تمثل حقوق الملكية الفكرية في عالم اليوم مصدرا مهما للدخل والناتج، وذلك في الاقتصادات التي تهتم بالبحث والتطوير، وتخصص لها ميزانيات ضخمة سنويا، سواء على المستوى الكلي Macro من خلال ما تخصصه الدول من ميزانياتها العامة لأغراض تمويل عمليات البحث والتطوير في اقتصادها، أو على المستوى الجزئي Micro وذلك من خلال مراكز البحوث والتطوير الخاصة بالشركات وما تخصصه لها سنويا من ميزانيات لهذا الهدف.
مثل هذا النوع من الإنفاق له مردود مهم على المديين المتوسط والطويل في صورة ابتكارات وتقنيات ومنتجات جديدة تحدث آثارا انتشارية في الاقتصاد المحلي لتستفيد منها الصناعات الأخرى أو القطاعات الأخرى في الاقتصاد، وبعضها بالطبع يكون له آثار انتشارية على المستوى العالمي، في حالة الابتكارات الرئيسة، ولذلك تقاس أهم مواطن تنافسية اقتصادات العالم اليوم من خلال القدرة الابتكارية للاقتصاد، والتي تضمن استدامة تفوق شركاته على المستوى الدولي سواء في القطاعات المدنية أو العسكرية.
يشير مكتب المحاسبة الحكومي GAO في الولايات المتحدة إلى أن حقوق الملكية الفكرية تلعب دورا مهما كأحد مكونات الاقتصاد الأمريكي، سواء من حيث مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، أو في دخول الأمريكيين أو مستويات رفاهيتهم، ولذلك يتوقع أن أي تراجع يحدث في معدل نمو الابتكارات في هذا الاقتصاد، سيترتب عليه تراجع في مستويات التجارة الخارجية الأمريكية مع باقي دول العالم. أكثر من ذلك فإن تراجع معدلات الابتكار يؤدي إلى تقليل معدلات التوظف وارتفاع معدلات البطالة.
وفقا لتقديرات GAO فإن الصناعات كثيفة حقوق الملكية الفكرية تعد حيوية للغاية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، ففي عام 2010 ساهمت هذه الصناعات بأكثر من خمسة تريليونات دولار من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما يمثل نحو 35 في المائة منه، وهي نسبة مرتفعة جدا. من ناحية أخرى، وفقا لتقديرات غرفة التجارة الأمريكية فإن الولايات المتحدة قامت بتصدير أكثر من تريليون دولار من منتجات الصناعات كثيفة حقوق الملكية الفكرية للعالم، أو ما يمثل نحو 74 في المائة من إجمالي الصادرات الأمريكية في ذلك العام. أكثر من ذلك فإن هذه الصناعات توفر وظائف لنحو40 مليون عاملا أي أكثر من ربع قوة العمل في القطاع الخاص الأمريكي.
مع تركز عمليات الابتكار في دول محددة وارتفاع تكلفة رسوم حقوق الملكية لهذه الابتكارات بالنسبة لمستخدمي تلك الحقوق في الدول الأخرى، أو ارتفاع أسعار المنتجات ذات العلامات التجارية المعروفة بالنسبة للمستويات الداخلية للمستهلكين، خصوصا في الدول الفقيرة، تحدث عمليات تقليد وقرصنة على نطاق واسع على المستوى الدولي، ويوما بعد يوم تتسع عمليات التقليد للعلامات التجارية وينتشر نطاقها بين دول العالم المختلفة سواء من حيث عدد أو نوعية السلع التي يتم تقليدها أو عدد الدول التي يتم فيها هذا النشاط عبر الوقت. على سبيل المثال، تشير غرفة التجارة الدولية إلى أن عمليات التقليد تؤثر في كل المنتجات في العالم تقريبا هذه الأيام، لتشمل الكتب والأفلام والأغاني والطعام والمشروبات المقلدة والأدوية والإلكترونيات والمعدات الكهربائية وقطع غيار السيارات والمنتجات الاستهلاكية بشكل عام، وبالطبع حقوق الملكية الفكرية في تقليد أسطوانات الموسيقى والأفلام وبرمجيات الحاسوب.
نظرا لارتفاع تكلفة عمليات البحث والتطوير، ولأهمية النتائج الاقتصادية المترتبة على الابتكار فقد حرصت دول العالم التي تلعب حقوق الملكية دورا مهما في اقتصاداتها على ضمان حماية ابتكاراتها وعلاماتها التجارية ومنتجاتها من التقليد أو القرصنة لما لتلك العمليات من آثار سلبية متعددة. على المستوى الاقتصادي تؤدي عمليات التقليد والقرصنة إلى التأثير السلبي في اتجاه الشركات نحو الابتكار الأمر الذي يؤدي إلى تراجع معدلات نموها، ومن ثم معدلات النمو على المستوى الكلي. من ناحية أخرى، فإن هذه العمليات تؤدي إلى فقدان الحكومات الإيرادات الضريبية المختلفة التي تحصل عليها في مراحل عمليات إنتاج وبيع وتصدير المنتجات في مواطن إنتاجها الرسمية.
الواقع أنه يصعب من الناحية الفعلية تقدير تكلفة تقليد العلامات التجارية أو تحديد حجم الخسائر الناجمة عن قرصنة حقوق الملكية الفكرية على المستوى العالمي، لسبب بسيط وهو أن أنشطة التقليد غالبا ما تتم في الخفاء بعيدا عن أعين السلطات، كما أن السلع المقلدة غالبا ما يتم تهريبها عبر الحدود، للتهرب من المواصفات والمقاييس التي يجب استيفاؤها في المنتجات المماثلة، ومن ثم فغالبا لا تسجل ضمن بيانات التجارة الخارجية الرسمية للدول، وفي الغالب تتم عمليات التجارة في هذه السلع من خلال التهريب لتفادي الجمارك.
تقف الصين في قلب عمليات تقليد العلامات التجارية في العالم، ففي دراسة لمركز التجارة الدولي أشار إلى أن انتهاك الصين لحقوق الملكية الأمريكية كلف الاقتصاد الأمريكي في عام 2009 فقط نحو مليون وظيفة وخسارة نحو 48.2 مليار دولار في صورة نقص في المبيعات من السلع المقلدة وخسائر حقول الملكية ورسوم التراخيص، وفي دراسة حديثة للجنة حقوق الملكية الفكرية الأمريكية قدرت هذه الخسائر بنحو 320 مليار دولار سنويا. نحن إذن نتحدث عن خسائر ضخمة لعمليات تقليد العلامات التجارية تلحق بالاقتصادات التي تلعب فيه حقوق الملكية دورا مهما، مثل الولايات المتحدة.
ولكن لماذا لا تقوم دول مثل الصين بإيقاف هذه الأنشطة غير القانونية؟ والتي بقليل من الجهد المخابراتي يمكن اكتشاف أماكنها والهجوم عليها لإيقاف هذه الأنشطة؟ الإجابة في غاية البساطة وهي أن الحكومات قد تغض البصر عن مثل هذه الأنشطة على المستوى العالمي لأسباب عديدة، أهمها أن هذه الأنشطة يعمل فيها مئات الآلاف من العمال، ومن ثم فإن إغلاق مراكز التقليد سينتج عنه ارتفاع في معدلات البطالة، وفي دولة مثل الصين حيث توجد أكثف كتلة سكانية في العالم، فإن توفير وظائف بديلة لهذا العدد الهائل من العمال من خلال المنافذ الرسمية قد يمثل عبئا هائلا على الدولة. في المقابل فإن إغلاق هذه المراكز يؤدي إلى تزايد الضغط الاجتماعي الناتج عن ارتفاع معدلات البطالة بين السكان.
وتقليد العلامات التجارية له العديد من الآثار السلبية أهمها أثره السلبي في الحافز على الابتكار، طالما أن هذه الجهود ستذهب هباء في النهاية ليستفيد منها طرف آخر، كما يؤثر في إيرادات الدول من الضرائب التي تفرض في المراحل المختلفة لعمليات إنتاج ونقل وتوزيع هذه السلع إن كانت تتم من خلال قنوات رسمية، وآثار أخرى كثيرة، ولكن هل من آثار إيجابية لتقليد العلامات التجارية؟ هذا ما سنتناوله في الأسبوع القادم ـــ إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق