الجمعة، يوليو ٢٩، ٢٠١١

الإنفاق العسكري والدين العام الأمريكي

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 29/7/2011
في الجمعة الماضية استعرضنا الاتجاهات العامة للدين العام الأمريكي ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي وتوزيعه حسب الملكية، والمسببات العامة لتزايد الدين العام الأمريكي على النحو الذي نشهده حاليا. بدءا من هذا الأسبوع نخوض بصورة أعمق في البحث عن المسببات الأساسية لتصاعد حجم الدين بادئين هذا الأسبوع بالإنفاق العام الأمريكي واتجاهاته وبصفة خاصة الإنفاق العسكري الأمريكي وتأثيره على تصاعد حجم الدين.

كما سبق ان ذكرنا أن الدين العام لأي دولة هو انعكاس للعجز في الميزانية العامة لها والتي تتأثر بقوتين هما الإنفاق العام من جانب والإيرادات العامة من جانب آخر. في جانب الإنفاق نجد أن الإنفاق العام الأمريكي بلغ في السنوات الأخيرة مستويات تاريخية، حيث يقدر إجمالي الإنفاق العام في عام 2011 بحوالي 3.9 تريليون دولارا، وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي شكل الإنفاق العام الأمريكي نسبا كبيرة في أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت نسبة الإنفاق العام إلى الناتج في عام 1944 حوالي 43% وهي نسبة مرتفعة جدا. منذ ذلك التاريخ تراجعت نسبة الإنفاق العام إلى الناتج بصورة جوهرية وعلى مدى زمني طويل، حيث بلغت نسبة الإنفاق العام إلى الناتج أدنى مستوياتها في عام 2000، حوالي 18.2% فقط. غير انه في بداية الألفية الثالثة تصاعد الإنفاق العام الأمريكي مرة أخرى لعدة عوامل أهمها الحرب على أفغانستان والحرب على العراق والأعاصير المدمرة التي ضربت الولايات الساحلية في الخليج الأمريكي والأزمة المالية العالمية، ومنذ 2008 اخذ الإنفاق الأمريكي اتجاها مختلفا مع تزايد النفقات اللازمة للإنقاذ الاقتصادي في الوقت الذي لم تتراجع فيه مخصصات الدفاع على الرغم من الأزمة، إلى الحد الذي دفع بالإنفاق العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لأن يرتفع إلى 25.3% في عام 2011، كما هو موضح في الشكل رقم (1).


عندما ندقق في مكونات الإنفاق العام الأمريكي نجد ان نفقات الدفاع شكلت جانبا كبيرا من إجمالي الإنفاق العام الأمريكي عبر التاريخ المالي لها، ففي عام 1945 شكل الإنفاق على الدفاع حوالي 90% من إجمالي الإنفاق العام الأمريكي، وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها أخذت نسبة الإنفاق على الدفاع إلى إجمالي الإنفاق العام الأمريكي في التراجع بصورة كبيرة حتى بلغت حوالي 30% تقريبا في عام 1948. غير ان الحرب في شبه الجزيرة الكورية أدت إلى عودة نفقات الدفاع مرة أخرى إلى التصاعد إلى حد أنه في أعوام 1953-1954 بلغت نسبة  الإنفاق العسكري إلى إجمالي الإنفاق العام الأمريكي حوالي 70%. ومنذ ذلك الوقت أخذت نسبة الإنفاق العسكري إلى الإنفاق العام في التراجع بصورة ملموسة.

كان لقرار الولايات المتحدة الدخول في حرب فيتنام تأثيرا كبيرا على مخصصات الإنفاق على الدفاع حيث عادت تلك النسبة إلى التزايد مرة أخرى في منتصف الستينيات حتى بلغت حوالي 46% من إجمالي الإنفاق في نهاية الستينيات، وعندما أكملت الولايات المتحدة انسحابها من فيتنام حدث انخفاض واضح في نفقات الدفاع الأمريكية، وتحول جانب كبير من الإنفاق على الدفاع إلى الإنفاق على القوة البشرية من خلال زيادة نفقات التعليم والتدريب وذلك نتيجة لاتساع برامج الرعاية الاجتماعية ومساعدات الغذاء وإعانات البطالة وغيرها من أشكال الإنفاق الاجتماعي، نتيجة لذلك ارتفع الإنفاق الأمريكي العام الأمريكي بشكل عام وتراجعت نسبة الإنفاق على الدفاع إلى إجمالي الإنفاق العام، وفيما عدا فترة الحرب في فيتنام وحرب الخليج، يلاحظ أن نسبة الإنفاق العسكري إلى إجمالي الإنفاق العام ظلت في تراجع مستمر حتى بلغت 16.1% فقط من إجمالي الإنفاق العام في عام 1999، غير ان إعلان الحرب على أفغانستان والعراق دفع بهذه النسبة إلى التصاعد مرة أخرى إلى 20.1% في عام 2011 كما يتضح من الشكل.


كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي شكلت نفقات الدفاع مستويات تاريخية في أثناء الحرب العالمية الثانية كما يتضح من الشكل رقم (3)، حيث بلغت أكثر من 38% من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 1943 و 1944، وهي مستويات مرتفعة للغاية. ولكن النسبة سرعان ما عادت إلى الانخفاض بشكل جوهري مع انتهاء الحرب. غير أن الحرب الكورية أدت إلى رفع نسبة تلك النفقات إلى حوالي 14% من الناتج في أوائل الخمسينيات، ومنذ ذلك الوقت تتراجع نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج على نحو واضح حتى بلغت أدنى مستوياتها في عام 2001 حيث بلغت 2.98%.

كانت ردة فعل الإدارة الأمريكية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر في منتهى العنف، ولم تقدر الإدارة الأمريكية آن ذاك الآثار الكارثية التي يمكن ان تنشأ من جراء الرغبة في استرداد الهيبة الأمريكية أمام العالم، والتي انتهت بتراجع واضح في الدور الاقتصادي للولايات المتحدة في العالم، حيث عادت نفقات الدفاع إلى التصاعد مرة أخرى حتى بلغت 768 مليار دولارا تقريبا في العام الحالي، وهو ما يمثل حوالي 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ويلاحظ أن الإنفاق العسكري الأمريكي لم يتأثر بظروف الأزمة المالية، ومن الواضح ان الإنفاق العسكري يعد احد الأركان التي لا تمس في هيكل الإنفاق العام الأمريكي.

تقوم إستراتيجية الولايات المتحدة على أن تكون رائدة الإنفاق العسكري على مستوى العالم، وهناك فجوة كبيرة جدا بين إنفاق الولايات المتحدة العسكري والدول التي تليها في حجم الإنفاق، مثل الصين. على سبيل المثال بلغ إنفاق الولايات المتحدة العسكري في 2010 مبلغ 693.5 مليار دولارا، يليها الصين بحوالي 120 مليار دولارا، أي أن إنفاق الولايات المتحدة العسكري يقارب ست أضعاف أكبر دولة تليها في المرتبة في الإنفاق العسكري على المستوى الدولي. بل ان نسبة الإنفاق العسكري الأمريكي إلى إجمالي الإنفاق العسكري في العالم تعد مرتفعة للغاية أيضا، على سبيل المثال يقدر معهد Stockholm International Peace Research إجمالي الإنفاق العسكري في العالم في عام 2010 بحوالي 1.630 تريليون دولارا، مما يعني أن نصيب الولايات المتحدة بمفردها من هذا الإنفاق في هذا العام يصل إلى حوالي 43% من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم، وهي نسبة خيالية.



هذه المستويات الخرافية للإنفاق تضمن للولايات المتحدة السيطرة على بحار وأجواء العالم، بل وفضاء الكرة الأرضية. فالولايات المتحدة تملك اليوم أقوى سلاح بحرية في العالم اجمع، حيث يمكن للولايات المتحدة ان تحتفظ بطائرات عسكرية على حاملات طائراتها تساوي ضعف ما يملكه العالم أجمع من طائرات عسكرية، كذلك تقدر قوة سلاح البحرية الأمريكي بأنها أعظم من أقوى 13 سلاح بحرية في العالم اجمع، ولا يقتصر التفوق العسكري الأمريكي على سلاح البحرية، وإنما في كافة فروع الأسلحة.

هذا الإصرار على التفوق العسكري الأمريكي بالنسبة للعالم كله لا شك له تكاليفه، والدين الأمريكي هو احد أهم الآثار الجانبية لهذا الإنفاق العسكري الضخم. معظم المخاوف الحالية من تصاعد حجم الدين الأمريكي تنصب على ان هذه المستويات المرتفعة للدين العام الأمريكي لا بد وان تؤدي في النهاية إلى تراجع الإنفاق العسكري وتخفيض المخصصات لهذا الجانب، وهو ما قد يهدد الوضع الاستراتيجي العسكري الأمريكي.

السيناريوهات المتاحة حاليا عن توقعات الإنفاق العسكري الأمريكي في المستقبل تشير إلى احتمال حدوث تحول جوهري في هيكل الإنفاق العسكري، فقد كان الجانب الأكبر من ميزانية الدفاع ينفق على مخصصات استبدال وتحديث نظم التسلح وصيانتها، وتطوير والحصول على نظم الدفاع الجديدة، ولذلك لكي تحافظ الولايات المتحدة على الميزات النسبية التي تمتلكها في المجال العسكري مقارنة بأي قوة عسكرية أخرى في العالم أجمع. غير أن التقديرات المنشورة حديثا لمكتب الكونجرس للميزانية تشير إلى أن السبب الرئيس للنمو في نفقات وزارة الدفاع في المستقبل سوف يكون الزيادة في النفقات المدنية لوزارة الدفاع، مثل الإنفاق على التأمينات الاجتماعية للعسكريين  والرواتب والرعاية الصحية وأنشطة العمليات والصيانة الأخرى، وهو ما يمكن ان يؤثر على الريادة العسكرية للولايات المتحدة.

باختصار الإنفاق العسكري الأمريكي أصبح اليوم في غاية الخطورة للولايات المتحدة، فهو من ناحية يؤدي إلى تصاعد مستويات عجز الميزانية ومن ثم تصاعد الدين العام إلى المستويات الحرجة التي يبلغها حاليا، وهذا الأخير يمكن أن يؤثر سلبا على الإنفاق العسكري الأمريكي وهو ما قد يضع التفوق العسكري للولايات المتحدة في المستقبل موضع شك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق