الاثنين، فبراير ٠٢، ٢٠٠٩

هل يشهد العالم نهاية اليوان الرخيص

نشر هذا المقال في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 2/2/2009
حينما تقوم دولة ما بفرض قيمة لعملتها تقل عن القيمة الفعلية لها، فان صادرات تلك الدولة إلى باقي دول العالم تصبح أرخص، بينما وارداتها من باقي دول العالم تصبح أكثر تكلفة، وفي ظل توافر شروط محددة حول مرونات الطلب والعرض للصادرات والواردات، أو ما يسمى بشرط مارشال/ليرنر، فان مثل هذا الوضع يتسبب في حدوث فائض تجاري للدولة صاحبة العملة الرخيصة، حيث ترتفع القدرة التنافسية لتلك الدولة في مقابل شركاءها التجاريين، وهو ما يعني أن شركاء تلك الدولة في التجارة سوف يخسرون فرص توظيف عمالهم لصالح معدلات أعلى من التوظف في تلك الدولة.

تشير آخر التقارير إلى أن قيمة اليوان أو الرنيمبني (عملة الصين) حاليا تقل بحوالي 30% عن القيمة الحقيقية له. اليوان الرخيص هو احد الأسلحة الفتاكة التي وجهتها الصين إلى الصناعة العالمية، وبصفة خاصة الأمريكية منها، وهو ما ساعد على الإسراع بإحلال السلع الصناعية الصينية محل البضائع الأمريكية، ففي غضون فترة زمنية قصيرة تحولت الصين إلى أكبر مصدر للولايات المتحدة، وصاحبة اكبر فائض تجاري في العالم. ومما يدعم سياسة اليوان الرخيص هو أن النمو الصيني يعتمد على معدلات منخفضة للأرباح للشركات وكذلك على معدلات عائد منخفضة على استثمار رأس المال بشكل عام. النمو الصيني المعتمد على العملة الرخيصة لا يضر فقط بالولايات المتحدة وإنما يضر أيضا بجيران الصين من النمور الآسيوية، حيث يخلق ميزة لصالح الصين في مقابل منافسيها من المصنعين الجدد في المنطقة. ولذر الرماد في العيون استخدمت الصين احتياطياتها من الفوائض التجارية في الاستثمار في شراء السندات الأمريكية للتخفيف من حدة نقص السيولة التي يمكن أن تنشأ عن تصاعد الاختلال في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين. الصين متهمة ومنذ وقت طويل بأنها تتلاعب بعملتها اليوان وهي مطالبة الآن من الإدارة الأمريكية الجديدة برفع قيمة عملتها بحيث يرتفع اليوان الصيني في مقابل الدولار الأمريكي، الأمر الذي يشجع الصادرات الأمريكية إلى الصين ويخفف من سيل الواردات من تلك الدولة، بما يسمح بتقليل العجز التجاري الأمريكي.

من المؤكد أن صانع السياسة الصيني كان يحب الرئيس بوش لان إدارته فتحت الباب على مصراعيه لسيطرة السلع الصينية على الأسواق الأمريكية، ولم تتخذ إجراءات للحيلولة دون ذلك طالما أن الفائض الصيني يعود ليستثمر في الولايات المتحدة. الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة أوباما ترى أن الصين تحدد معدل الصرف الخاص باليوان بعيدا تماما عن قوى العرض والطلب، وان انخفاض قيمة العملة الصينية يعد مصطنعا ولا يعبر عن القيمة الحقيقية لليوان، وهو ما يعطي الصادرات الصينية ميزة تنافسية غير عادلة في مواجهة السلع الأمريكية، ومن ثم سرقة وظائف العمال في أمريكا لصالح العاملين في الصناعة الصينية. ففي آخر تصريح له أعلن تيموثي جيثنر وزير الخزانة الأمريكي الجديد هذا الأسبوع بأن الصين دولة تتلاعب بعملتها، وهي المرة الأولى التي يوجه فيها هذا الاتهام إلى الصين بهذه القوة.

وتأتي تصريحات جيثنر في ظل تبني القيادة الأمريكية الجديدة لسياسة الدولار القوي، والذي تتهدده السياسات الصينية بخفض قيمة اليوان. ولكن لماذا تتبنى الولايات المتحدة سياسة الدولار القوي في وقت تواجه فيها عجزا واضحا في ميزان مدفوعاتها؟ من الواضح أن اهتمام الولايات المتحدة في الفترة القادمة ليس منصبا على الميزان التجاري، وإنما بدرجة اكبر على حساب رأس المال، والدولار القوي يعد ضرورة أساسية لضمان استمرار تدفقات رؤوس الأموال اللازمة لعمليات الاقتراض الضخمة التي يحتاجها الاقتصاد الأمريكي لمعالجة تداعيات الأزمة المالية. فالخزانة الأمريكية تجد نفسها مضطرة إلى إصدار أدوات دين جديدة تصل قيمتها ما بين 2-3 تريليون دولار في السنتين القادمتين، ولا يمكن أن تنجح تلك الخطط في ظل تبني سياسة الدولار الضعيف. الدولار القوي في مواجهة اليوان الصيني الرخيص يعقد الأوضاع التجارية للولايات المتحدة بشكل أكبر، ومن ثم يقلل من قدرتها في التعامل مع الأزمة.

ما الذي يترتب على إعلان أن الصين دولة متلاعبة بعملتها؟ وفقا للقانون الأمريكي يحق للكونجرس في هذه الحالة اتخاذ إجراءات مضادة. وينتظر في ابريل القادم أن يكشف التقرير التالي لوزارة الخزانة الأمريكية لممارسات العملات الدولية، عن مدى تلاعب الصين بعملتها، وينص القانون الأمريكي على ضرورة أن يحدد التقرير الدول التي تتلاعب بمعدل صرف عملاتها بهدف تحقيق ميزات تجارية، وإذا ثبت من التقرير أن الصين تتلاعب بعملتها فإن هذا يمهد الطريق أمام ضرورة فتح الباب لمفاوضات ثنائية بين الدولتين حتى تغير الصين من تكتيكات تحديد قيمة عملتها، وقد ينشأ عن ذلك قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات تجارية على الصين بما في ذلك رفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية، حتى تنصاع الصين وترفع قيمة اليوان.

الرد الصيني على الهجوم الأمريكي كان عنيفا أيضا، ومضمونه أن الصين لا يجب أن تكون كبش الفداء في وقت الأزمة نظرا للآثار المعاكسة التي يمكن أن يتركها اليوان القوي على نموها الاقتصادي، وأن المرحلة الحالية تقتضي ضرورة البحث عن حل للازمة المالية العالمية، وليس الحديث عن إجراءات للحماية التجارية، والتي قد لا تساعد الجهود الحالية لمعالجة الأزمة، ولن تشجع النمو المستقر والصحيح للاقتصاد العالمي.

ولكن هل تنجح الضغوط الأمريكية على الصين بحيث تجبر الصين على التخلي عن سلاحها التجاري الأساسي المتمثل في اليوان الرخيص؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد وأن نأخذ في الاعتبار أن إعلان وزير الخزانة الأمريكي يأتي في وقت حساس جدا، حيث تعاني كل من الصين والولايات المتحدة من أزمة تضعف اقتصادياتهما، وبالنسبة للصين فان اليوان القوي قد يدفع بمعدلات النمو الصيني نحو التراجع بشكل أكبر، وبما أن الصين أصبحت تمثل ثقلا لا يمكن تجاهله في الاقتصاد العالمي، فان المزيد من التراجع في النمو الصيني سوف يؤدي إلى حدوث هبوط في معدلات النمو العالمي، وهو ما قد يعطل خطط إنقاذ الاقتصاد الأمريكي ذاته. من ناحية أخرى فان الولايات المتحدة تعتمد على الصين في تمويل عجزها المتصاعد، ومن ثم عندما تتحدث الصين فان السندات الأمريكية تستمع وتتأثر تبعا لذلك، فقد أدت الفوائض الضخمة في الميزان التجاري الصيني مع العالم إلى تكوين احتياطيات هائلة من النقد الأجنبي تقدر بحوالي 2 تريليون دولار، وهو ما يجعل الصين صاحبة أكبر احتياطي نقدي في العالم، وهذه الاحتياطيات بلا شك محط أنظار الإدارة الأمريكية بصفة خاصة في هذه المرحلة، ذلك أن استمرار استثمار الصين لاحتياطياتها في الأدوات المالية الأمريكية يساعد على المحافظة على معدلات الفائدة الأمريكية منخفضة. وإذا ما أصرت حكومة أوباما على إجبار الصين على رفع قيمة اليوان، فربما تتوقف الحكومة الصينية عن شراء أدوات الدين الأمريكي وهو ما قد يعطل خطة الإنقاذ الأمريكية. أكثر من ذلك فان البعض يرى أن دعوة وزير الخزانة الأمريكي لرفع قيمة اليوان تتناقض مع دعوته للصين على بذل مجهود اكبر في مجال ضخ الأموال لتحفيز الاقتصاد الصيني حتى لا ينحسر النشاط الاقتصادي العالمي وهو ما ينعكس سلبا على اقتصاد الولايات المتحدة وشركاءها التجاريين. من جانبها قامت الصين بتخصيص مبلغ نصف تريليون دولار لأغراض التحفيز المالي للاقتصاد الصين خلال العامين القادمين، وإن لم يعلن حتى الآن عن توقيت بدء ذلك البرنامج.

المخاطر المتعددة للدعوة الأمريكية إلى رفع اليوان تشير إلى أن احتمال المواجهة المباشرة بين الدولتين قد يكون ضعيفا، ذلك أن الأوراق الأمريكية للتعامل مع السلاح التجاري الصيني تبدو محدودة، وأن قواعد اللعبة ما زالت تحت سيطرة صانع السياسة الصيني، ومن ثم فان الاحتمال الأكبر هو أن تلجأ حكومة أوباما إلى الوسائل الدبلوماسية في التعامل مع القضية بصورة أكثر ليونة، وهو ما يعني ضمنا أن سياسة اليوان الرخيص سوف تستمر لفترة زمنية قادمة في المستقبل.

هناك تعليقان (٢):

  1. استاذي الفاضل..

    لا اعلم لماذا لا تخطو الصين خطوتها في التأثير على السياسة الخارجية الامريكية، ويكون لها دور قطبي سياسي يصب في استقرار تدفق الفائض التجاري واستمرار استحواذها على هذا الكم من الصادرات والوزن الاقتصادي؟

    هناك دول اقل منها اقتصاديا، ربما روسيا منها، تلعب ادوارا سياسة فتاكة.. الى متى نرى هذا التواضع في لعب الدور السياسي؟ هل هي غفلة؟ ام ان حجمها الاقتصادي لايدعم مثل هذا النوع من التحرك بعد؟

    لقد تناولت هيلاري كلينتون (http://www.youtube.com/watch?v=_PWaBgVjmAQ ) بكل وضوح في حملتها التحالف الاستراتيجي مع الصين، واثره على العمالة الامريكية والاقتصاد الامريكي، وهو غاية في الاهمية اذا ماصح ماذكرت بأنها المصدر الاول للسلع في الولايات المتحدة..

    في وجهة نظري سيكون هناك تحالف مع الصين، واظن ان امريكا تؤمن حقا ان الصين ستكون لاعبا رئيسيا حتى في رسم السياسات الامريكية.. لكن السؤال هو بعد التداول الدبلوماسي مع الصين.. ماذا لدى امريكا لتغري به الصين؟

    سؤال محير..

    ردحذف
  2. شكرا استاذ حمام على متابعتك وتعليقك.

    العلاقات الدولية مسألة في غاية الحساسية والتعقد، ومن الخطورة بمكان ان تحاول الصين التأثير على السياسة الخارجية الامريكية، فمثلما تملك الصين بعض الاوراق ضد الولايات المتحدة، فان اوراق الولايات المتحدة أكبر وأكثر تنوعا. الصين لم تصل بعد الى المستوى الذي يمكنها من أن تكون قطبا سياسيا دوليا بنفس الحجم الذي كان يتمتع به الاتحاد السوفيتي سابقا، وليس من مصلحة الصين حاليا ان تقوم بذلك، أما مسألة الاستحواذ على كم محدد من الصادرات فيتحدد أساسا بالقدرات التنافسية التجارية للدولة، وليس الثقل أو الوزن السياسي. صحيح ان هناك علاقة بين الوزن السياسي والوزن الاقتصادي، ولكن الوزن السياسي له ايضا متطلبات غير اقتصادية. نعم روسيا أقل وزنا من الناحية الاقتصادية من الصين وأكثر وزنا من الناحية السياسية، ولكن الوزن السياسي لروسيا هو موروث أصلا عن الاتحاد السوفيتي السابق، ولولا هذا الارث لما كانت دولة مثل روسيا لها هذا الوزن السياسي الذي تلعبه حاليا.

    كلام هيلاري كلينتون حسب متابعتي لحملتها الانتخابية (لم اشاهد الكليب) صحيح، وقد كانت كلينتون من الداعين الى موقف اشد صرامة مع الصين. أما بالنسبة لموضوع التحالف مع الصين فهي مسألة سياسية يشوبها الكثير من العقبات اهمها وضع تايوان وهونج كونج، ودعم الصين لكوريا الشمالية، وينبغي ان نلاحظ ان النظام الاقتصادي والسياسي في الدولتين مختلف تماما لحدوث مثل هذا التحالف. ما يتم حاليا هو تبادل للمصالح، ولكن من المؤكد انه اذا اتيحت الفرصة للولايات المتحدة للاطاحة بالصين فلن تتردد في ذلك. أما بالنسبة لما تملكه الولايات المتحدة الامريكية لتغري به الصين فكبير جدا، انها السوق الرئيسي لها، وشريان الحياة للصناعة الصينية، ولذلك اصيب صانع السياسة الصيني بلوثة عندما بدأ وزير الخزانة الامريكي يتحدث عن تلاعب الصين بعملتها، خوفا من التبعات التجارية التي يمكن ان تترتب على مثل هذا التصريح في صورة فرض الولايات المتحدة لمزيد من اجراءات الحماية ضد السلع الصينية.

    ردحذف