في البداية لا بد من التأكيد على أن ما أكتبه هنا ليس دعوى لتقليد العلامات التجارية، أو أنني أوافق على عمليات التقليد، فمما لا شك فيه أن تقليد العلامات التجارية له كثير من الأضرار وهو عمل غير قانوني في كل دول العالم تقريبا، ولذلك غالبا ما تتم عمليات التقليد في ظل غياب القانون أو بعيدا عن أعين السلطات، حتى في الدول التي تتم فيها عمليات التقليد على نطاق واسع مثل الصين، غير أنه على الرغم من تعدد السلبيات المصاحبة لعمليات تقليد العلامات التجارية، فإن عمليات التقليد ليست كلها شرا، فالتجربة تشير إلى استفادة قطاعات عريضة من البشرية من عمليات التقليد على النحو الذي لا يمكن فيه التقليل من أهمية الآثار الإيجابية على مستويات الرفاه التي ينعم بها البشر من جراء عمليات التقليد، خصوصا بين الفئات ذات الدخل المحدود.
فمن خلال التقليد تمكنت فئات عريضة من سكان العالم من الوصول إلى بعض المنتجات التي لم يكن من الممكن تحت أي ظرف من الظروف أن تصل إليها لولا عمليات التقليد، على سبيل المثال تمكن مئات الملايين من البشر في الدول الفقيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من حمل الهواتف النقالة أو امتلاك الكثير من الأجهزة الإلكترونية من خلال شراء الأجهزة ذات العلامات التجارية المقلدة والرخيصة الثمن، خصوصا تلك المصنعة في الصين، حيث تتم عمليات التقليد على نطاق واسع، حتى من خلال منافذ تصنيع العلامات الأصلية، وذلك كوسيلة لزيادة إيرادات تلك المصانع من خلال عمليات التقليد. على سبيل المثال يذكر Neuwirth أن المصانع التي تقوم بتصنيع الملابس الرياضية ذات العلامات الشهيرة في الصين مثل "بوما" تقوم بتصنيع النسخ الأصلية منها في أوقات الدوام الرسمي، أما في المساء أو في العطلات فإنها تقوم بتصنيع النسخ المقلدة منها، وبعض هذه النسخ المقلدة عالية الجودة لدرجة أنه يصعب اكتشاف عملية التقليد حتى من جانب أصحاب العلامات الأصلية.
تقليد العلامات التجارية أو قرصنة حقوق الملكية لا يعد أمرا جديدا على البشر، وآثار عمليات التقليد واضحة في الكثير من الأحيان، على سبيل المثال يشير Neuwirth في كتابه Stealth of Nations: The Global Rise of the Informal Economy إلى انتشار عمليات تقليد الطبعات الأصلية للكتب في أوروبا في القرن السابع والثامن عشر لدرجة أن أكثر عمليات بيع الكتب كانت تتم أساسا من خلال النسخ المقلدة منها، الأمر الذي ساعد على انتشار الثقافة في المناطق الريفية في أوروبا من خلال تمكين ملايين الفقراء من الاطلاع على هذه الكتب المنخفضة الثمن مقارنة بثمنها الأصلي، إلى الحد الذي دعا المطابع التي تملك حقوق نشر النسخ الأصلية من تلك الكتب إلى طباعة نسخ مخصصة لبائعي الكتب الجوالين في أوروبا كوسيلة لرفع درجة توزيع هذه الكتب لديهم وزيادة دخولها، غير أن الأثر الناتج عن هذه العمليات كان واضحا في ذلك الوقت، وذلك من خلال انتشار الثقافة المصاحبة لقراءة هذه الكتب بفضل المقلدين لهذه النسخ. مثل هذه التجربة التاريخية تدفع بعض الفرق الموسيقية في الوقت الحالي إلى السماح للجمهور بتنزيل أسطواناتهم بصورة مجانية عن طريق الإنترنت وذلك بهدف تحقيق الانتشار الواسع بين الجماهير لأسطواناتهم، ومن ثم تعويض خسائر عمليات البيع من خلال إيرادات الحفلات الحية التي يقيمونها من وقت إلى آخر.
أكثر من ذلك فإن عمليات تقليد النسخ الأصلية من الكتب أسهمت في شهرة كتابها وانتشار عمليات القراءة لهم، ففي القرن الثامن عشر، بعد قرن تقريبا من وفاته تقريبا، كانت قصص ويليام شكسبير قد أشرفت على الاختفاء من أرفف دور بيع الكتب، كما أن الكثير منها أجري عليه الكثير من التعديلات، غير أن طبع النسخة الأصلية لقصصه بصورة غير قانونية، وأحيانا تقسيمها إلى أجزاء وبيع كل جزء ببنس واحد فقط، ساعد على انتشار الأعمال الأصلية لويليام شكسبير، كما أدت زيادة الطلب على تلك الكتب إلى تكثيف عمليات البحث عن القصص التي اختفت ولم تعد تطبع، وتمت إعادة طباعتها بصورة غير قانونية وهو ما أدى إلى الانتشار الهائل للكاتب وأعماله، أكثر من ذلك فقد أسهمت عمليات الطبع غير القانوني لقصص شكسبير إلى توقف عمليات تعديل القصص الأصلية وأصبح ويليام شكسبير من أشهر الروائيين في العالم بفضل عمليات التقليد التي تمت للنسخ الأصلية لرواياته، ولكن الأهم أنه مع انتشار هذه العمليات ارتفعت مستويات الثقافة لقطاع واسع جدا من سكان بريطانيا لم تكن لهم أي فرصة في الوصول إلى هذه المطبوعات لولا عمليات الطباعة غير القانونية لتلك الكتب.
بالطبع مثل هذه العمليات تؤدي إلى خسائر تلحق بالمالكين لحقوق الطبع أو العلامات التجارية، على سبيل المثال قدرت خسائر الشركات المنتجة لاسطوانات برمجيات الحاسوب في 2008 فقط بنحو 53 مليار دولار، كما يقدر أن أكثر من 40 في المائة من البرامج المثبتة على أجهزة الحاسوب في العالم مسروقة، بالطبع لقد كان من الممكن تعويض جانب كبير من هذه الخسائر لو أن عمليات تسعير هذه المنتجات تتم بصورة أكثر عدالة ومراعاة لدخول المستهلكين لهذه البرامج، فمما لا شك فيه أن من يشتري النسخ المقلدة من هذه البرامج سيكون أكثر استعدادا لشراء النسخ الأصلية منها لو أن أسعارها كانت في متناول يده، ولكن حرص منتجي هذه البرامج على تعظيم أرباحهم يدفعهم إلى فرض أسعار مرتفعة نسبيا لها مما يحفز عمليات التقليد ويحفز المستهلكين على المخاطرة بشراء النسخ المقلدة منها، فما معنى أن يصبح بيل جيتس أغنى رجل في العالم بفضل الأرباح التي تحققها مايكروسوفت المنتجة للبرمجيات ليعود ليتبرع بجانب كبير منها مرة أخرى للأغراض الخيرية، ألم يكن من الأولى في الأساس أن يحقق أرباحا معتدلة بتخفيض أسعار البرمجيات لتكون في متناول الفقراء من المستهلكين في العالم.
إن عمليات التقليد تمكن المنتج الأصلي من الإعلان على نطاق واسع عن منتجاته على النحو الذي يساعد على انتشار هذه المنتجات وارتفاع مستويات شهرتها، وأخيرا فإن عمليات التقليد تدفع المنتج الأصلي نحو المزيد من الابتكار وإدخال نسخ جديدة من السلعة التي ينتشر تقليدها، حتى تتوقف عمليات التقليد ويستطيع أن يتابع بيع النسخ الأصلية الجديدة غير المقلدة، فعندما يتم إدخال النسخ الجديدة من المنتج تتسع مبيعات الشركات المنتجة للموديل الجديد، إلى أن يتمكن المقلدون من تقليده وإنتاجه وتوزيعه على نطاق واسع، وهو ما يقلل من مبيعات الشركة من النسخ الأصلية، ورغبة منها في ضمان استمرار الطلب مرتفعا على منتجاتها لا بد من أن تستمر في عمليات الابتكار والتجديد على نحو مستمر، وهو ما يضمن استمرار نجاح هذه الشركات، وبمعنى آخر فإن عمليات التقليد أحد العوامل المحفزة للنجاح للشركات المالية للعلامات الأصلية.