يترقب العالم أجمع باهتمام شديد هذه الأيام اجتماعات اللجنة الفدرالية
للسوق المفتوحة FOMC في
الاحتياطي الفدرالي الأمريكي تحسبا لقيام اللجنة بالسماح لمعدلات الفائدة في
الولايات المتحدة بالارتفاع، ومن ثم بدء انعكاس الاستراتيجية التوسعية التي تتبعها
الولايات المتحدة منذ بدأت الأزمة في 2008، والتي عرفت بسياسة معدل الفائدة الصفري
ZIRP، ووفقا لهذه السياسة يتراوح معدل الفائدة
المستهدف بين صفر وربع في المئة، ويميل معظم المراقبين إلى الاعتقاد بأنه في
اجتماع اللجنة في 16 ديسمبر القادم سوف يتم اتخاذ قرار رفع سعر الفائدة لأول مرة
بعد الأزمة، لينهي الاحتياطي الفدرالي بذلك رحلة السياسة النقدية التوسعية التي استمرت
لفترة طويلة حتى اليوم.
يطلق على معدل الفائدة الذي يستهدفه البنك المركزي معدل السياسة Policy Rate، وغالبا ما يمثل الأساس الذي يبنى عليه هيكل
معدل الفائدة في الدولة بفترات الاستحقاق المختلفة، ويعد معدل الفائدة على الأموال
الفدرالية Federal Funds Rate، أي معدل الفائدة على
احتياطيات البنوك لمدة ليلة واحدة، هو معدل السياسة بالنسبة للاحتياطي الفدرالي.
ولكن كيف سيرفع الاحتياطي الفدرالي سعر الفائدة؟ تكمن الإجابة في قيام
الاحتياطي الفدرالي بتنفيذ عمليات معاكسة لما قام به أثناء دورات التيسير الكمي
التي أجراها سابقا عندما كان يشتري سندات ويرفع من حجم ميزانيته، حيث سيقوم بخفض
حجم ميزانيته من خلال بيع السندات التي اشتراها على دفعات، يتبعها انخفاض
الاحتياطيات لدى البنوك الأمريكية، ومن ثم يبدأ معدل الفائدة على الأموال
الفدرالية في الارتفاع، بما تتوافق مع مستهدفاته التي سيتبناها فيما يتعلق بمعدلات
الفائدة المناسب.
بارتفاع معدل الفائدة سوف تتسع الهوة في اتجاه السياسة النقدية بين
الولايات المتحدة والدول الأخرى، حيث ستبدأ عملية تضييق السياسة في الوقت الذي
ستستمر فيه أوروبا واليابان والصين في سياستهم التوسعية.
على الرغم من الاعتقاد بأن شهر ديسمبر ربما يشهد ارتفاع أسعار الفائدة
الأمريكية، فمن وجهة نظري أعتقد أن هناك عاملان سوف يلعبان دورا كبيرا في قرار
الرفع من عدمه، على الرغم من استمرار تحسن أوضاع سوق العمل بشكل مضطرد واقتراب
معدلات البطالة من مستوياتها قبل الأزمة. العامل الأول هو معدل الذي التضخم يتطور
على نحو مقلق، حيث استمر تراجع معدل التضخم للشهر الثاني على التوالي، من -0.1% في
شهر أغسطس إلى -0.2% في شهر سبتمبر الماضي. ووفقا لآخر تقارير مكتب إحصاءات العمل
الأمريكي، فقد بلغ معدل التضخم في شهر أكتوبر 0.2%، بينما ظل معدل التضخم الأساسي Core inflation (الرقم القياسي للأسعار بدون أسعار الطاقة
وأسعار الغذاء) عند 1.8%. بهذا الشكل يظل معدل التضخم أقل من المعدلات المستهدفة
بواسطة الاحتياطي الفدرالي، ومن ثم فإن رفع معدل الفائدة سوف يترتب عليه تطور
التضخم على نحو أسوأ. لذلك أعتقد أن هذه الأوضاع للتضخم سوف تؤثر بشكل واضح في
قرار لجنة السوق المفتوحة. أما العامل الثاني فيتمثل في الآثار السلبية التي يمكن
أن يتركها هذا الرفع على معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة على شركاء
الولايات المتحدة في التجارة من الدول الناشئة، وهو ما أركز عليه في هذا المقال.
تتلخص آثار رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة في ارتفاع تكلفة
الاقتراض، وارتفاع قيمة الدولار، وهما الأمران اللذان يتوقع أن ينعكسا بصورة سلبية
على معدل النمو الاقتصادي الحقيقي للولايات المتحدة، ولا شك أن الوقت الحالي ربما
لا يكون الأنسب على الإطلاق لتحمل تراجع في معدلات النمو، خصوصا وأن النمو ضعيف
أيضا في كافة المناطق الرئيسة في الاقتصاد العالمي تقريبا. من جانب آخر من المتوقع
أن تسوء أوضاع الميزان التجاري، وإن كان حساب رأس المال ربما يشهد تحسنا مع تزايد
عمليات تدفق رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة.
من جانب آخر فإن رفع معدل الفائدة سوف ينهي حقبة الأموال الرخيصة
بالنسبة للولايات المتحدة. فأثناء فترة الفائدة الصفرية استطاعت
الولايات المتحدة اقتراض تريليونات الدولارات بتكلفة منخفضة، لكن الوضع بعد ارتفاع
الفائدة سوف يكون مختلفا، وبالتالي فإن التوسع في الدين الأمريكي سوف يكون مكلفا، وهو ما يعني أن الوقت قد حان للسيطرة على نمو الدين العام. كذلك من
المتوقع أن تتراجع أسعار الأسهم، ليس فقط في الولايات المتحدة وإنما أيضا في
الأسواق العالمية. أكثر من ذلك فإن رفع سعر الفائدة سوف ينهي رحلة صعود الذهب،
ولعل هذا الأمر يبدو واضحا من المستويات الحالية لسعر الذهب والذي فشل في أن يحقق
مكاسب مع تغير الأوضاع الإقليمية والعالمية، ومع بدء ارتفاع معدلات الفائدة سوف
يبدو واضحا أن الذهب معدن عقيم ولا يتولد عنه عوائد.
غير أن آثار رفع سعر الفائدة لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط
وإنما، وهذا هو الأهم بالنسبة لنا، تمتد أيضا خارجها، وينبع ذلك من الدور الذي
يلعبه الدولار في الاقتصاد العالمي كعملة احتياط وكعملة ربط، وكعملة تسوية
للمعاملات المالية والتجارية الدولية، هذه القنوات تحمل تأثير تغيرات السياسة
النقدية الأمريكية. أهم الآثار المتوقعة هي ارتفاع الدولار، وتراجع عملات الدول
الناشئة وخروج رؤوس الأموال من الدول الناشئة، وتزايد الضغوط على الدول المدينة
بالدولار.
الأثر المباشر لرفع سعر الفائدة على دول العالم الأخرى ينبع من ارتفاع
قيمة الدولار الأمريكي بصورة أكبر، بالرغم من أنه العملة التي ترتفع قيمتها تقريبا
في العالم منذ أكثر من عام، حيث يصبح الدولار الأمريكي أكثر عملات العالم جاذبية،
وارتفاع قيمة الدولار سوف يكون لها آثار إيجابية وسلبية على الدول ذات الأسواق
الصاعدة أو الناشئة في العالم، فمع ارتفاع قيمة الدولار أيضا ستتراجع قيمة عملات
الدول الناشئة. بالطبع ارتفاع الدولار بالنسبة لعملات هذه الدول سوف يحدث أثرا
إيجابيا عليها، بعد مرور بعض الوقت، وذلك من خلال انخفاض قيمة عملات هذه الدول
وبالتالي التحسن النسبي لتنافسية هذه الدول في الأسواق العالمية. من جانب آخر ستتراجع
أسعار السلع التجارية والتي تؤثر بصورة مباشرة على الاقتصادات المصدرة لها، مثل
إندونيسيا والبرازيل.
وكما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة سوف تؤدي الفائدة المرتفعة
إلى زيادة تكلفة الاقتراض ومع استمرار تزايد قيمة الدولار فإن ذلك سوف يتسبب في
ارتفاع عمليات خروج رؤوس الأموال إلى الخارج، والتي بدأت أساسا منذ فترة مع تصاعد
قيمة الدولار وتزايد الثقة في تعافي الاقتصاد الأمريكي.
إن الدول التي أفرطت في عمليات الاقتراض بالدولار الأمريكي وقت أن
كانت قيمته منخفضة واستخدمته في تمويل مشروعاتها الضخمة في هذه الدول، أو لغير ذلك
من الأغراض، هذه الدول سوف تواجه تأثيرا مزدوجا، خصوصا عندما تكون ديونها بمعدلات
عائد متغير. حيث سيرتفع عبء المديونية عليها نتيجة ارتفاع سعر الفائدة من جانب،
كما سترتفع القيمة الحقيقية لديونها (مقاسة بقيمة عملاتها المحلية) من جانب آخر.
وأخيرا فإنه مما يخفف من الآثار المتوقعة لرفع معدلات الفائدة
الأمريكية هو تصريح رئيسة الاحتياطي الفدرالي السيدة يلين بأن عملية رفع معدل
الفائدة سوف تتم بصورة أبطأ بكثير من حالات الكساد السابقة وذلك لتلافي التأثير
العنيف الذي يمكن أن يتركه رفع الفائدة، حيث ستظل معدلات الفائدة منخفضة بالقياس
إلى مستوياتها التاريخية لفترة طويلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق