يحتوي التقرير العالمي للتنافسية ضمن أجزائه المختلفة قائمة بالعوامل الأكثر تعقيدا في بيئة الأعمال في الدولة، حيث يطلب من المشاركين في الاستبيان من مسؤولي الشركات في قطاعات العمل الخاص تحديد أكثر خمسة عوامل تعقيدا في أداء الأعمال في الدولة من بين قائمة تضم 16 عاملا، ثم ترتيب هذه العوامل تنازليا وفقا لدرجة تعقيدها مناخ الأعمال في الدولة، واستنادا إلى إجابات مسؤولي الشركات يتم ترتيب الـ 16 عاملا تنازليا وفقا لنسبة تأثيرها في بيئة الأعمال في الدولة.
تمثلت قائمة العوامل الأقل تأثيرا في أداء الأعمال في المملكة لهذا العام من حيث الترتيب تنازليا في نظم الضرائب على الأرباح، حيث تنخفض بصورة واضحة في المملكة، ودرجة ملاءمة البنية التحتية، حيث يعتقد قطاع العمل الخاص بأن البنية التحتية جيدة بشكل عام، وانخفاض معدلات التضخم، وعدم استقرار السياسات، حيث يرى قطاع الأعمال الخاص أن السياسات الحكومية مستقرة، وضعف الصحة العامة، ونظم النقد الأجنبي، ودرجة انتشار الجريمة والسرقات، ودرجة عدم استقرار الحكومات لا تشكل تهديدا لأداء الأعمال، حيث يبلغ الأثر الإجمالي لهذه العوامل مجتمعة 11.7 في المائة تقريبا فقط من إجمالي العوامل ذات التأثير السلبي في أداء الأعمال.
أما أكثر العوامل تعقيدا لأداء الأعمال في المملكة من وجهة نظر مسؤولي الشركات فقد كانت نظم العمل المقيدة، أي التي تقيد استخدام العمال بواسطة شركات القطاع الخاص، ومن الواضح أن هذا العامل يعكس تذمر القطاع الخاص من القوانين والإجراءات المختلفة التي أصدرتها وزارة العمل في المملكة في السنوات الأخيرة لضبط إيقاع سوق العمل الوطني ولرفع مستويات توظيف قوة العمل الوطنية في سوق العمل الخاص من ناحية ورفع مساهمة النساء في قوة العمل من ناحية أخرى.
والواقع أنه بمراجعة تطور أهمية هذا العامل عبر السنوات الخمس الماضية يلاحظ أنه في تقرير التنافسية العالمية لعام 2009/2008 كان هذا العامل يحتل الترتيب الثالث بين العوامل الأكثر تعقيدا لأداء الأعمال في المملكة، غير أنه بدءا من تقرير التنافسية العالمية 2010/2009 أخذ هذا العامل يحتل المركز الأول بين مجموعة العوامل الأكثر تعقيدا على أداء الأعمال، كما أخذت أهميته النسبية في التزايد بمرور الوقت، فقد كان يمثل 14.5 في المائة فقط من إجمالي العوامل المقيدة للأعمال في 2009/2008 غير أن وزن هذا العامل أخذ في التزايد من ذلك الحين، وفي تقرير هذا العام بلغ وزنه 25.6 في المائة من إجمالي العوامل المؤثرة في أداء الأعمال في المملكة، ما يدل على تزايد شعور رؤساء الشركات بتأثير نظم العمل في أعمالهم.
وواقع الأمر لا بد أن نكون منصفين عندما نقيم تأثير هذا العامل في بيئة الأعمال في المملكة، فالقطاع الخاص يحاول دائما تعظيم ربحيته وتدني تكاليفه إلى أدنى مستوى ممكن، بغض النظر عن الاعتبارات المرتبطة بالمصلحة القومية في غالب الأحوال، على الجانب الآخر فإن وزارة العمل لديها رؤية أعمق وأشمل، تحاول أن تضمن بها استقرار سوق العمل الوطني من خلال محاولة ضمان توظيف قوة العمل الوطنية وخفض معدلات البطالة فيما بينها إلى أدنى مستوى ممكن، وذلك لتجنب الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن ذلك، والتي يمكن أيضا أن تنعكس سلبا على أداء الأعمال وبيئتها في المملكة، لكن مسؤولي الشركات يتجاهلون هذه المخاطر الكامنة، أو قد لا يقدرون آثارها. ومن ثم فإن حرص وزارة العمل على ضمان أن يتم توجيه الجانب الأعظم من الوظائف التي يتم فتحها في القطاع الخاص للعمالة الوطنية، لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه من العوامل المقيدة لأداء الأعمال في المملكة، إنما من العوامل المساعدة على ضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المستوى الكلي.
وكي نكون منصفين أيضا لا بد من الإشارة إلى أن جميع مؤسسات قطاع الأعمال الخاص في الخليج تنظر إلى هذا العامل على أنه من أهم العوامل المقيدة في بيئة الأعمال، حيث يحتل هذا العامل المركز الأول في قائمة العوامل المقيدة للأعمال في عمان والإمارات، بينما احتل المركز الثاني في قائمة العوامل المقيدة للأعمال في الكويت، والمركز الخامس في قطر، والمركز السادس في البحرين. معنى ذلك أن قطاع الأعمال الخاص السعودي ليس الوحيد الذي يواجه التأثيرات السلبية لنظم تشغيل قوة العمل في الدولة، فحكومات دول الخليج الأخرى لديها الهموم نفسها فيما يتعلق بسيطرة قوة العمل الوافدة على أسواق العمل الوطنية، وتفضيل المواطنين للعمل في القطاع الحكومي.
أكثر من ذلك فإن حكومات دول الخليج بدأت تستشعر الخطر القادم الذي يحمله المستقبل على أسواق العمل فيها، نظرا لتركيبة هيكل السكان الذي يتسم بالفتوة، حيث يمثل صغار السن أكثر من 40 في المائة من السكان في معظم الحالات، الأمر الذي يعكس ارتفاع أعداد الداخلين الجدد سنويا إلى سوق العمل، وهو ما يتطلب ضرورة العمل على فتح وظائف جديدة لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة من خريجي النظام التعليمي والفني فيها، وبما أن مجالات فتح هذه الوظائف في القطاعات الحكومية بلغت مستوياتها القصوى تقريبا في معظم هذه الدول، فإن المجال الوحيد حاليا لتوظيف العمالة الوطنية يعتمد على دفع القطاع الخاص على استيعاب الجانب الأكبر من الخريجين من قوة العمل الوطنية وتقليل الاعتماد على العمال الأجانب، ولأن قطاع الأعمال الخاص يفضل استجلاب العمالة الرخيصة من الخارج لتقليل تكلفته وتعظيم هوامش الأرباح التي يحققها، فإن مثل هذه النظم والإجراءات لا بد أن تلقى مقاومة.
مشكلة وزارة العمل في المملكة هي أنها قد تملك العصا، لكن لا يوجد لديها القدر الكافي من "الجزر" لمكافأة قطاع الأعمال الخاص على توظيف العمالة الوطنية، نظرا لغياب أهم العوامل التي يمكن أن تشجع القطاع الخاص على توظيف العمالة الوطنية وهي الضرائب على الأرباح، ولقد حاولت وزارة العمل دفع مؤسسات القطاع الخاص على توظيف العمالة الوطنية من خلال فرض رسوم سنوية على كل عامل وافد يعمل في المؤسسات التي لا تستوفي شروط السعودة، لكن هذه الرسوم جاءت صغيرة من حيث القيمة على النحو الذي يسهل معه تحملها من دون أن يكون لها تأثير جوهري في معدلات الأرباح، أو تقاسم هذه الرسوم مع العمال الأجانب بتحميلهم جزءا منها في صورة تخفيض الأجور، بحيث تتمكن مؤسسات القطاع الخاص من التنصل من مثل هذه النظم بسهولة. من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن يزداد شعور قطاع الأعمال الخاص بعبء النظم والقواعد المنظمة لسوق العمل الوطني.
في الأسبوع القادم نتناول بقية العوامل المقيدة لأداء الأعمال في المملكة - إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق