الجمعة، يوليو ٠١، ٢٠١١

مأساة الجوع في العالم


نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 1/7/2011
قاتل الله سبحانه وتعالى الفقر، حيث يعاني حاليا مئات الملايين من سكان العالم من شروره والآثار الكارثية التي تترتب عليه، وأهمها بالطبع الجوع وسوء التغذية. الجوع ظاهرة ربما لا يعرفها الذين يملئون بطونهم يوميا، أما الذين يعيشون في حالة جوع مزمن، فلهم قصة أخرى، حيث يتضورون يوميا من آلام الإحساس بالجوع، ويذهبون إلى السرير يوميا بهذا الألم الذي يظلون يتضورون منه حتى يغالبهم النعاس وهم يحلمون بما يسد رمقهم ويملأ معدتهم، لا شك أنه إحساس فظيع لا يشعر به سوى الغير محظوظين في هذا العالم وهم كثر، وللأسف الشديد جانب كبير منهم من المسلمين.
لقد نشر توماس روبرت مالثاس مؤلفه الشهير عن أساسيات السكان محاولا دحض وجهات النظر التفاؤلية حول النمو السكاني، حيث أوضح أن المشكلة الأساسية التي يواجهها الإنسان على سطح الأرض تتمثل في أن قدرته على التكاثر تفوق قدرة الأرض على إنتاج الحد الأدنى الضروري من الغذاء للإنسان، أو ما يطلق عليه حد الكفاف، ولشرح فكرته الأساسية عن اختلاف معدلات النمو بين السكان والموارد، افترض مالثاس أن السكان يتزايدون على شكل متوالية هندسية، بينما يتزايد حد الكفاف من الغذاء على شكل متوالية عددية، ونظرا لاختلاف طبيعة عملية النمو بين السكان والغذاء ينشأ ما يسمى بفجوة الغذاء، وبحكم قانون حياتنا الطبيعية والذي يجعل من الغذاء ضرورة لحياة الإنسان، فإن فجوة الغذاء سوف تتحكم في قدرة الإنسان على النمو على سطح الأرض، ذلك أن زيادة أعداد السكان عن هذا الحد سوف تؤدي إلى انتشار سوء التغذية، وبالتالي ارتفاع معدلات الوفيات، بالشكل الذي يكفل العودة بمستوى السكان إلى حده الأقصى الذي يسمح به مستوى حد الكفاف.
من المؤكد أن الزيادة التي حدثت في أعداد السكان في العالم في الخمسين عاما الأخيرة تمثل زيادة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية على سطح هذا الكوكب، كما أنه من المعتقد ألا يتكرر مثل هذا النمو السكاني السريع في المستقبل، فقد تزايد حجم السكان في العالم من حوالي 2.5 مليار نسمة عام 1950 إلى حوالي 7 مليار نسمة حاليا أي ما يقارب ثلاثة أضعاف، وقد تركزت هذه الزيادة السكانية أساسا في الدول النامية، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة يتوقع أن يصل عدد السكان في العالم وفقا لسيناريو النمو المتوسط إلى حوالي 9.3 مليار نسمة عام 2050، وسوف يتركز هذا النمو فقط في الدول النامية، حيث يتوقع أن يثبت عدد سكان الدول المتقدمة عند 1.3 مليار نسمة في عام 2050، بينما يتوقع أن يتزايد عدد السكان في الدول النامية إلى حوالي 8 مليار نسمة، وفي عام 2050 سوف يكون هناك حوالي نصف سكان العالم في ثمان دول فقط هي الهند والصين وباكستان وبنجلاديش والولايات المتحدة ونيجيريا والكونغو وأثيوبيا.
التاريخ الحديث للسكان في العالم يثبت أنه ولفترة طويلة من الزمن استطاع العالم أن يستوعب هذه الزيادات الهائلة من السكان دون أن ترتفع معدلات الوفيات، على عكس ما توقع مالثاس الذي يؤمن بأن الفقر هو الأثر الطبيعي للنمو السكاني، وقد بدا من الواضح أن مخاوف مالثاس حول النمو السكاني ليس لها ما يبررها، وان النمو التكنولوجي الهائل الذي يعيشه العالم حاليا، بصفة خاصة في مجال الهندسة الوراثية والثورة الخضراء قادر على فك قيد الغذاء المصاحب للنمو السكاني إلى حد كبير.
غير أن سوء توزيع الغذاء بين سكان العالم هو الجانب المظلم لهذا النمو السكاني الرهيب الذي يعيشه العالم، حيث ينتشر الجوع ومن ثم سوء التغذية. فعدد الجوعى في العالم اليوم أكبر من أي وقت مضى، حيث يتعرض العالم حاليا لأزمة غذائية تمثلت في ارتفاع أسعار الحبوب الغذائية واللحوم بصفة خاصة بشكل كبير، نتيجة تغير أنماط التغذية في أكثر دول العالم سكانا، الهند والصين، وتزايد عمليات تحويل الحبوب الغذائية إلى وقود حيوي في الدول المنتجة للغذاء بسبب ارتفاع أسعار النفط، ، هذا فضلا عن عوامل أخرى خاصة العوامل المناخية وقيود نمو القطاع الزراعي في الدول النامية.
باختصار العالم الآن مهدد بشكل اكبر من أي وقت سبق بانعكاسات أزمة الغذاء العالمي على مستويات الفقر وانتشار سوء التغذية ومن ثم ارتفاع معدلات الوفيات، في دول العالم الفقير. بينما تشير البحوث التي أجراها برنامج الغذاء الدولي إلى أن الأسر الفقيرة في الدول النامية أصبحت تتناول اليوم طعاما اقل ووجبات لا تغني ولا تسمن من جوع وتسبب لهم سوء التغذية، وأن هذه الأسر تضطر نتيجة لارتفاع أسعار الغذاء إلى خفض إنفاقها على الرعاية الصحية والتعليمية لأطفالهم.
وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للغذاء فإن العالم يوجد به جوعي اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهناك حوالي شخص من كل 7 أشخاص في العالم يعاني من الجوع، ومن ثم من سوء التغذية الناجم عن ذلك، وقد قدرت المنظمة عدد الجوعى في العالم في عام 2009 بحوالي 1.02 مليار نسمة، وقد عزت المنظمة السبب في ارتفاع أعداد الجوعى إلى هذا المستوى القياسي إلى الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم منذ ثلاثة أعوام، وكذلك إلى ظاهرة ارتفاع أسعار الغذاء التي تهدد الدول الفقيرة حاليا في العالم.
هذا التطور المعاكس جاء في أعقاب النجاح الكبير الذي حققه العالم طوال أربعة عقود مضت في انتشال جانب كبير من الناس من الجوع، مستفيدين في ذلك من التقدم الفني بصفة خاصة في مجال الهندسة الوراثية والثورة الخضراء التي نجحت في إرخاء الكثير من القيود على نمو الغذاء من الناحية الكمية والنوعية، ووفقا للبرنامج العالمي للغذاء فإن في العالم طعام يكفي لسكان الكوكب، لكن المشكلة الأساسية هي في التوزيع غير العادل للطعام عبر مناطق العالم المختلفة.
الجدول التالي يوضح تطورات أعداد الجوعى في العالم وفقا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، لاحظ الارتفاع الكبير في أعداد الجائعين منذ 1995 وحتى اليوم.

أما عن التوزيع الجغرافي لهؤلاء الجوعى بين قارات العالم، فإن الشكل التالي يوضح تقديرات أعداد الجوعى في العالم في عام 2010، وفقا لإحصاءات البرنامج العالمي للغذاء، ومن الشكل يلاحظ تركز جوعى العالم في كل من آسيا وإفريقيا، فمن بين حوالي 926 مليون جائع في العالم في عام 2010 يوجد حوالي 578 مليون جائعا في آسيا، و 239 مليون جائعا في إفريقيا، في الوقت الذي اقتصرت فيه أعداد الجوعى في الدول المتقدمة على 19 مليون نسمة، حسب ما يوضح الشكل التالي.

عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية حيث انخفضت مستويات الدخول وارتفعت معدلات البطالة، بلغ عدد الجوعى في العالم حدهم الأقصى والذي قدر بحوالي مليار وعشرين مليون نسمة في عام 2009، وهو ما عني انه من بين كل 7 أشخاص تقريبا يعيشون في هذا العالم هناك شخص يأوي إلى فراشه وهو يعاني من آلام الجوع المبرحة. للأسف الشديد هذه التطورات السلبية حدثت في أعقاب فترة نجاح متواصل تمكن العالم خلالها من التخفيف من مأساة الجوع فيه، حيث يتناول حاليا مئات الملايين من البشر كميات اقل من الطعام وبالطبع نوعية طعام غير مناسبة مما يعمق من مشكلة سوء التغذية.
ويوضح الشكل بعض الحقائق الأساسية عن الجوع، فمن بين 926 مليون جائعا في العالم، فإن 98% منهم تقريبا يعيشون في الدول النامية والفقيرة، بينما تعد آسيا هي موطن الجوع في العالم حيث يعيش فيها حوالي ثلثي جوعى العالم. وتشير البيانات التفصيلية عن الجوع أن 65% من جوعى العالم يعيشون في 7 دول هي الهند والصين والكونغو وبنجلاديش واندونيسيا وباكستان وإثيوبيا. نتيجة لسوء التغذية هناك طفل من كل أربعة أطفال في الدول النامية يقل وزنه عن المعدل الطبيعي، 50% منهم يعيشون في جنوب آسيا، وأن حوالي 11 مليون طفل يموتون كل عام في الدول النامية قبل سن الخامسة، 60% منهم بسبب أمراض سوء التغذية.
وتشير الدراسات المتاحة إلى أن أهم العوامل المسئولة عن الجوع في العالم هي:
الطبيعة، حيث ينظر حاليا إلى الأحوال المناخية على أنها مسبب رئيس لتراجع إنتاج الغذاء ومن ثم انتشار الجوع حاليا وفي المستقبل، فالكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والعواصف الاستوائية وفترات الجفاف الطويلة تميل نحو التزايد في العالم ومن ثم تشيع في كثير من المناطق مشكلة الأمن الغذائي. بصفة خاصة ينظر إلى الجفاف حاليا على انه احد الأسباب الأساسية لنقص الغذاء في العالم. الجفاف لا يؤدي فقط إلى التأثير على الإنتاج الزراعي وإنما يؤثر أيضا على الإنتاج الحيواني، أو قد يضطر المزارعين الفقراء إلى بيع حيواناتهم للإنفاق على احتياجاتهم من الغذاء.
الحروب، يشير البرنامج العالمي للغذاء إلى أن فترات نقص الغذاء والتي يمكن ان تعزي إلى أسباب من فعل الإنسان تضاعفت من 15% إلى 35% تقريبا. فعبر مختلف أنحاء العالم من آسيا إلى إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية أدت الحروب إلى إجبار الملايين من البشر على هجر أماكن إقامتهم وهو ما يؤدي إلى أسوأ نتائج الجوع، وللأسف الشديد عندما تقوم الحرب يستخدم الطعام كسلاح، حيث قد يقوم الجنود بتدمير الزراعات والحيوانات وتدمير آبار المياه إلى آخر هذه الأفعال العدائية التي تجبر المزارعين على هجرة أراضيهم.
الفقر، والذي يعد السبب الأساسي للجوع، حيث يؤدي عدم توافر الموارد إلى سوء توزيع الدخل على مستوى العالم وفي داخل الدول، وعلى الرغم من تحسن أوضاع الفقر في العالم إلا ان أعداد الفقراء ما زلت مرتفعة بصورة مقلقة في كافة أنحاء العالم، بصفة خاصة في بعض مناطق إفريقيا. مع ارتفاع أعداد الفقراء تتعقد مشكلة الجوع باعتبار ان الفقر هو السبب الرئيس في مشكلة الجوع، فمن ناحية قد لا يمكن الفقر المزارعين من تمويل عمليات الزراعة بدءا من شراء الحبوب اللازمة وانتهاء بتكاليف العناية بمحصولهم، كما لا يمكن الحرفيين من الحصول على الأدوات اللازمة التي تمكنهم من القيام بأعمالهم والحصول على الدخل المناسب، لشراء الغذاء الذي يحتاجون إليه.
سوء النظام السياسي والاقتصادي المتبع في الدولة، حيث غالبا ما يترتب على النظام السياسي السيئ تركز عملية توزيع الثروة وتوليد الدخل في يد طبقة صغيرة في المجتمع، وهي ما يطلق عليها طبقة الصفوة، والذين يتمتعون بمستويات معيشة ورفاهية مرتفعة، بينما يعاني من هم في قاع المجتمع من الفقر والعوز.
وأخيرا الجوع نفسه، يعد أيضا أحد مسببات الجوع، حيث ان الأشخاص الجوعى دائما ما تكون حالتهم الصحية متردية ومن ثم تنخفض قدراتهم على العمل، وهو ما يؤدي إلى حلول الفقر بهم ومن ثم ارتفاع مستويات الجوع بينهم بصورة أكثر وأكثر وهكذا.
الجوع مأساة إنسانية عظيمة لا يشعر بها سوي الفقراء من الجوعى، وهذه المأساة لا شك تحتاج إلى تعاون دولي للقضاء عليها أو على الأقل التخفيف منها. حتى لا يصاب العالم بمشكلة أجيال نشأت بالكامل وهم يعانون من سوء التغذية، وما يترتب على ذلك من خسائر متعددة بصفة خاصة من الناحية الاقتصادية حيث تنخفض الإنتاجية بصورة كبيرة نتيجة لانتشار أمراض سوء التغذية في العالم.
إن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ينص في المادة 25 منه على حق كل فرد في العالم في الحصول على مستوى من المعيشة مناسب لصحته ورفاهية أسرته بما في ذلك الحق في الحصول على الطعام. هذا الحق الأساسي للإنسان من الواضح أن العالم فشل العالم في أن يؤمنه لمئات الملايين من الفقراء في شتى أنحاء العالم. السبيل الوحيد لمساعدة الجوعى في العالم هو الحرص على تقديم المساعدة المالية والعينية لمؤسسات مواجهة الفقر في العالم، وهي مؤسسات منتشرة في كل مكان. اللهم أدم علينا نعمتك واحفظها من الزوال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق