار في التصاعد، في الوقت الذي حدثت فيه موجة تصحيحية محدودة للذهب حتى كتابة هذا المقال، مما يعني أن الولايات المتحدة سوف تستمر في اتباع سياسة النقود الرخيصة.
لقد أقدمت هذا الاسبوع إحدى مؤسسات التصنيف الائتماني، وهي مؤسسة ستاندرد أند بور على تنفيذ تهديداتها السابقة للولايات المتحدة بتخفيض التصنيف الائتمان للدين الامريكي إذا لم يتم التوصل الى اتفاق حول رفع سقف الدين الامريكي، وما إن تم رفع سقف الدين، وفي ضوء ما حدث من مهاترات في فترة المفاوضات لرفع سقف الدين، سارعت المؤسسة الى خفض التصنيف الائتماني للدين الامريكي من AAA الى AA+، وهو ما يعني أن سندات الدين الامريكية فقدت تصنيفها الممتاز، باعتبارها اصل خال من المخاطرة لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، وفقا لتصنيف هذه المؤسسة.
ما إن سرت هذه الأخبار في الأسواق العالمية مع بداية عطلة نهاية الأسبوع حتى تراكمت مخاوف المستثمرين في كافة أنحاء العالم عبر عطلة نهاية الاسبوع، وأخذ الكثير من المستثمرين عبر انحاء العالم في التخلص من أكبر قدر من محتفظاته من الأصول المالية خوفا من النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الخطوة، وأخذ الهلع يدب في قلوب الجميع، خصوصا في ظل وجود إشارات قوية الى احتمالات تعقد مشكلة الديون السيادية لأوروبا، بصفة خاصة بالنسبة لإسبانيا وإيطاليا، واصطبغت اسواق العالم باللون الأحمر، واصبحنا نتحدث عن احتمالات حدوث تراجع مزدوج للاقتصاد العالمي، خصوصا في الولايات المتحدة.
بالطبع في وسط هذه الفوضى تتجه انظار العالم نحو الذهب، معدن الأزمات أو الملاذ الآمن، كما يفضل ان يطلق عليه المضاربون في الذهب، فقفز هذا الأخير على انغام ما يحدث الى مستويات تاريخية وغير معقولة أو مقبولة في الوقت ذاته. فحتى كتابة هذه السطور تجاوز سعر اوقية الذهب 1770 دولارا، وهو ضرب من ضروب الجنون، فكيف يباع معدن يتكلف إنتاج الاوقية منه حوالي 600 دولارا بما يقارب 3 اضعاف تكلفته، إن ذلك يعكس بالطبع حقيقة هامة وهي أن آليات السوق لا تعمل بشكل صحيح، وأن ما يحدث في سوق الذهب من مضاربات تدفع بالسوق بعيدا عن التوازن، وهو ما يطلق عليه بالمضاربات المزعزعة لاستقرار السوق destabilizing speculation. ويقصد بالمضاربات المزعزعة لاستقرار السوق هي اتجاه المضاربين نحو الشراء بصورة أشد عندما ترتفع الاسعار، استنادا الى التوقعات القوية باستمرار ارتفاع الاسعار بصورة أكبر في المستقبل، وتهافت المتعاملين نحو البيع عندما تنخفض الاسعار، استنادا الى التوقعات القوية باستمرار انخفاض الأسعار بصورة أكبر في المستقبل، غير أن التطورات في سوق الذهب حاليا تقدم دليلا في غاية الخطورة، وهو أن ما يظن المضاربون أنه الملاذ الآمن في ظل هذه الظروف يتحول للأسف الشديد الى أصل في غاية الخطورة، حيث أن حدة انفجار فقاعة الذهب تشتد مع كل رقم فلكي جديد يحققه الذهب في البورصات العالمية للمعدن.
الشبح الذي يهدد العالم حاليا يمكن تسميته بأزمة الديون العالمية، والتي إذا انطلقت، فمن المؤكد أنها ستسبب الموجة الثانية للأزمة الاقتصادية العالمية والتي ستقصم ظهر العالم، ما لم يتم التعامل معها بحزم للحد من المخاطر الهائلة التي يمكن ان تنتج عن انطلاق هذه الأزمة. نحن نتحدث عن أصول للمؤسسات المالية في كافة انحاء العالم تقدر بتريليونات الدولارات والمستثمرة في صورة سندات أصدرتها الحكومات وهي غير مبالية، أو ربما لم تعر الاهتمام الكافي، بقدرتها على خدمة هذه الديون على المدى الطويل، خصوصا في ظل ظروف الازمة حيث تقل الايرادات العامة للدول بشكل كبير، ومن ثم تضعف قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، الأمر الذي يعني أن الدين العام لحكومات دول العالم الذي ينمو حاليا، ينمو في التوقيت الخطأ.
أحد الاسباب الأساسية أيضا وراء ارتفاع مستويات الديون العامة للدول هو الاتجاه العالمي لخفض الضرائب على الشرائح ذات الدخل المرتفع، فالإيرادات العامة لدول العالم عند مستويات متدنية جدا بالنسبة الى الناتج المحلي الاجمالي في العالم حاليا، لأن الحكومات لا تجمع من أغنياءها ضرائب كافية. صحيح أن هدف الحكومات الأسمى من خفض الضرائب هو مساعدة قطاع الأعمال الخاص على خلق المزيد من الوظائف من خلال تخفيض الضرائب وتحفيزه على القيام بالمزيد من الاستثمار، الا أن الاتجاه العام لخفض الضرائب في كافة دول العالم يتسبب في النمو الهائل لمدخرات الأفراد في شتى بقاع الأرض. هذه المدخرات الهائلة تبحث عن سبل لاستثمارها وتوفير عوائد مناسبة عليها، سواء من جانب الأفراد أو من جانب المؤسسات المالية التي تتلقى هذه المدخرات كمودعات، أو حصص في صناديق الاستثمار مثلا .. الخ، وهو ما يؤدي إلى رفع أسعار الأصول الى عنان السماء سواء في أسواق الأسهم أو الأصول الحقيقية كالعقار والذهب.
ففي الوقت الذي تكون فيه الحكومات مطالبة بأن يكون انفاقها استثنائيا للتعامل مع تبعات الأزمة ولدفع الاقتصاد نحو الخروج منها، فإن الجانب الأكبر من المدخرات، والتي كان يفترض ان يكون جانبا منها في خزانة الدول كضرائب، يظل يبحث عن أي فرصة للاستثمار الآمن، وبما أن ديون الحكومات من الناحية النظرية من أكثر الأصول المالية أمنا، فإن مدخرات الأفراد تتوجه نحوها، إما مباشرة بواسطة المدخرين أو بصوة غير مباشرة من خلال المؤسسات المالية التي تجمع هذه المدخرات، الأمر الذي يسهل على الحكومات مهمة الاقتراض من الجمهور، غير أنه بدلا من أن تقتطع الدولة جانبا من هذه المدخرات في صورة ضرائب، تجد نفسها تدفع فوائد على هذه الإيرادات الضائعة.
لقد كان من المتوقع عند انطلاق الأزمة المالية العالمية على النطاق الذي شهدناه أن يرزح العالم لفترة طويلة من الزمن في حالة ركود، وذلك بالنظر إلى ضخامة التأثيرات المتوقعة للأزمة، غير أن انجراف دول العالم أجمع نحو الاسراع بالخروج من الأزمة في أقصر وقت ممكن وباستخدام كافة وسائل التحفيز، سواء المباشر أو الغير مباشر لاقتصاداتها، دفع حكومات العالم الى أن تنسى، أو تتناسى، أنها في خضم ذلك كله تخلق لنفسها مشكلة أخرى ربما تكون أخطر أو أعمق في ظل تصاعد العجز في ميزانياتها.
فقد استخدمت معظم دول العالم سياسة معدلات الفائدة الصفرية Zero interest rate policy (ZIRP)، للخروج من الأزمة، حيث تشجع معدلات الفائدة الصفرية المستهلكين على الشراء، وتساعد على انتعاش أسواق الاسهم بشكل كبير، وكذلك تعمل على تخفيض قيمة العملات مما يقلل من آثار العجز الخارجي لميزان المدفوعات، على سبيل المثال منذ انطلاق الأزمة والاحتياطي الفدرالي يضع المستويات المستهدفة لمعدل الفائدة عند صفر تقريبا، كما أنه من الواضح، كما سبقت الإشارة، أن الاحتياطي الفدرالي سوف يستمر في تبني هذه السياسة في المستقبل القريب.
غير أن معدلات الفائدة الصفرية فتحت شهية الحكومات نحو أمر خطير جدا وهو المبالغة في الاقتراض استنادا الى انخفاض تكلفة هذه الديون في ظل المعدلات المتدنية للفائدة، الأمر الذي أدى الى تراكم جبال ما يطلق عليه ديون معدلات الفائدة الصفرية ZIRP debts، على سبيل المثال ديون اليابان والولايات المتحدة، حيث تجاوزت في الأولى الناتج المحلي الاجمالي بضعفين ونصف تقريبا وتجاوزت في الثانية الناتج المحلي الاجمالي لأول مرة منذ عام 1947. الخطر الكامن وراء ديون معدلات الفائدة الصفرية التي بلغت هذه المستويات الفلكية، يتمثل في أنها من الممكن أن تقضي على جانب كبير من الإيرادات العامة للدول فقط لدفع تكلفة الفوائد عليها، وذلك إذا ما عادت معدلات الفائدة الى مستوياتها الطبيعية قبل الأزمة.
باختصار شديد إن التطورات الأخيرة التي تحدث في العالم توحي بقوة بأن ديون معدلات الفائدة الصفرية ربما تسبب الموجة الثانية من الازمة الاقتصادية العالمية، وأن ما تظنه الحكومات يساعدها على حل أزمتها الاقتصادية، ربما يتسبب في حدوث أزمات طاحنة لها.
في الأسبوع القادم أناقش مقترح يلف العالم حاليا وهو مقترح تشريع الميزانية المتوازنة Balanced budget law، أو تعديل الدساتير الوطنية لكي تجعل الميزانية المتوازنة التزام أساسي على الحكومات، ثم أعود مرة أخرى لأتابع تحليل تضخم الدين العام الامريكي إن أحيانا الله سبحانه وتعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق