السبت، يونيو ٠٥، ٢٠١٠

اليوم ذكرى هزيمة يونيو 1967

في مثل هذا اليوم من عام 1967، كان عمري 12 عاما، وكنت قد انتهيت لتوي من أداء اختبارات الصف السادس الابتدائي وأستعد للمرحلة الإعدادية، وبما أننا كنا في بداية الإجازة الصيفية كنت ألعب كرة القدم مع رفاقي كل صباح تقريبا، باعتبارها تسليتنا شبه الوحيدة، فلم يكن هناك تليفزيون أو كومبيوتر أو انترنت أو فيس بوك أو غير ذلك من وسائل الترفيه التي يتمتع بها الجيل الحالي، غير أن هذا الصباح كان مختلفا، فبينما كنا منهمكين نلعب الكرة في صباح يوم 5 يونيو 1967 في بلدتي المنزلة محافظة الدقهلية والتي تقع على بحيرة المنزلة في أقصى شمال جمهورية مصر العربية والتي تفصلنا عن محافظة بورسعيد، مرت على سماءنا طائرات حربية ذات صوت مزعج جدا لنا نحن الصغار، وكان الموقف غريبا علينا أن نشاهد هذه الطائرات، والتي اتضح فيما بعد أنها طائرات إسرائيلية عائدة من مهامها القتالية بعد أن أجهزت على القوة الجوية المصرية وأسكتت وسائل الدفاع على الأرض، وأصبحت بذلك مصر كلها تحت رحمة القوات الجوية الاسرائيلة والطريق إلى القاهرة مفتوحا أمام الجيش الإسرائيلي عبر سيناء. تنامى إلى أسماعنا الصغيرة أن الحرب قد اشتعلت بين مصر وإسرائيل، وان الراديو المصري (وسيلة الترفيه الأساسية في هذا الوقت، والآلة الإعلامية الضخمة التي استغلتها حركة يوليو في دغدغة الشارع بالخطابات الحماسية والأغاني الثورية، والقصص والتمثيليات وغيرها، لنكتشف لاحقا، وللأسف بعد فوات الأوان أننا كنا نعيش في سراب كبير)، قطع الإرسال ويبث البيانات العسكرية، تركنا لعبة كرة القدم وجرينا بكل قوانا نحو أقرب راديو لنستمع إلى الأخبار، فإذا بالبيان العسكري الأول عبر صوت القاهرة، وصوت العرب، والشرق الأوسط ... الخ، يذيع أن قواتنا الباسلة قد اشتبكت مع العدو الإسرائيلي صباح اليوم، وأنها كبدته خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وأن عدد الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها حتى هذه اللحظة (كانت الساعة حوالي العاشرة صباحا) هو 23 طائرة، لم نملك ونحن صغار أن نكتم فرحتنا وأخذنا نهلل فرحا بالنصر المبين على إسرائيل وأخذنا نعد الساعات التي سوف يطرق خلالها جيشنا الباسل أبواب تل أبيب بعنف لكي نلقي بإسرائيل في عرض البحر مثلما وعدنا، وكان يردد على أسماعنا دائما، زعيمنا الباسل.



بما أننا قريبون من إسرائيل جغرافيا فقد فتحت الراديو على إذاعة إسرائيل التي تصل إلينا بصوت واضح، فإذا بالمذيع يردد نداءات للجيش المصري بأن يلقي بسلاحه وألا يستمع الجنود إلى نداءات قادتهم، ولكن ما زاد اطمئناني أن راديو إسرائيل لم يعلن أنه قصف كل المطارات المصرية وأن كل الطائرات الحربية المصرية مدمرة بالفعل على الأرض، وتركنا "على عمانا" كما يقولون، وهو ما قرأته بعد ذلك في مذكرات موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي بأنه لم يشأ أن يعلن حقيقة ما حدث على الملأ حتى يتركنا نتخبط فيما نحن فيه. المهم توالت البيانات سريعا بعدد الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها ونحن نهلل ونكبر الله أكبر على العدو الاسرائيلي، جاء اليوم الذي ننتقم منه ونرد ما فعله فينا في عام 1956 باعتباره كان واحدا من الجيوش الثلاثة التي هاجمت مصر فيما عرف بعد ذلك بالعدوان الثلاثي. المهم لم ينته اليوم حتى كان حصيلة الطائرات الاسرائيلة التي سقطت تقترب من المائة طائرة، إنه بالفعل أداء رائع للجيش المصري ان يتمكن من إسقاط هذا العدد الرهيب من الطائرات في غضون 24 ساعة.



عندما استيقظنا في اليوم الثاني كنا نجلس حول الراديو لنتابع الأخبار أولا بأول على صوت أشهر المذيعين في هذا الوقت، وكان اسمه "احمد سعيد" كان صوت أحمد سعيد مميزا ولذلك استخدمته حركة يوليو في مخاطبة الشارعين المصري والعربي، وحققت من ورائه الكثير من الناحية الإعلامية، خصوصا على صعيد العالم العربي. وفقا للبيانات المتتالية فإن أعداد الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها في المعارك الحامية التي تدور بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي تتزايد، لدرجة أننا في منتصف اليوم الثالث 7 يونيو كانت أعداد الطائرات الاسرائيلة التي تم إسقاطها تقترب من المائتين، وكنت دائما ما أسأل نفسي كيف يمكن لدولة صغيرة مثل إسرائيل أن يكون لديها هذا العدد الهائل من الطائرات، ولكني لصغر سني كنت اصدق كل شيء وانتشي بالنصر المبين الذي يحققه جنودنا الأبطال على العدو الاسرائيلي، وكان أخي جنديا في الجيش في هذا الوقت. في مساء اليوم الثالث من قيام المعارك سمعت ضجة كبيرة بين الناس، وذهبت أتحسس ماذا حدث، فإذا بي أسمع لأول مرة أن جيشنا البطل قد هزم في المعركة، وأنه لم تكن هناك معركة أصلا، وأنه لم يتم اسقاط طائرة اسرائيلية واحدة، وان الجنود المصريين تركوا لينسحبوا كل بطريقته حتى يصل إلى الشاطئ الآخر من قناة السويس، وبدون أي تغطية عسكرية أو ميدانية. أكثر من ذلك طلبوا منا الهدوء لأن الزعيم سوف يوجه خطابا للأمة بعد قليل، وبالفعل استمعت إلى الخطاب الذي أعلن فيه الزعيم الهمام أن الجيش المصري هزم، وأنه يتنحى عن مسئوليته كرئيس للدولة لينضم إلى العاملين في مصر دفاعا عن شرفها وحتى تسترد أرضها التي احتلها العدو الإسرائيلي.



في كافة الأحداث التي مرت علي لم اصدم في حياتي مثل هذه الصدمة، كيف يجرؤ النظام ان يجعلنا نعيش في تمثيلية سخيفة من تمثيلياته العديدة التي مارسها علينا، حتى نفيق على أكبر صدمة عاصرتها في حياتي، كيف يكذب علينا طوال هذه المدة، ويدعي أننا نحقق انتصارات وراء انتصارات بينما العدو يقف على حدود قناة السويس ومدن القناة مستباحة أمامه بالكامل. لقد كانت بالفعل صدمة عنيفة على نفسي الصغيرة في هذا الوقت، أفقدتني الثقة في كل ما يقال أو يذاع بعد ذلك، وتلك قصة أخرى لا مجال للحديث عنها اليوم. هزيمة 5 يونيو أسميت بعد ذلك بنكسة 5 يونيو، وأصبح هذا اليوم يحمل ذكرى النكسة، بينما الواقع الأليم أنها كانت هزيمة ساحقة لجيوش 3 دول عربية كانت من نتائجها فقدان القدس وسيناء والجولان، وبدأ الجيش الإسرائيلي يروج لأسطورة الجيش الذي لا يقهر، كيف لا وقد استطاع في عدة ساعات ان يشل القوى الدفاعية لثلاث دول عربية على مختلف حدوه. عزيزي القارئ معذرة على هذه الذكريات الأليمة، ولكن كل يوم 5 يونيو تصعب علي نفسي الصغيرة أنني صدقت هؤلاء الكذابين وكنت اهلل فرحا، بينما الجنود المصريون يقتلون ويدفنون ويداسون بالمدرعات وهم أحياء في ممرات سيناء. إنها بالفعل ذكرى أليمة.
مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون.

هناك تعليقان (٢):

  1. دكتور، نتمنى ان تكون احداث 1967 هي ادنى ما وصل اليه العرب و المسلمون و ان شاء الله نكون قد بدنا في التحسن

    ردحذف
  2. شكرا عبد الرحمن
    أدعو الله ذلك، ولكن يبدو أن احوالنا تسير نحو الأسوأ.
    الله يصلح أحوالنا... آمين

    ردحذف