صدر منذ أيام تقرير صندوق النقد الدولي عن المملكة والذي تم تخصيصه لتحليل
ومناقشة بعض المسائل المختارة لكي تكون مرجعا للمشاورات الدورية التي تجري من وقت
لآخر بين الصندوق والمملكة، لذلك يحتوي التقرير على مجموعة من القضايا ذات التأثير
الجوهري على الاقتصاد السعودي. الجزء الأول من التقرير يحاول تقييم تداعيات تغيرات
أسعار النفط والتأثيرات المحتملة لارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية على الاقتصاد
السعودي باعتبار أن الريال مربوط بصورة جامدة بالدولار.
في رأيي أن المملكة تتعرض في الوقت الحالي لصدمة شديدة تتمثل في تراجع
أسعار النفط لأقل من نصف مستوياتها، بحيث أصبحت الأسعار السوقية للنفط تقل بصورة
كبيرة عن المستويات اللازمة لضمان توازن ميزانيتها العامة، وهو ما يتسبب حاليا في
حدوث عجز مالي واضح سوف يتطلب لمعالجته حلان كلاهما مر، الأول وهو تخفيض الانفاق
الحكومي، بصفة خاصة الانفاق الرأسمالي على مشروعات البنية الأساسية، وهي مشروعات
حيوية، أو ربما تلجأ المملكة إلى تخفيض الانفاق على الخدمات الأساسية، وهو على ما
يبدو خيار غير مطروح في الوقت الحالي. الحل الثاني وهو عودة المملكة للاقتراض مرة
أخرى، بعد ان أصبحت أقل دولة مدينة بين دول مجموعة العشرين مع تراجع نسبة دينها
العام الى الناتج الى مستويات قريبة من الصفر.
عندما انطلقت الازمة المالية العالمية تراجعت أسعار النفط بصورة كبيرة
في 2008-2009، وهو ما أدى الى تراجع إيرادات الحكومة وتراجع الفائض المالي، غير أن
هذه التطورات لم تحدث تأثيرا ملموسا على مستويات الانفاق الحكومي، وكانت المملكة قد
تمكنت من تكوين قدر كبير من الاحتياطيات تم استخدام جزء منها كمصدات مالية في
مواجهة تراجع أسعار النفط.
اليوم يتكرر ذات الموقف، فالمملكة لديها قدر هائل من الاحتياطيات التي
يمكن استخدامها بسهولة في مواجهة التأثيرات السلبية لتراجع الإيرادات، غير أنه لا
بد من الإشارة إلى نقطتين هامتين، الأولى هي أن مستويات الإنفاق في الوقت الحالي
هي الأعلى في تاريخ المملكة، وبالتالي فإن تخفيض الإنفاق لإحداث موائمة بين
الإيرادات الحكومية والتزامات الإنفاق العام في ظل تراجع أسعار النفط لن يكون
سهلا، والثانية هي أنه من الواضح أن السيناريوهات المطروحة في الوقت الحالي تشير
الى استمرار أوضاع سوق النفط العالمي ضعيفة على الأقل على المدى المتوسط، في ضوء
السياسة الحالية لأوبك، وبالتالي فإن استمرار تراجع أسعار النفط لفترة طويلة يهدد
بالتآكل السريع لهذه المصدات المالية، واستنزاف الاحتياطيات بشكل سريع.
من جانب آخر فإن البيانات المتاحة تشير إلى أن مودعات الحكومة لدى
القطاع المصرفي تبلغ حاليا أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة
مرتفعة جدا، وهو ما يشير أيضا إلى الأثر الكامن لتراجع أسعار النفط على القطاع
المصرفي، فلا شك أن استمرار تراجع أسعار النفط، ولجوء الحكومة الى سحب مودعاتها
لتمويل جانب من العجز المالي سوف يترتب عليه تراجع حجم التزامات القطاع المصرفي، ومن
ثم أصوله كما نرى.
لا خلاف في أن النفط يمثل عصب الاقتصاد السعودي، وتغيرات أسعار النفط
تحدث تأثيرات جوهرية عليه، للتدليل على أهمية الصدمة الحالية لأسعار النفط في
المملكة يتوقع الصندوق أن تنخفض نسبة مساهمة قطاع النفط في الناتج من 46% كمتوسط
للسنوات 2010-2014 إلى 30.4% فقط في 2015، بينما تتراجع نسبة الصادرات النفطية إلى
الناتج من 42.5% إلى 28.5% فقط على التوالي، وكذلك أن تتراجع نسبة الإيرادات
النفطية الى إجمالي إيرادات الحكومة من 89.6% إلى 81% على التوالي.
في نهاية هذا الجزء من تقرير الصندوق يحاول تقييم تأثير صدمتي انخفاض
أسعار النفط والارتفاع المتوقع في أسعار الفائدة الأمريكية على الاقتصاد السعودي
وجهازه المصرفي من الناحية القياسية، وبغض النظر عن التحفظات على المحاولة، خصوصا فيما يتعلق باستخدام الصندوق لسلاسل
زمنية ربع سنوية غير كاملة، ومدى دقة البيانات عن الناتج المحلي غير النفطي الربع
سنوية، لذلك لن نخوض كثيرا في تفاصيل النتائج، إلا أن الصندوق يتوصل من خلال
عمليات التقدير إلى النتائج التالية.
أن تراجع أسعار النفط يحدث تأثيرا كبيرا ومستمرا على المتغيرات الاقتصادية
والمالية الرئيسة في المملكة، والتي تتمثل في تراجع الإيرادات الحكومية وتزايد عجز
الميزانية وحدوث عجز في الميزان التجاري، على الرغم من انخفاض الواردات، وكنتيجة
لما سبق يتراجع الناتج المحلي الإجمالي، يصاحب ذلك بالطبع تراجع في نمو عرض النقود
والائتمان المصرفي، في ظل هذه الأوضاع يتراجع حجم القطاع غير النفطي من خلال قناة
الانفاق الحكومي، وتتراجع أسعار الأسهم وترتفع نسبة القروض المتعثرة مع هبوط مستوى
النشاط الاقتصادي بشكل عام. هذه الآثار تتكرر تقريبا مع كل تراجع جوهري في
الإيرادات النفطية للمملكة، وهي كما نرى آثار متوقعة في اقتصاد نفطي تعتمد فيه
الحكومة بصورة أساسية على إيراداتها من تصدير النفط الخام.
بالنسبة للتأثير المتوقع لصدمة أسعار الفائدة الأمريكية على الاقتصاد
السعودي، فإن التقرير يعدد فترتين ارتفعت فيهما أسعار الفائدة من 6.5% في 1988 إلى
9.75% في 1989، وكذلك من 3% في 1994 إلى 6% في 1995، وقد كان من المفترض أن يترتب
على هذه التطورات في أسعار الفائدة ارتفاع حجم المودعات المصرفية، ومن ثم حجم
الائتمان، وهو ما قد يعوض بصورة جزئية التراجع المتوقع في مودعات الحكومة، وتراجع
معدلات التضخم، غير أن الصندوق يشير إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة (وبالتالي ارتفاع
قيمة الريال نظرا لارتفاع قيمة الدولار) لم يؤد إلى تراجع معدلات التضخم في
المملكة في هذه الفترات، وهي ظاهرة تتكرر أيضا في الوقت الحالي، فعلى الرغم من
ارتفاع قيمة الريال مع ارتفاع الدولار دوليا في الفترة الأخيرة فإن التضخم لم
يتراجع في المملكة، وهو ظاهرة في حاجة الى المزيد من الدراسة حول تأثيرات هيكل
الأسواق ودرجة التركز والاحتكار فيها، ومدى حرية انتقال تأثيرات معدلات الصرف إلى
الأسعار Currency Pass Through.
تشير النتائج التي توصل إليها الصندوق إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة
الأمريكية يحمل تأثيرا قصير الأجل على أسعار الأسهم ونمو الناتج المحلي الإجمالي
ومعدلات التضخم، غير أن هذا التأثير من الناحية الرقمية يعد محدودا، مما يرجح
احتمالات أن تكون الآثار الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية على الاقتصاد
السعودي محدودة، ويمكن إهمال تأثيراتها المتوقعة بشكل عام.
وعلى ذلك فإنه بالمقارنة مع التأثيرات الجوهرية لتراجع أسعار النفط، لا
يتوقع، كما نلاحظ، أن يكون للصدمة المتوقعة لأسعار الفائدة الأمريكية أثارا ملموسة
على الاقتصاد السعودي، ولكن ماذا تعني هذه النتائج؟ إن مغزى هذه النتائج هو أن
إدارة السياسة المالية في أوقات تراجع أسعار النفط تعد مسألة في غاية الأهمية لمواجهة
تأثيرات تراجع أسعار النفط على الاقتصاد السعودي، وهو الأمر الذي يتطلب ضرورة
احتفاظ المملكة بصورة دائمة بما يمكن أن نطلق عليه "حجما أمثل للاحتياطيات"
يستخدم في أي وقت كمصدات مالية لمواجهة
أكبر تأثير منظور لتراجع أسعار النفط على الاقتصاد السعودي، أو أن تحدد توليفة
مثلى بين الاحتياطيات والدين العام في أوقات تراجع أسعار النفط، بحيث تتمكن من
مواجهة الآثار السلبية للتراجع.
في رأيي أيضا أن الأوضاع الحالية
في المملكة تمثل فرصة مثالية لبدء المملكة برنامجا مكثفا للإصلاح المالي وإعادة
هيكلة إيرادات الحكومة على النحو الذي يخفف من اعتماد الميزانية على الإيرادات
النفطية، بما في ذلك البحث عن مصادر إضافية للإيرادات، وإعادة تسعير السلع
والخدمات العامة، والنظر بجدية في ترشيد الدعم، ورفع كفاءة الانفاق العام ووقف
كافة أشكال الهدر فيه، وبالطبع بذل مجهود أكبر في مجال تنويع مصادر الدخل والناتج
بعيدا عن القطاع النفطي. في الأسبوع القادم استكمل باقي القضايا التي طرحها تقرير الصندوق إن
شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق