من المؤكد أننا جميعا فوجئنا إلى حد الصدمة، من الإجراء الذي اتخذته
مؤسسة ستاندرد أند بوورز الأسبوع الماضي بتخفيض التصنيف الائتماني السيادي طويل
وقصير الأجل، المحلي والخارجي، من AA-/A-1+، إلى A+/A-1، مع نظرة مستقبلية سلبية. جاء ذلك في ضوء
توقعات الوكالة بارتفاع نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 1.5% في
2014 إلى 16% في 2015، وهو ما يعكس التراجع الحاد في أسعار النفط وفقا للوكالة.
الوكالة تتوقع أيضا استمرار العجز مرتفعا خلال السنوات الثلاث القادمة، على الرغم
من تراجع نسبة العجز الى الناتج.
ردة الفعل المحلية لهذا التصنيف تمثلت في وصف تصنيف الوكالة للمملكة
بأنه يفتقد للدقة والمصداقية وللمعايير المهنية في التصنيف، وأنها أهملت عوامل
كثيرة تعزز التصنيف الائتماني الحالي للمملكة، وأن التصنيف الائتماني للمملكة لا
يجب أن يكون محل تأثر نتيجة لعوامل طارئة مثل تراجع أسعار النفط في هذه السنة.
تجدر الإشارة إلى أن وكالة ستاندرد أند بوورز لم تتردد في تخفيض تصنيف
الولايات المتحدة الأمريكية، أقوى اقتصاد في العالم، في أغسطس 2011 على خلفية
الخلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول القضايا الخاصة بالمالية العامة
للدولة، وتزايد حجم الدين العام الأمريكي. أتذكر أن فقدان التصنيف الممتاز
للولايات المتحدة جاء بمثابة صدمة للكثيرين، كما تبعه أيضا هجوما على الوكالة،
باعتبارها المؤسسة التي لم تجد أي غضاضة في منح صكوك الغفران للكثير من الأدوات
المالية التي تسببت في الأزمة المالية العالمية، بل لقد هدد أحد أعضاء الكونجرس
الوكالة بالمثول أمام القضاء على خلفية تصنيفاتها للأدوات المالية التي تسببت في
الأزمة المالية العالمية باعتبارها أحد من شاركوا في صنعها.
هذا الشهر أيضا قامت الوكالة بتخفيض تصنيف اليابان ثالث أكبر اقتصادات
العالم من AA-، إلى A+، استنادا الى الاعتقاد بأن السياسات الحالية للحكومة لن تمكن اليابان من معالجة
تردي أوضاعها الاقتصادية في السنوات القليلة القادمة على النحو الذي يمكن اليابان
من تحقيق معدل نمو وتضخم معقول، وأن استمرار تلك الاستراتيجيات سوف يضعف الجدارة
الائتمانية لليابان. جاء ذلك على الرغم من إعلان البنك المركزي الياباني مؤخرا
بتحسن آفاق النمو ومعدل التضخم. في المقابل فقد جاء تصنيف كوريا الجنوبية والصين
أعلى من تصنيف اليابان، على الرغم من المشكلات الاقتصادية للأخيرة.
ما أريد التأكيد عليه هو أن التصنيفات التي تقوم بها الوكالة تعكس
منهجها في عمليات التصنيف، والذي بالطبع لا يمكن محاسبتها عليه، ربما نختلف معها،
أو ربما يختلف اسلوبها في التصنيف عن ذلك الذي تستخدمه الوكالات الأخرى، بدليل أنه
في بعض الأحيان قامت الوكالة بتخفيض التصنيف الائتماني لدولة ما ومع ذلك لم تقم
الوكالات الأخرى بذلك، مثلما حدث مع الولايات المتحدة أو حتى اليابان، بل إنه
أثناء كتابة هذا المقال قرأت خبرا مفاده بأن وكالة موديز قد ثبتت التصنيف
الائتماني للمملكة عند مستوى مرتفع مع نظرة مستقبلية مستقرة. التصنيف الائتماني
إذن مسألة فنية تختلف منهجيتها من وكالة إلى أخرى.
وبغض النظر عن الاعتبارات التي استندت إليها الوكالة في تخفيض التصنيف
الائتماني للمملكة، وما إذا كانت صحيحة فيما ذهبت إليه أم لا، فإن ما حدث بالتأكيد
يمثل موقفا لا يجب أن يمر هكذا، دون أن نقف أمامه مليا ونحاول البناء على ما جاء
فيه بصورة إيجابية.
فلا خلاف في أن ارتفاع اعتماد المملكة على مصدر وحيد للدخل والناتج والمستويات
المرتفعة للإنفاق العام للدولة ومعدلات نموها، تؤكد أنه لم يعد من المناسب، ولا حتى
من الممكن، للمملكة أن تستمر معتمدة على النفط كمصدر وحيد معرضة اقتصادها من وقت
لآخر للصدمات الناتجة عن تقلبات أسعاره. فلا شك أن المستويات الحالية للإنفاق
العام للدولة لا بد وأن تدعمها مصادر أخرى أكثر استقرارا للإيرادات الحكومية ترتبط
أساسا بالنشاط الاقتصادي المحلي، حتى لا تضطر المملكة في أوقات العجز المالي الراجع
إلى أسباب خارجية إلى الاقتراض معرضة صنيفها الائتماني للخطر، وإذا كان هناك حاجة
ماسة للمملكة لتنويع مصادر دخلها، فليس هناك أنسب من الوقت الحالي لتبني
الاستراتيجيات المناسبة لهذا التنويع لتخفيف اعتماد الحكومة وانفاقها العام على
النفط.
إن الحديث عن تنويع الهيكل الاقتصادي للمملكة لم يعد ترفا في الوقت
الحالي، فلا شك أن استكشاف المزايا النسبية للقطاعات الواعدة ذات القيمة المضافة
المرتفعة في الناتج المحلي الإجمالي يجب أن يحتل أولوية أولى لدى المخطط وصانع
السياسة الاقتصادية، وذلك في إطار رؤية تقوم على التحول من الاستراتيجيات التقليدية
للنمو القائمة على توزيع الثروة إلى استراتيجيات جديدة تستهدف أساسا خلق الثروة
ورفع درجة تنافسية الاقتصاد الوطني في الأسواق العالمية بعيدا عن النفط ومنتجاته.
هذه الرؤية ينبغي أن تتضمن أيضا تخفيف الدور الذي تقوم به الحكومة في
النشاط الاقتصادي، وترشيد الانفاق العام للدولة، بصفة خاصة ترشيد الدعم الحكومي للسلع
والخدمات الأساسية، وعلى رأسه دعم الطاقة، حيث يستفيد منه الجميع، المستحق وغير
المستحق، وأن تبحث الدولة عن آليات أفضل لتقديم الدعم، حتى يحقق الأهداف الحقيقية
له وتضمن استفادة الفئات المستهدفة أساسا من الدعم، وتحرم الفئات القادرة من
الاستفادة منه، وتحويل الجانب الأكبر من الدعم الاستهلاكي الى دعم إنتاجي يرتبط
بالأولويات القطاعية التي تتبناها الدولة، استنادا الى درجة كفاءة النشاط
الانتاجي.
تحتاج المملكة أيضا إلى تعزيز دور الاستثمارات الأجنبية، وذلك في إطار
بيئة أعمال صديقة لها، من خلال إزالة كافة العوائق التي تحول دون تدفق هذه
الاستثمارات، سواء على مستوى القوانين أو الإجراءات أو النظم، وتقديم الحوافز
المناسبة لها استرشادا بالتجارب الدولية في هذا المجال.
ومن المؤكد أن أهم التحديات التي تواجهها المملكة في الوقت الحالي،
وفي المستقبل أيضا، هي تحديات سوق العمل، وعلى رأسها الحاجة الى خلق العدد الكافي
من الوظائف للداخلين الجدد الى سوق العمل من الذكور والإناث على النحو الذي يساعد
على الإبقاء على معدلات البطالة منخفضة بين المواطنين، ومن هنا تأتي أهمية دور
المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تصب أساسا في تعزيز دور القطاع الخاص ورفع
مساهمته في الناتج، وكذلك تعزز المبادرات الخاصة وعمليات تحفيز الابتكار وحث
الشباب على التوجه الى العمل الحر المنتج، وعلى النحو الذي يسهم في تنويع مصادر
الدخل.
من جانب آخر فإن قطاع التعليم يقف في حجز الزاوية في هذه العملية، ذلك
أن تنويع الهيكل الاقتصادي يتطلب مهارات بشرية ذات تأهيل تعليمي وتدريبي مرتفع،
حتى نضمن ارتفاع إنتاجية عنصر العمل والقيمة المضافة له، لذلك فإن تطوير نظام
التعليم وموائمة البرامج التعليمية مع متطلبات سوق العمل تصبح ضرورة لضمان تحسين
مخرجات النظام التعليمي ومد سوق العمل بالمهارات التي يحتاج اليها بالفعل، حتى يقل
الفاقد أو الهدر في الانفاق الاستثماري في مجال التعليم.
باختصار ينبغي النظر إلى تخفيض التصنيف الائتماني على أنه جرس تنبيه
أو إنذار لخطورة استمرار الأوضاع الحالية على ما هي عليه، والتأكيد على أهمية أن
تبدأ خطط الإصلاح الهيكلي، بما فيها الإصلاح المالي على نحو سريع لضمان الاستقرار
الاقتصادي المنشود، وحتى لا تتعرض المملكة لمثل هذه التقارير المفاجئة من أية وكالة
للتصنيف الائتماني، نتيجة لتطورات معاكسة أو لظروف خارجة عن إرادتها ولا تخضع
لسيطرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق