الخميس، أكتوبر ١٠، ٢٠١٣

التحديات التي تواجه الرئيس الجديد للاحتياطي الفدارلي

يتوقع في الفترة القادمة أن يقوم الرئيس الأمريكي باراك أوباما باختيار رئيس جديد للاحتياطي الفدرالي الأمريكي ليحل محل الرئيس الحالي بن برنانكي، والذي اظهر قدرة كبيرة على الابتكار في ادخال أدوات غير تقليدية للسياسة النقدية للتعامل مع الأزمة الحالية، ونظر للظروف الحالية التي يمر بها العالم، وتمر بها الولايات المتحدة على وجه الخصوص ينظر الى هذا القرار على أنه ربما يكون أهم القرارات التي يتخذها الرئيس الأمريكي هذا العام، ذلك أن عملية اختيار الشخص المناسب لهذا المنصب تعتبر مسألة حرجة ليس فقط لأمريكا وإنما أيضا للأسواق المالية عبر العالم أجمع. فهناك حاليا العديد من نقاط التعثر في الاقتصاد الأمريكي مثل معدلات البطالة في سوق العمل الأمريكي، ومشكلة الديون السيادية في أوروبا، وتراجع معدلات النمو في الصين، والسياسات الجديدة لرئيس الوزراء الياباني آبي، وغيرها من القضايا التي يمكن أن تخلق تحديات كبيرة للرئيس الجديد للاحتياطي الفدرالي.
رئيس الاحتياطي الفدرالي يقوم بالعديد من الأدوار المتعلقة بإدارة السياسة النقدية والرقابة على الجهاز المصرفي وتنظيم أعماله ومراقبة الأسواق بشكل عام، وإن كانت أهم أدواره أنه هو الشخص الذي يتولى قيادة عملية صناعة السياسة النقدية في الولايات المتحدة خصوصا ادارة احتياطيات النظام المصرفي والتي تؤثر على كمية النقود المتاحة للمتعاملين في الاقتصاد الأمريكي بما في ذلك الحكومة، ويأتي هذا الاهتمام الكبير من المراقبين بشخصية الرئيس الجديد للاحتياطي الفدرالي من منطلق أن سير عملية صناعة السياسة النقدية واتجاهاتها سوف تعتمد على شخص الرئيس الجديد، فالسياسة النقدية الحالية لا بد وان تستمر للتأكد من خلق الوظائف على نحو مناسب، والتأكد من تحقيق الاقتصاد الأمريكي لمعدلات مناسبة من النمو في ظل مستويات معقولة من التضخم تتماشى مع المعدلات المستهدفة والتي تدور حاليا حول 2%، ولعل أهم ما تحتاج إليه الأسواق في الولايات المتحدة والعالم في الوقت الحالي هو التأكيد على استمرار اتباع نفس السياسات التي تم تطبيقها في عهد الرئيس الحالي، وأن الرئاسة القادمة سوف تسير في نفس الاتجاه بحيث لا يترتب على تبديل مقعد الرئيس أي تعديل جوهري فيها.
التحديات التي ستواجه الرئيس الجديد للاحتياطي الفدرالي غير مسبوقة في هذه المرحلة الحرجة، ذلك أن هناك قائمة طويلة من القضايا والسياسات التي تنتظر قرارات حاسمة من الرئيس الجديد، والتي على رأسها سياسات التيسير الكمي Quantitative Easing، ومعدلات الفائدة الصفرية، ومعدلات البطالة المستهدفة، ومستوى التضخم المستهدف.. الخ وذلك بسبب استعداد الاحتياطي الفدرالي لبدء تحويل اتجاهات سياساته النقدية، الأمر الذي يجعل من فهم هذه المتغيرات وطبيعتها والعوامل المؤثرة فيها أمرا حيويا بالنسبة لمن سيتولى هذا المنصب. فحجم السيولة النقدية التي تم ضخها منذ بداية الأزمة في الاقتصاد الأمريكي ضخم جدا، ولم يحدث في التاريخ الأمريكي أن تم ضخ هذا القدر من السيولة في النظام النقدي الأمريكي. فكيف سيتم الخروج من الاستراتيجية الحالية واعادة تعديل وهيكلة ميزانية الفدرالي الاحتياطي للتخلص من عدة تريليونات من السندات التي يحتفظ بها الاحتياطي الفدرالي نتيجة لعمليات التيسير الكمي المكثف التي صاحبت الأزمة الحالية؟ أكثر من ذلك فإن وجهات نظر ورؤى رئيس الاحتياطي الفدرالي حول بعض القضايا مثل درجة التفاعل بين السياستين النقدية والمالية، ودور الاحتياطي الفدرالي في عمليات تنظيم القطاع المصرفي، والتي يمكن أن يترتب عليها تغير جوهري في الصناعة المصرفية وعملية إدارة السياسة النقدية في الولايات المتحدة، تعد مهمة.
لعل أهم التحديات التي تواجه الرئيس القادم هو متابعة برامج التحفيز النقدي التي تم تطبيقها أثناء الأزمة الحالية والتي كانت تهدف في الأساس الى خفض معدلات الفائدة لتحفيز الاقتصاد الأمريكي على الخروج من الأزمة، فمع حلول عام 2008 واشتعال الأزمة المالية العالمية حرص الاحتياطي الفدرالي على خفض معدل الفائدة على الأموال الفدرالية Federal Funds Rate، أي على الاحتياطيات المتبادلة بين البنوك والذي يمثل قاعدة هيكل معدلات الفائدة الأمريكية، الى مستويات قريبة من الصفر لخفض تكلفة الائتمان ودفع مستويات الطلب الكلي، وعندما لم يستجب الاقتصاد الأمريكي تم اللجوء الى استخدام أدوات غير تقليدية وعلى رأسها التيسير الكمي، والتيسير الكمي هو قيام البنك المركزي بشراء السندات بهدف التأثير على هيكل معدلات العوائد السوقية للسندات التي يشتريها الاحتياطي الفدرالي، وذلك من خلال التأثير الذي تتركه عمليات الاحلال التي يقوم بها المستثمرون في محافظهم المالية على معدلات العائد لجانب كبير من الأصول المالية.
ترتب على التوسع في هذه السياسة ضخ كميات ضخمة جدا من السيولة في الاقتصاد الأمريكي أصبحت تهدد بتعرضه لضغوط تضخمية شديدة في أي وقت ما لم يتم التعامل بكفاءة مع هذه السيولة. فقد بلغت ميزانية الاحتياطي الفدرالي قبل الكساد العظيم الحالي حوالي 900 مليار دولارا فقط، وقد ترتب على سياسات التحفيز النقدي بأشكالها المختلفة الى زيادة حجم الميزانية بأكثر من ثلاثة أضعاف لتصل حاليا الى حوالي 3.3 تريليون دولارا.
يفترض من الناحية النظرية أن تجد هذه النقود الجديدة سبيلها الى قطاع الأعمال في صورة قروض ائتمانية في ظل تضاؤل معدلات الفائدة، وهو ما لم يحدث، فقد تحول الجانب الأكبر منها إلى ودائع للبنوك الكبرى في الاحتياطي الفدرالي، لكي تحصل منها على عوائد من الاحتياطي الفدرالي ذاته، أو تحولت الى المضاربة في أسواق المال في الوول ستريت أو في بورصات العالم، على عكس ما كان متوقعا أن تتحول هذه السيولة الى ائتمان لقطاع الأعمال الخاص بشكل أساسي لكي تساعده على زيادة مستويات الاستثمار ومن ثم رفع مستويات التوظف والتخفيف من مشكلة البطالة المرتفعة التي صاحبت الكساد الحالي.
وفقا لخطة التيسير الكمي 3 التي يتم تطبيقها حاليا يقوم الاحتياطي الفدرالي بشراء حوالي 85 مليار دولارا من السندات شهريا سواء من سندات الخزانة الأمريكية أو السندات المغطاة بقروض للرهون العقارية، وهو رقم ضخم جدا مقارنة بخطط التيسير الكمي 1 و 2 السابقتين، ولقد أدى التوسع النقدي الكبير الذي قام به الاحتياطي الفدرالي إلى تزايد حجم الاحتياطيات الزائدة Excess Reserves للبنوك بصورة غير مسبوقة من 45 مليار دولارا فقط في 2007 الى 1.9 تريليون دولارا حاليا، الأمر الذي يعكس ما يعرف في علم الاقتصاد بظاهرة مصيدة السيولة Liquidity Trap، حيث فضلت البنوك الاحتفاظ بأموالها في صورة سائلة على شكل مودعات لدى الاحتياطي الفدرالي بدلا من اقراضها وتحمل مستويات مرتفعة من المخاطر، وقد أدى هذا الإجراء من جانب البنوك إلى معادلة تأثير سياسات التوسع النقدي التي اتخذها الاحتياطي الفدرالي لزيادة السيولة بتحويلها الى مودعات لديه مرة أخرى، وأيضا تحقيق دخل منها الأمر الذي ساهم في تعميق أثر الأزمة والحد من الآثار الإيجابية لسياسات التيسير الكمي. فمع انطلاق الأزمة المالية العالمية قام الاحتياطي الفدرالي باتخاذ بعض الإجراءات في المجال المالي منها أخذ موافقة الكونجرس على أن يدفع فوائد على المودعات التي تقوم البنوك بإيداعها لديه، ومن ثم اصبحت البنوك الأمريكية تحصل حاليا على دخول من المودعات التي تحتفظ بها لدى الاحتياطي الفدرالي.
من ناحية أخرى فإن جانبا كبيرا من السيولة التي تم خلقها في إطار سياسات التيسير الكمي الحالية قد وجدت طريقها للأسواق المالية وأسواق الأصول الأمر الذي أسهم في نمو فقاعات الأصول مثل أسعار الأسهم والسلع، كما غذت عمليات المضاربة فيها الأمر الذي أدى الى زيادة حدة التقلبات في أسعارها.
لقد أعلنت اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح بأنها ستستمر في مراقبة التطورات في سوق العمل الأمريكي، فإذا لم يحدث تحسن جوهري، فإن اللجنة ستستمر في عمليات شرائها للسندات، وكذلك أدواتها الأخرى حتى يتحسن وضع سوق العمل في ظل استقرار الأسعار، وقد تم تعريف تحسن سوق العمل بأنه الحالة التي تنخفض فيها البطالة إلى معدل 6.5 في المائة، من ناحية أخرى فإنه أخذا في الاعتبار أن الضغوط التضخمية التي صاحبت التوسع النقدي الحالي لم تؤد إلى الضغط على الأسعار نحو الارتفاع أو أن يخرج معدل التضخم الأمريكي عن نطاق السيطرة حتى اليوم، أو حتى عن المستويات التي يستهدفها الاحتياطي الفيدرالي بشكل دائم، فإن الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في اتباع سياسة معدلات الفائدة الصفرية حتى يرتفع التضخم عن 2.5 في المائة، وهو مستوى أعلى من المستوى المستهدف للنمو من الاحتياطي الفيدرالي الذي يساوي 2 في المائة بنصف في المائة، كما أن النظرة الحالية لمعدلات التضخم تضع هذه المعدلات عند مستوى أقل من 2.5%.
هناك اعتقاد بأن الاحتياطي الفدرالي يسير حاليا في اتجاه وقف عمليات شراء السندات والتي تتم في اطار بسياسات التيسير الكمي، ربما هذا الخريف، وبالتالي تمهيد السبيل لعودة معدلات الفائدة شبه الصفرية حاليا الى مستوياتها الطبيعية قبل الأزمة، وقد بدأت بالفعل بعض شواهد هذا التحول، حيث أنه بدءا من مايو الماضي أخذت معدلات الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية في الارتفاع، وكانت لجنة السوق المفتوح قد رهنت عمليات ايقاف شراء السندات بمدى التحسن الذي يحدث في معدلات البطالة، والذي من الواضح أنه يسير على نحو غير مرض وفقا للتقارير الأخيرة لسوق العمل الأمريكي.
غير أن وجهات النظر تختلف بشكل واضح حول التوقيت المناسب لتغيير اتجاه السياسة النقدية في الولايات المتحدة، فالاحتياطي الفدرالي متلهف حاليا على الخروج من السياسات النقدية غير التقليدية التي يتبعها منذ بداية الأزمة والعودة مرة أخرى لأسس السياسة النقدية التقليدية، والتي يقف في مركزها بالطبع رفع معدلات الفائدة شبه الصفرية على الأموال الفدرالية، وهو إجراء على ما يبدو أنه صعب التحقيق، على الأقل في الوقت الحالي نظرا للمخاطر التي يمكن أن تصاحبه على عمليات تعافي الاقتصاد الأمريكي، حيث يحذر بعض المراقبين حاليا من وقف عمليات شراء السندات، على اعتبار أن الشروط التي تم وضعها لعملية التوقف لم تتحقق بعد، وأن البيانات التي تتدفق من سوق العمل الأمريكي ليست مشجعة على النحو المناسب، المشكلة الأساسية هي أن أي تحرك في الوقت الحالي بأي خفض في عمليات الشراء حتى ولو بمقدار بسيط سوف تنظر اليه الأسواق على أنه وقف لعمليات التيسير الكمي وما يمكن أن يصاحب ذلك من اضطرابات في الأسواق وعلى مجريات النشاط الاقتصادي، والمخاطر المصاحبة لهذا التوجه كثيرة جدا، فلا شك أن معدلات الفائدة سوف ترتفع وهو ما قد يهدد التعافي الاقتصاد الأمريكي، بصفة خاصة لتأثيراتها السلبية على سوق المساكن في الولايات المتحدة، والذي يمثل أحد أهم القطاعات في الاقتصاد الأمريكي، وكذلك التأثير السلبي على سوق العمل.
من وجهة نظري أعتقد أن اصعب التحديات التي ستواجه الرئيس القادم للاحتياطي الفدرالي ليست هي عملية الاستمرار في شراء السندات من عدمه، وانما في كيفية تطبيق استراتيجية الخروج من السياسات الحالية والآليات التي سينسحب بمقتضاها الاحتياطي الفدرالي من الوضع الحالي بإعادة سحب النقود التي تم اصدارها، واعادة تعديل هيكل ميزانية الاحتياطي الفدرالي لتعود الى سابق عهدها قبل الأزمة. فكيف سيتحول الرئيس الجديد بالسياسة النقدية من السياسة النقدية التوسعية الى سياسة طبيعية؟ وما هي مراحل هذا التحول ودرجة سرعته .. الخ؟ ذلك أن الخروج من الاستراتيجية الحالية يحتاج الى عناية فائقة لأن التسرع في عمليات الخروج ربما يؤثر بشكل سلبي على تعافي الاقتصاد الأمريكي ويجهض الجهود التي بذلك لتحسين أداءه. من ناحية أخرى فإن التأخر في الخروج من الممكن أن يؤدي الى زيادة أسعار الأصول في ظل المعدلات المنخفضة للفائدة، وهو ما يمكن أن يترتب عليه تكوين فقاعات إضافية لأسعار الاصول.
كان الاحتياطي الفدرالي قد كشف أكثر من مرة عن استراتيجيته للخروج من سياسات التوسع النقدي في أعقاب الاتهامات التي وجهت له بدفع الاقتصاد الأمريكي نحو التضخم الجامح. اليوم سيتخلى المهندس الأصلي لاستراتيجية الخروج عنها ليتم تطبيقها من خلال رئيس جديد، عليه أن يتولى بعناية فائقة مهمة التخلص من تريليونات الدولارات من السندات بدون أن يؤدي ذلك الى رفع معدلات الفائدة حتى لا تتأثر جهود استعادة النشاط الاقتصادي بصورة سلبية.
ليس فقط ذلك وإنما على الرئيس الجديد أن يراقب التضخم بعناية شديدة، حيث ينظر حاليا الى مخاطر التضخم التي تحيط بالاقتصاد الأمريكي على أنها مخاطر حقيقية، في ظل فيضان السيولة الهائل الذي يغرق سوق النقود في الولايات المتحدة حاليا، والتدخل بسرعة للحيلولة دون تفاقم الضغوط التضخمية إذا ما تطورت الظروف على هذا النحو.
أكثر من ذلك فإن على الرئيس الجديد أن يتابع في ذات الوقت معدلات البطالة واتجاهاتها وضغوط سوق العمل الأمريكي، بصفة خاصة البطالة طويلة الأجل والتي تعد أخطر سمات سوق  العمل الأمريكي في الازمة الحالية، لذلك فإن مهمة الرئيس القادم للاحتياطي الفدرالي لن تكون سهلة، حيث يجب عليه تفكيك هذه التشابكات المعقدة، ومن المؤكد أنه مع تغير رئيس الاحتياطي الفدرالي فإن الأسواق سوف تختبر اتجاهاته في السنة الأولى تقريبا حتى تتضح معالم عملية صناعة السياسة النقدية على يديه، ومن ثم تسود حالة من عدم التأكد خلال هذه الفترة، ربما يبدو هذا الأمر طبيعيا في الفترات العادية، ولكن عندما يكون الاقتصاد الأمريكي يمر بحالة كساد عظيم فإن الأوضاع تختلف وتصبح حساسية الأسواق أعلى لأدنى تغير في اتجاهات السياسة النقدية. فهل سيستمر الرئيس الجديد في انتهاج سياسات متسقة مع السياسات التي اتبعها بن برنانكي لتقوية تعافي النشاط الاقتصادي للولايات المتحدة واستكمال رحلة الخروج من الكساد العظيم الذي يعيشه الاقتصاد الأمريكي منذ 2007؟ أم أنه سيسلك سبيلا آخر لاستكمال عمليات الخروج من الكساد؟ لا شك في أن إن الإجابة على هذا السؤال تعتمد على من سيكون الرئيس الجديد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق