لم يحدث أن أعلنت الولايات المتحدة توقفها عن خدمة دينها العام، ولذلك
لا يمكن الحديث بشيء من الواقعية عن المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها العالم إذا
ما فشل الكونجرس في رفع سقف الدين، وخلت
الخزانة الأمريكية سوى من إيرادات الضرائب والرسوم العامة، وتوقفت أمريكا عن سداد
فوائد السندات في مواعيدها أو دفع قيمة ما يستحق من تلك السندات، وللأمانة لا
يمكننا تقييم استجابة اسواق الدين لفشل أكبر دولة مدينة في العالم في خدمة ديونها
بدقة، وكيف يؤثر ذلك على أسواق الديون الأخرى في العالم. فمن المؤكد أنها ستتوقف
عن العمل على المستوى العالمي، ومن المؤكد أن الدولار سوف يتراجع، وسوف ترتفع
معدلات الفائدة على السندات الأمريكية، وسوف تنطلق من الولايات المتحدة صدمة مالية
تهز العالم أجمع، ربما تتجاوز في تأثيرها صدمة سوق المساكن الامريكي التي أدت الى
انطلاق أكبر أزمة مالية عرفها العالم منذ الكساد العالمي العظيم في نهاية
العشرينيات من القرن الماضي.
لم يحدث أن تجرأ الكونجرس منذ أن تم تعديل الدستور الأمريكي بفرض
ضرورة الحصول على موافقة مجلس النواب قبل أي عملية لرفع الحد الأقصى المسموح
للحكومة الأمريكية بالاقتراض في نطاقه أن تم رفض رفع سقف الدين، وكانت موافقة
الكونجرس على رفع سقف الدين تمر في أغلب الأحوال على نحو شبه اوتوماتيكي، حتى جاء
موعد رفع سقف الدين الأمريكي السابق في أغسطس 2011، حيث تم تأجيل الموافقة على رفع
سقف الدين حتى آخر لحظة قبل أن يقر الكونجرس رفع سقف الدين والسماح للحكومة
الأمريكية بالاقتراض حتى سقف 16.7 تريليون دولارا والذي ستصله الخزانة الأمريكية
في 17 اكتوبر القادم.
على الرغم من رفع سقف الدين في موعده، إلا أنه في خضم الخلافات
العميقة التي حدثت بين الحزبين اضربت الأسواق المالية في العالم، وتراجعت ثقة
المستهلكين وقطاع الأعمال الأمريكي بصورة كبيرة، وارتفعت معدلات البطالة بسبب
تراجع النمو في الوظائف في سوق العمل الأمريكي، وجاءت ثالثة الأثافي عندما تم
تخفيض تصنيف الدين الأمريكي من جانب مؤسسة ستاندرد أند بور لأول مرة لتقفد
الولايات المتحدة تصنيفها الممتاز لأول مرة في تاريخها، واستمر التأثير السلبي لما
حدث لعدة أشهر حتى استعادت ثقة المستهلكين وقطاع الأعمال مستوياتها قبل محادثات
رفع سقف الدين.
وفقا لدراسة لمكتب الميزانية الأمريكية بالكونجرس عن سقف الدين
الأمريكي، امتدت آثار تعثر محادثات رفع سقف الدين في أغسطس 2011 حتى عام 2012، على
الرغم من رفع سقف الدين قبل انتهاء الموعد المحدد، وذلك نتيجة لتراجع ثقة
المستهلكين وقطاع الأعمال، وانخفاض أسعار الأسهم وارتفاع تكلفة الاقتراض بشكل عام
في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وقد أشارت بيانات مؤشر ستاندرد أند بور 500، إلى
أن أسعار الأسهم الأمريكية تراجعت بنسبة 17% في الفترة التي حدث فيها النزاع حول
رفع سقف الدين في اغسطس 2011، ولم يسترد المؤشر خسائره حتى النصف الأول من 2012،
وهو ما أدى الى تراجع ثروة القطاع العائلي في الولايات المتحدة بحوالي 2.4 تريليون
دولارا، الأمر الذي أثر سلبا على الانفاق الاستهلاكي والذي يحتل أهمية استثنائية
في الانفاق الكلي في الولايات المتحدة.
لسوء الحظ فإن رفع سقف الدين يتزامن هذه المرة مع رفض الكونجرس تمرير
الميزانية الأمريكية للعام المالي 2013/2014، وأصبحت المصالح الحكومية الأمريكية
بلا اعتمادات مالية لدفع رواتب العاملين فيها، ومن المتوقع أنه اذا استمر الإغلاق
لفترة طويلة أن تتعثر جهود استعادة النشاط ويواجه الاقتصاد الأمريكي كسادا مزدوجا Double dip، بعد أن كان قد تهيأ للخروج من الأزمة وأخذ
الاحتياطي الفدرالي يلمح بأنه سوف يخفض من عمليات شراء السندات الأمريكية وإنهاء
سياسات التوسع النقدي المطبقة منذ بداية الأزمة والمعروفة بسياسات التيسير الكمي.
من المؤكد أن هذه الاضطرابات سوف يترتب عليها تأثر وول ستريت وأسواق
المال في العالم، والملاحظ حاليا أن جميع أسواق المال في العالم تتأثر بصورة أو
بأخرى باستمرار الأزمة الدائرة حاليا، ومثل هذه المخاطر تؤثر بشكل سلبي على خطط
قطاع الأعمال الخاص ويترتب عليها تراجع في مستويات الانفاق الاستهلاكي والاستثماري
ومن ثم معدلات النمو.
إذا ما رفض الكونجرس رفع سقف الدين فسوف تقتصر السيولة المتاحة في
الخزانة الأمريكية على ايرادات الضرائب والرسوم العامة والإيرادات الأخرى، وسوف
تتوقف معها مدفوعات المساعدات الاجتماعية وبرامج الرفاه. للأسف فإن من يقرأ
تصريحات الجمهوريين ربما يصل إلى قناعة بأنهم ماضون في رفض رفع سقف الدين مثلما
أغلقوا الحكومة الأمريكية بالأمس، على سبيل المثال يلمح جون بونر في لقاء له مع
بلومبرج بأن على الحكومة الأمريكية أن تعيد ترتيب أولويات الانفاق بحيث تدفع
الفائدة المستحقة على ديونها في موعدها وبهذا الشكل تظهر التزامها لحاملي السندات
وتتفادى إعلان توقفها عن خدمة ديونها، وهو بلا شك كلام غير مسئول، أولا لأن عملية
اعادة ترتيب الأولويات مسألة لن تتم بين يوم وليلة، ولا شك أنها ستستغرق وقتا
والأسواق لا تملك رفاهة الانتظار، وثانيا لأنه يتجاهل الأثر المدمر لفقدان الثقة
في قدرة الاقتصاد الأمريكي على خدمة ديونه على الأسواق والنشاط الاقتصادي العالميين،
وهناك تخوف من أن تزداد عمليات بيع السندات الأمريكية قبل 17 اكتوبر القادم مع
تزايد مخاطر عدم رفع سقف الدين، وهو ما سوف يرفع معدلات الفائدة على نحو يهدد
تعافي الاقتصاد الأمريكي.
غير أنني ما زلت أعتقد بأن الكونجرس سوف يقر رفع سقف الدين، أو أن
الرئيس الأمريكي سوف يجد مخرجا لتجاوز رفع سقف الدين، فبعض المراقبين يرون أن
للقضية بعد قانوني، حيث أن الحكومة الأمريكية لديها التزام تعاقدي بدفع التزاماتها
عندما يحل موعد هذه الالتزامات، ولذلك يرى البعض أنه إذا رفض الكونجرس رفع سقف
الدين فلا بد وأن يبحث الرئيس عن مخرج قانوني لإيجاد موارد مالية للخزانة
الأمريكية حتى تتمكن الحكومة الأمريكية من سداد التزاماتها القانونية بما في ذلك
تلك الخاصة بمدفوعات خدمة الدين، وقد أشارت النيويورك تايمز أن الخبراء يؤكدون
بأنه أمام الرئيس الأمريكي عدة سبل لتجاوز رفض رفع سقف الدين، مشيرين إلى الجزء الرابع
من التعديل الرابع عشر للدستور والأجزاء الأخرى التي تسمح له بأن يفعل ذلك. فهل سيواجه
العالم هذه المخاطر الكامنة؟ للأسف علينا الانتظار حتى 17 أكتوبر القادم حتى نعرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق