الجمعة، يوليو ١٥، ٢٠١١

هل مازال الدولار عملة احتياط العالم؟

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ  15/7/2011.
هل فقد الدولار الأمريكي بريقه المعهود؟ وهل بدأ العالم يهجر الدولار؟ أو هل أخذ العالم يبحث عن بديل آخر للدولار، أو على الأقل في التنويع بعيدا عن الدولار؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، ما هو هذا البديل الذي اختاره العالم للدولار الأمريكي؟ هذه التساؤلات تثار منذ مدة، والكثير يتحدث عن أفول عهد الورقة الخضراء، وأن العالم يستعد الآن لاستبداله بعملة أو عملات أخرى، ولكن ما هي حقيقة الأوضاع على الأرض؟ سوف أحاول في هذا المقال تناول هذه التساؤلات استنادا إلى أحدث التقارير التي أصدرها صندوق النقد الدولي على تركيبة الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي في دول العالم.

فقد أصدر صندوق النقد الدولي في الأسبوع الماضي تقريره الأخير عن مكونات الاحتياطيات الدولية للعالم عن الربع الأول من هذا العام، التقرير يغطي 138 دولة منها 33 دولة متقدمة و 105 دولة ناشئة ونامية. البيانات المنشورة عن الاحتياطيات الدولية في التقرير تنقسم إلى قسمين، احتياطيات مخصصة، أي احتياطيات تتوافر بيانات عن أسلوب تخصيص (استثمار) هذه الاحتياطيات، واحتياطيات غير مخصصة، أي احتياطيات لا تتوافر معلومات عن طريقة تخصيص هذه الاحتياطيات.

وفقا للتقرير بلغ إجمالي الاحتياطيات العالمية من النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية في العالم 9694467 مليون دولارا (9.7 تريليون دولارا تقريبا)، منها 3161941 مليون دولارا تملكها الدول المتقدمة، أي بنسبة 32.6% من إجمالي الاحتياطيات الدولية و 6532526 مليون دولارا تملكها الدول الناشئة والنامية، أي بنسبة 67.4% من إجمالي الاحتياطيات الدولية. تعد مستويات الاحتياطيات الدولية حاليا تاريخية خاصة عندما نقارنها بمستويات الاحتياطيات منذ عشر سنوات تقريبا. ففي الربع الأول من عام 2000 بلغ إجمالي احتياطيات العالم 1808706 مليون دولارا فقط، وهو ما يعني ان احتياطيات العالم من النقد الأجنبي تضاعفت أكثر من خمسة أضعاف خلال العشر سنوات السابقة، بصفة خاصة ازدادت احتياطيات الدول الناشئة والنامية من 675154 مليون دولارا في الربع الأول من عام 2000 إلى 6532526 مليون دولارا في الربع الأول من 2010، وهو ما يعني تزايد الاحتياطيات الدولية لهذه الدول بأكثر من تسعة أضعاف خلال العشر سنوات السابقة.

إذا حاولنا ان نتتبع توزيع هذه الاحتياطيات بين العملات الرئيسة للعالم، فإن الشكل رقم (1) يوضح تطورات المطالبات (الاحتياطيات المخصصة) حسب العملات الرئيسة، ومن الجدول يتضح أن المطالبات بالدولار الأمريكي تزايدت من 882325 مليون دولارا في الربع الأول من عام 1999 إلى 3219964 مليون دولارا في الربع الأول من عام 2011، في الوقت الذي تزايدت فيه المطالبات باليورو من 224936 مليون دولارا إلى 1409099 على التوالي. أما باقي الاحتياطيات فموزعة بين العملات الرئيسة الأخرى بصفة أساسية الجنيه الإسترليني والين الياباني والفرنك الفرنسي وبعض العملات الأخرى، أهمها الدولار الكندي والدولار الاسترالي. غير أن الشكل يوضح حقيقة هامة وهي أن احتياطيات العالم الدولارية آخذة في التزايد المستمر من الناحية المطلقة، بعكس ما قد يشاع من أن احتياطيات العالم من الدولار تميل نحو الانخفاض. 

ولكن لماذا تستمر دول العالم في الاحتفاظ بالدولار كعملة احتياط على الرغم من المخاطر المتعددة التي تحيط بهذه العملة؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في الأسباب الآتية:

-          أن الدولار الأمريكي هو عملة التعامل الأساسية للعالم أو لنقل عملة العالم، على الرغم من انخفاض نصيب الولايات المتحدة في المعاملات التجارية العالمية، على سبيل المثال عندما تتعامل البرازيل مع كوريا الجنوبية فإن التعامل غالبا ما يتم بالدولار، كما أن الدولار هو عملة التسعير الأساسية للسلع التجارية في العالم على سبيل المثال النفط، ومن ثم لا بد وان يكون المكون الأساسي للاحتياطيات في العالم هو الدولار الأمريكي.

-          أن الدولار الأمريكي يسانده، كعملة احتياط، أسواق متسعة وعميقة لأدوات دين واستثمار بالدولار الأمريكي، بصفة خاصة يعد  الدين الأمريكي أكثر أدوات الدين أهمية في العالم وأكثرها تداولا ومن أعلاها تصنيفا واعتمادية بين أدوات الدين على مستوى العالم.

-          يعتبر الدولار الأمريكي من وجهة نظر المستثمرين واحة الأمان في العالم، ففي حالة حدوث أي أزمة يهرع المستثمرون بشكل أساسي نحو الدولار، على سبيل المثال ما حدث في أعقاب انهيار بنك ليمان براذرز. كذلك يعكس هذا التفضيل السيولة غير العادية التي تتميز بها أسواق أدوات الدين الدولارية، ومن المعلوم ان السيولة هي أهم الخصائص التي يبحث عنها المستثمرون في أوقات الأزمات، فضلا عن ذك فإن سندات الخزانة الأمريكية تعد أهم الأصول المالية التي يتم التعامل عليها بين المستثمرين الدوليين، والتي تتمتع بسمعة ممتازة في درجة استقرارها.

-          ان الدولار الأمريكي لا يوجد له بدائل جاهزة تقريبا في العالم اليوم، على سبيل المثال فان العملات التي تمتعت باستقرار واضح خلال العشر سنوات السابقة مثل الفرنك السويسري والدولار الاسترالي تمثل عملات دول صغيرة في الحجم لا توجد بها أسواق مال على نفس المستوى، أو أدوات دين بذات الضخامة التي يتمتع بها الدولار، ومن ثم فهي أصغر من أن تكون مؤهلة لأن تلعب دورا ذو أهمية حيوية في المعاملات المالية الدولية.

غير أن هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى أن هذه العوامل تميل إلى التآكل على المدى الطويل، ولذلك ربما يكون توزيع الاحتياطيات من الناحية المطلقة مضللا، لأنه لا يعكس الأهمية النسبية للعملات وتطور نسبة الطلب عليها عبر الزمن، وربما يكون من الأفضل للتعبير عن تطور الأهمية النسبية للدولار في الاحتياطيات العالمية أن نتتبع التوزيع النسبي للاحتياطيات العالمية بين العملات المختلفة عبر الزمن، كما هو موضح في الشكل رقم (2)، والذي يعرض توزيع الاحتياطيات المخصصة حسب نسبة كل عملة من العملات إلى إجمالي الاحتياطيات المخصصة في العالم، ومن الواضح ان الشكل يعطي صورة أفضل عن تطور تفضيل العالم للاحتفاظ بالدولار كعملة احتياط عالمية، حيث يلاحظ من الشكل تراجع نسبة الطلب على الدولار في الاحتياطيات العالمية من 71.2% في الربع الأول من عام 1999 إلى 60.69% في الربع الأول من هذا العام، على الرغم من تزايد الاحتياطيات الدولارية من الناحية المطلقة، في الوقت الذي تزايد فيه الطلب على اليورو من 18.1% إلى 26.6% على التوالي، مع تعرض الطلب على اليورو إلى بعض التراجع المحدود في العامين الماضيين بسبب أزمة الديون السيادية التي تتعرض لها بعض دول منطقة اليورو، من 28.2% في الربع الرابع من العام الماضي إلى 26.6% في الربع الأول من هذا العام.

الشكل رقم (2) يوضح حقيقة في غاية الأهمية وهي أن البنوك المركزية في العالم تميل إلى إحلال الدولار الأمريكي بعملات أخرى في احتياطياتها من النقد الأجنبي، وإن كان ذلك يتم ببطء شديد كما يتضح من الشكل، في الوقت الذي لم تنجح فيه العملات الرئيسة الأخرى في العالم في أن تحل محل الدولار بشكل جوهري، ولكن لماذا تحاول البنوك المركزية في العام إحلال الدولار بعملات أخرى؟ الإجابة على هذا السؤال هي أن الأسباب وراء هذا التراجع مرة أخرى متعددة ويمكن تلخيص أهمها في الآتي:

-          أن هناك قلق من السياسات النقدية الأمريكية التوسعية، بصفة خاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية فيما يعرف بسياسات التيسير الكمي، والتي تعرض قيمة الدولار الأمريكي للتراجع بالنسبة للعملات الرئيسة في العالم.

-          أن هناك قلق حاليا من تصاعد حجم الدين العام الأمريكي وارتفاع نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي نتيجة العجز المستمر في الميزانية حيث تواجه الولايات المتحدة تحديا كبيرا في كيفية السيطرة على إنفاقها العام ومن ثم العجز في ميزانيتها وبالتالي السيطرة على النمو في الدين العام الأمريكي والذي ينظر إليه حاليا على انه احد التحديات التي تواجه المركز الدولي للدولار،  وهو ما يعني أن ما كان ينظر إليه تقليديا على أنه أحد الركائز الأساسية التي يرتكز عليها الوضع الدولي للدولار في العالم أصبح اليوم أحد أهم العوائق التي تحول دون نمو الطلب عليه، وتنبغي الإشارة إلى أنه عبر التاريخ استمرت الحكومة الأمريكية في احترام تعهداتها المالية، غير ان التطورات الأخيرة والتي تناولتها في مقالين سابقين على الاقتصادية تشير إلى ان هذه السمعة معرضة للتهديد حاليا إذا ما توقفت الولايات المتحدة عن خدمة ديونها.

-          استمرار تراجع قيمة الدولار بالنسبة للعملات الرئيسة، كما هو واضح من الشكل رقم (3)، وهو ما يعني أن دول العالم تخسر نتيجة الاحتفاظ باحتياطياتها في صورة دولاريه، خصوصا إذا لم يكن هذا التراجع في القيمة مصحوبا بمعدلات فائدة مرتفعة على الدولار تعوض المستثمرين في أدوات الدين الدولارية، ولو بشكل جزئي، عن التراجع في القيمة الحقيقية لهذه الاحتياطيات، ومن المعلوم من الناحية النظرية أن أحد الشروط الأساسية لعملة الاحتياط هي ان تكون مخزن جيد للقيمة، ولكن الشكل يثبت أن الدولار الأمريكي كان أداؤه سيئا في هذا الجانب بالذات. فخلال الإثني عشر سنة السابقة تراجعت قيمة الدولار بنسبة 40% تقريبا بالنسبة للفرنك السويسري، وبنسبة 30% بالنسبة للين الياباني، وبنسبة 25% بالنسبة لليورو.

-          انخفاض معدلات الفائدة على الدولار الأمريكي، فمنذ بداية الأزمة حتى اليوم ومعدلات الفائدة الأساسية في الولايات المتحدة تقترب من الصفر تقريبا، بحيث تجد البنوك المركزية ان عمليات تخصيص احتياطياتها بالدولار الأمريكي لا تعود عليها بعوائد مناسبة لتلك التخصيصات. غير أننا لا ينبغي إلا نشدد على أهمية هذا العامل، حيث أن معدلات الفائدة منخفضة بشكل عام في كافة أنحاء العالم تقريبا، فعلى الرغم من انخفاض معدلات الفائدة على أدوات الدين الأمريكية إلا ان المساهمة الأجنبية في الدين العام الأمريكي تميل نحو التزايد.


والآن، إذا كان العالم يميل نحو إحلال الدولار بعملات أخرى، فما هي أكثر الدول التي تقوم بعمليات إحلال الدولار؟ الشكل رقم (4) يوضح تطور نسب الدولار في احتياطيات دول العالم، ومن الشكل يلاحظ أنه خلال الإثني عشرة عاما السابقة فإن الدول الناشئة والنامية كانت هي أكثر الدول ابتعادا عن الدولار، فقد انخفض نصيب الدولار في إجمالي احتياطيات الدول المتقدمة من 69.3% في عام 1999 إلى 63.4% في الربع الأول من عام 2011 وهو تراجع محدود نسبيا، غير ان نصيب الدولار في احتياطيات الدول الناشئة والنامية قد تراجع من 75% إلى 57.8% على التوالي، وهو تراجع جوهري، يشير إلى تراجع تفضيل البنوك المركزي لتك الدول للدولار الأمريكي كعملة احتياط.


والآن في ظل هذه الاتجاهات التي تحدث في العالم هل نشهد نهاية عصر الدولار في المستقبل؟ الكثير من المراقبين يجيبون بنعم!، حيث من وجهة نظرهم تتصارع عدة عملات حاليا لكي تجد لها دورا في المعاملات المالية والتجارية الدولية وهو ما يعجل بنهاية الدولار. في رأيي ان ذلك يمثل سوء فهم لطبيعة ومتطلبات العملة الدولية للعالم والتي تناولتها في أكثر من موضع هنا على الاقتصادية.

صحيح أن العالم يبحث اليوم عن بديل للدولار، سواء كعملة تسوية المعاملات أو كعملة احتياط، غير أن بدائل الدولار التي يمكن ان تلعب دورا على المستوى الدولي هما عملتين فقط تقريبا، اليورو وهو عملة دولية حاليا، واليوان (الرينمنبي) الصيني وهو عملة غير قابلة للتحويل في عالم اليوم، وما زال أمامنا الكثير من الوقت قبل ان نتحدث عن أي دور لليوان كعملة عالمية وقد سبق ان تناولت الأسباب في مقالات سابقة على الاقتصادية، وتجدر الإشارة إلى أن الصين أخذت في الشروع في اتخاذ بعض الخطوات لتدويل استخدام اليوان عالميا، وهناك خطط للحكومة الصينية بتحويل شنغهاي إلى مركز مالي عالمي في 2020، إلا أنه مازال هناك وقت طويل أمام الصين لكي تصبح عملتها عملة دولية تقف جنبا إلى جنب مع الدولار، ولسوء الحظ، أو ربما لحسن حظ الولايات المتحدة الأمريكية، أن العالم سوف يستمر ولفترة طويلة قادمة يعتمد على الدولار في تسوية معاملاته التجارية، وكذلك في استخدام الدولار كعملة الاحتياط العالمية الرئيسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق