نشر في جريدة القبس بتاريخ الجمعة 9/10/2009
من المعلوم أن الأزمة المالية العالمية قد بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قام ملايين الأشخاص غير المؤهلين أصلا للحصول على قروض عقارية، وذلك لعدم قدرتهم المالية على خدمة هذه القروض، وبتشجيع من إدارات المؤسسات المالية وكذلك السلطات النقدية في بعض الأحيان، بالاقتراض بكثافة من البنوك ومؤسسات الإقراض العقاري، اعتمادا على توقع ارتفاع أسعار المساكن في المستقبل، الأمر الذي سيمكنهم من الحصول على قروض إضافية في مقابل هذا الارتفاع في قيمة المساكن لخدمة هذه القروض. إلا أن توقف أسعار المساكن عن الارتفاع بل وميلها نحو الانخفاض أوقع ملايين المقترضين في أزمة، حينما توقفوا عن خدمة ديونهم نتيجة لعدم قدرتهم أصلا على ذلك. وقد أدى توقف المقترضين علن السداد إلى حدوث خسائر هائلة لشركات الرهن العقاري والبنوك، مما عرض تلك الشركات والبنوك لخطر الإفلاس. من ناحية أخرى فان انخفاض أسعار المساكن أدى إلى انخفاض في ثروة الأشخاص الأمر الذي أدى إلى حدوث أثر عكسي على الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة، وأخذ الاقتصاد الأمريكي في دخول حالة من الكساد العنيف، وتحولت الأزمة المالية في الولايات المتحدة من أزمة مالية إلى أزمة اقتصادية عالمية. ولكن إذا كان مركز الأزمة هو الولايات المتحدة الأمريكية فكيف انتقلت الأزمة إلى باقي دول العالم ومنها بالطبع الكويت؟
لقد انتقلت الأزمة إلى باقي دول العالم نتيجة لعدة أسباب أهمها:
أولا: شيوع استخدام أدوات الاستثمار مرتفعة الخطورة وأهمها ما يسمى "التزامات الديون المرهونة" Collateralized Debt Obligations. فقد كانت البنوك في مختلف دول العالم قد استثمرت أموالا طائلة في الولايات المتحدة من خلال شراء ديون أمريكية مرهونة، بصفة خاصة الرهون العقارية من الدرجة الثانية Subprime، حيث تم تجميع هذه الرهون في صورة "التزامات ديون مرهونة". ولكن ما هي التزامات الديون المرهونة؟ تعد التزامات الديون المرهونة نوعا من السندات التي يتم تغطيتها بواسطة القروض، أو السندات الأخرى أو الأصول. وتستخدم هذه السندات لتخفيض أثر عمليات الاقراض على ميزانيات البنوك المقرضة. على سبيل المثال إذا كان لدى بنك ما قرض عقاري بـ 1000 دولار، فأن هذا البنك يمكنه ان يقوم ببيع "التزامات دين مرهونة" لبنك آخر بقيمة هذا القرض في صورة سند، ومن ثم يقوم هذا البنك المشتري بشراء سند مغطى بالقرض العقاري. وعندما يتم سداد قيمة القرض العقاري فان البنك المشتري للسند يحصل على مدفوعات الفائدة على السند، وبذلك يتحقق الغرض الأساسي الذي قام من أجله البنك الثاني بشراء التزامات الديون المرهونة. ولكن ما الذي يحدث إذا ما أفلس المقترض أو تخلف عن سداد قيمة القرض العقاري، في هذه الحالة سوف تنخفض القيمة السوقية للسند (التزام الدين المرهون)، ومن ثم يخسر البنك المشترى للسند ما يعادل هذا الانخفاض، وببساطة شديدة يمكن القول بأن البنك الأول الذي قام بمنح القرض، عندما يقوم بإصدار التزامات ديون مرهونة، يعتبر كأنه باع القرض العقاري لبنك آخر، ومن ثم يتحمل البنك المشتري "لالتزامات الديون المرهونة" المخاطر المصاحبة لهذا النوع من السندات، وقد ساعد على انتشار تلك الأدوات دخول مؤسسات التقييم الائتماني على الخط بمنح تصنيفات مرتفعة لهذه الأدوات مرتفعة المخاطرة، كما قامت شركات التأمين أيضا بضمان مثل هذه الأدوات.
وقد لعبت هذه الالتزامات دورا هاما في أزمة الائتمان الأخيرة في الولايات المتحدة، حيث أدى التوقف الجماعي للمقترضين عن سداد القروض العقارية إلى تعرض شركات الإقراض العقاري والبنوك للإفلاس، وأخطرها كان حالة إفلاس بنك ليمان براذرز. من المؤكد طبعا انه كان هناك عدم إدراك لطبيعة المخاطر المصاحبة لمثل هذا النوع من الأدوات المالية قبل نشوب الأزمة، والآثار المدمرة التي يمكن ان تنشأ عنها. على كل حال أدى إقبال البنوك التجارية في شتى أنحاء العالم على شراء مثل هذه الأصول إلى تعريض الكثير منها لمخاطر الإفلاس وخصوصا في أوروبا.
ثانيا: أزمة الائتمان العالمية: من المعلوم ان النظام المصرفي العالمي يتسم بالترابط، حيث تعمد البنوك في دول العالم إلى حد ما على بعضها البعض لضمان توفير السيولة المناسبة. ففي حالة انخفاض السيولة لدى بنك ما فانه يقوم غالبا بتعويض هذا الانخفاض من خلال الاقتراض من بنك آخر. غير أنه عندما يبدأ أحد البنوك في تحقيق خسارة، فان باقي البنوك تصبح اقل استعداد لإقراض هذا البنك، وربما لكافة البنوك الأخرى أيضا، بسبب ارتفاع مستويات المخاطرة المتوقعة في الائتمان. وقد ترتب على الأزمة المالية العالمية تحقيق الكثير من البنوك في دول العالم لخسائر هائلة، وهو ما أدى إلى التأثير بصورة جوهرية على النظام المصرفي العالمي، حيث امتنعت البنوك في كافة دول العالم عن إقراض بعضها البعض، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض الإقراض المصرفي للشركات والمستهلكين ومن ثم التأثير السلبي على مستويات الطلب الكلي الأمر الذي أسهم في تحول الأزمة من أزمة مالية إلى أزمة اقتصادية.
ثالثا: انخفاض حجم التجارة العالمية، فمع دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة الكساد انخفض الطلب الأمريكي على الواردات من باقي دول العالم، وهو ما أدى إلى انخفاض صادرات شركاء الولايات المتحدة الرئيسيين في التجارة إليها، وهكذا الأمر بالنسبة لباقي دول العالم، حيث انخفض بالتبعية الطلب على الواردات في معظم دول العالم، وبصفة خاصة السلع التجارية العالمية كالنفط الخام. وقد ترتب على انخفاض مستوى التجارة العالمية انخفاض مستويات النشاط الاقتصادي في كافة دول العالم ومن ثم المساهمة في حدوث كساد عالمي.
رابعا: تراجع الثقة على المستوى العالمي، حيث أثرت الأزمة بشكل سلبي على مستوى ثقة المستهلكين والشركات وتوقعاتهم في كافة دول العالم، وهو ما أدى إلى تراجع مستويات الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، ومن ثم معدلات النمو الاقتصادي على المستوى العالمي. ومن المعلوم ان خطط الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري تتأثر بصورة كبيرة بمستويات الثقة لدى المستهلكين والمستثمرين.
خامسا: أثر البورصات العالمية للأسهم، فقد أدت المشاكل المالية للبنوك في الولايات المتحدة وأوروبا إلى التأثير بشكل كبير على أسواق المال حول العالم في 2007 و 2008، غير أن عام 2008 قد شهد أكبر تراجع لأسعار الأسهم وهو ما أدى إلى تراجع مستويات ثروة المستهلكين وثقتهم، الأمر الذي أدى إلى انخفاض مستويات النمو. وتشير الأدبيات الاقتصادية إلى انخفاض العلاقة بين أداء بورصة الأوراق المالية ومستويات الإنفاق الاستهلاكي بشكل عام، بسبب انخفاض نسبة المتعاملين في البورصة إلى عموم المستهلكين، ففي المتوسط يتعامل في البورصة حوالي 20% فقط من المستهلكين، وهو ما يؤدي إلى انخفاض تأثير ثروة المستهلكين الممثلة في محافظ الأسهم على الإنفاق الاستهلاكي. إلا ان حجم الانخفاض الجوهري في أسعار الأسهم في البورصات في العالم قد أدى إلى التأثير بشكل مباشر على إنفاق المستهلكين، وكذلك الإنفاق الاستثماري من قبل الشركات.
هذه باختصار الآليات التي انتقلت من خلالها الأزمة المالية في الولايات المتحدة إلى اقتصاديات دول العالم أجمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق