نشر في جريدة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 9/7/2010.
عندما بدأت في كتابة هذه السلسلة من المقالات بعنوان "عالم لا يتعلم من أزماته"، كنت أعلم أنني سأواجه مشكلة عندما أصل إلى هذه الحلقة عن انهيار 1929، وكيف لا؟ وهي المحطة الرئيسية للازمات المالية العالمية، حيث تسبب انهيار سوق الأسهم في أعنف أزمة اقتصادية تعرض لها العالم في العصر الحديث. ذلك أن أهم مشكلة تواجهني عندما أكتب عن انهيار 1929 هي كيفية الإحاطة بهذا القدر الهائل من التفاصيل عن كافة الجوانب الفنية للازمة ومسبباتها ونتائجها، وإعادة عرض هذه التفاصيل بأسلوب مبسط للقارئ، وهي مهمة أراها صعبة جدا. ما سأعرضه هنا هو جهد المقل الذي يحاول تبسيط الأمور بأقصى قدر ممكن حتى يستطيع القارئ ذو الخلفية الاقتصادية المحدودة، أو بدون خلفية، أن يستوعب حقيقة ما حدث في اشهر أزمة مالية مرت على العالم.
عندما بدأت في كتابة هذه السلسلة من المقالات بعنوان "عالم لا يتعلم من أزماته"، كنت أعلم أنني سأواجه مشكلة عندما أصل إلى هذه الحلقة عن انهيار 1929، وكيف لا؟ وهي المحطة الرئيسية للازمات المالية العالمية، حيث تسبب انهيار سوق الأسهم في أعنف أزمة اقتصادية تعرض لها العالم في العصر الحديث. ذلك أن أهم مشكلة تواجهني عندما أكتب عن انهيار 1929 هي كيفية الإحاطة بهذا القدر الهائل من التفاصيل عن كافة الجوانب الفنية للازمة ومسبباتها ونتائجها، وإعادة عرض هذه التفاصيل بأسلوب مبسط للقارئ، وهي مهمة أراها صعبة جدا. ما سأعرضه هنا هو جهد المقل الذي يحاول تبسيط الأمور بأقصى قدر ممكن حتى يستطيع القارئ ذو الخلفية الاقتصادية المحدودة، أو بدون خلفية، أن يستوعب حقيقة ما حدث في اشهر أزمة مالية مرت على العالم.
مرة أخرى عندما نقرأ تاريخ الأزمات المالية في العالم بتمعن سوف نكتشف حقيقة مهمة للغاية، وهي أن هذه الأزمات غالبا ما يسبقها حالات رواج غير اعتيادي، وبمعنى آخر، علينا أن نتنبه إلى أننا عندما نعيش في فترة ازدهار ورواج فمن الواجب أن نستعد ونتهيأ لأن الانهيار قادم لا محالة في الطريق، ولكن من يفكر في حدوث أي انهيار في ظروف قمة الفوران، بل من يكبح جماح القطيع الذي يجمح بلا توقف نحو المجهول، مشحونا بالتوقعات السائدة حول أن ما يحدث حاليا سوف يستمر إلى الأبد، وأنه لا شيء، أي شيء، يمكن أن يقف في طريق استمرار الأسعار نحو الارتفاع، أو العوائد نحو التزايد. هذه التوقعات التفاؤلية غالبا ما تكون وقود المضاربة الذي يؤدي إلى الكارثة. لقد تجمعت في عام 1929 كافة العناصر اللازمة لتكون فقاعة ضخمة لأسعار الأسهم، قبل أن تنعكس مجريات الأمور لتنفجر الفقاعة بصورة مدوية كلفت العالم خسائر فادحة على صعيد مستويات الناتج والدخول وفرص التوظف ومستويات الرفاهية بشكل عام، وعلى مدى زمني طويل أطلق عليه الركود الاقتصادي العظيم.
كانت فترة العشرينيات من القرن الماضي قد شهدت نموا واضحا للاقتصاد الأمريكي وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقد اتسم هذا النمو بإدخال الأساليب التكنولوجية الجديدة، والتي أشعلت نار المنافسة بين الشركات، وأدت إلى التأثير على هوامش الربح التي تحققها، وعلى أنماط إنتاجها، بل وعلى أسس قيامها وقدرتها على الاستمرار. وفي هذه الفترة شهدت الولايات المتحدة امتداد خطوط الكهرباء، وانتشار الأفلام السينمائية، وانتشار إنتاج الراديو على نطاق واسع، وبدء عبور المحيط جوا، وبدء إنتاج السيارات على نطاق واسع في مصانع هنري فورد، وإنتاج أول صاروخ في عام 1926، وأول فيلم ملون في 1928... إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من الأحداث التاريخية المهمة. إنها ولا شك أخصب فترات التاريخ الأمريكي في الابتكار. بل لقد حدث تحول هام جدا في سلوك الشركات حيث أخذت في بناء معامل مستقلة للبحوث والتطوير. على سبيل المثال قامت كل من جنرال اليكتريك و وستنجهاوس بتجميع براءات الاختراع التي تملكها، وهو ما وصف في هذا الوقت بأنه محاولة لتكون احتكار ثنائي، وكانت تلك الفترة قد شهدت تسارع حالات الاندماج بين الشركات على نحو واسع لتكوين كيانات أقوى وأكبر قدرة على الإنتاج والمنافسة، غير أن الاستثمار المكثف في مجال البحوث والتطوير من قبل الشركتين قد أدى إلى تعزيز إنتاج الأدوات الكهربائية في الولايات المتحدة لعقود قادمة، ومن الناحية الفعلية كانت الابتكارات في مجال الإنتاج تتحول إلى ابتكارات للشركات (وليس للأشخاص، كما كان الوضع سابقا)، بصفة خاصة في الفترة من 1926، حيث تكثفت عمليات الابتكار على نحو غير مسبوق، وأخذت معدلات الابتكار للشركات إلى إجمالي الابتكارات في الارتفاع بصورة واضحة، كان السبب الرئيس لهذا النمو في معدلات الابتكار هو الاستثمارات في أقسام البحوث والتطوير التي تمت في أوائل القرن، حيث ازدادت أعداد أقسام البحوث والتطوير بنسبة 80% خلال الفترة من 1918-1929.
شهدت العشرينيات أيضا تراجع أسعار آلات الإنتاج التي تعمل بالطاقة الكهربائية بصورة جوهرية، نتيجة للابتكارات التي قامت بها جنرال إليكتريك وغيرها، وهو ما أسهم في دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الإنتاج على نطاق واسع، ففي عام 1920 كان حوالي 53% من الطاقة الميكانيكية في الولايات المتحدة مولدة بواسطة الكهرباء، وفي عام 1930 ارتفعت هذه النسبة إلى 78%، وتم إدخال خطوط النقل الكهربائي عالية الجهد، أو ما يطلق عليه كهربة الاقتصاد، وهو ما أدى إلى تخفيض تكلفة الطاقة الكهربائية وفي ذات الوقت توسيع نطاق الإنتاج في الاقتصاد. من ناحية أخرى أخذت مستويات الإنتاجية في الارتفاع مع زيادة الطلب على العمالة الماهرة وكذلك قوة العمل المتعلمة. أكثر من ذلك فان النمو السريع في السكان مكن الاقتصاد الأمريكي من أن يمتلك سوقا هائلة لكافة هذه التقنيات الجديدة، وغالبا ما يطلق على فترة العشرينيات فترة نمو الإنتاجية، حيث كانت الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج (الزيادة في الإنتاج التي لا ترجع إلى زيادة المدخلات مثل العمل أو رأس المال، وإنما ترجع إلى عوامل مثل التكنولوجيا أو نوعية رأس المال البشري.. الخ) تتزايد بصورة غير مسبوقة، فخلال الفترة من 1919 كان معدل النمو في الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج للقطاع الصناعي 5.3%، وهو ما يعادل ضعف معدل النمو خلال الفترة من 1948-1953، وهي من أفضل فترات النمو بعد فترة العشرينيات، وهو مما لا شك فيه يعد أداءا مذهلا، ومثل هذا الأداء يفسر ببساطة هذه التوقعات التفاؤلية التي سادت في سوق الأسهم في تلك الفترة.
بنهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الضرائب المفروضة في الولايات المتحدة مرتفعة للغاية، فقد اقتضى دخول الولايات المتحدة الحرب ضرورة رفع معدلات الضرائب، حيث بلغ معدل الضريبة الحدي على الدخول التي تزيد عن مليون دولارا 77%، و 60% على أرباح الشركات، و10% على الميراث الذي يتجاوز 10 مليون دولارا، وعندما خرجت الولايات المتحدة من الحرب بدأت في تحقيق فوائض في الميزانية بلغت في عام 1924 مليار دولارا، ولذلك بدأ الحديث عن ضرورة إجراء إصلاح ضريبي بتخفيض معدلات الضرائب، وهو ما تسبب في حدوث حالة رواج كبير في الاقتصاد الأمريكي، ففي 26 فبراير عام 1926 تم إجراء تخفيضات جذرية في معدلات الضريبة على الدخول إلى 1% على أدنى شريحة (10 آلاف دولارا) و إلى 20% على أعلى شريحة (ما يزيد عن 100 ألف دولار)، وفي عام 1928 تم تخفيض الضريبة على الشركات إلى 12%. أدت هذه التخفيضات الضريبية إلى زيادة الحوافز نحو العمل وزيادة الادخار والاستثمار. باختصار مكنت التخفيضات الضريبية الاقتصاد الأمريكي من النمو خلال الفترة من 1922-1929 بمعدلات نمو حقيقي 4.7% سنويا، وانخفضت البطالة من حوالي 6.7% إلى 3.2%، ومن ثم أخذت دخول الأفراد في التزايد وارتفعت رفاهية الأفراد في هذا الاقتصاد المتنامي، وقد ازداد الدخل في الولايات المتحدة خلال الفترة من 1921 حتى 1923 بنسبة 10.5% في العام، ومن 1923 حتى 1929 بنسبة 3.4% سنويا، بالشكل الذي يجعل عقد العشرينيات هو بالفعل عقد النمو والازدهار، ليس هذا فقط، وإنما على مدى السنوات من 1923-1929 انخفضت أسعار الجملة بحوالي 0.9% في العام.
غالبا ما ينظر إلى عام 1927 على انه العام الحرج في فهم فترة ما قبل الفقاعة في سوق الأسهم والانهيار الكبير الذي حدث في أواخر 1929. فقد انخفض معدل نمو الناتج من حوالي 7% في عام 1926 إلى أقل من 1% في 1927، ونتيجة لذلك بدأ الاحتياطي الفدرالي بالدخول في عمليات مكثفة في السوق المفتوح، أي بشراء السندات لتخفيض معدلات الفائدة لمساعدة قطاع الأعمال على استعادة النشاط، وفي 1927 قام الاحتياطي الفدرالي أيضا بزيادة عرض النقود بصورة كبيرة وانخفض الرصيد الذهبي، وهو ما أدى إلى تخفيض معدلات الفائدة قصيرة وطويلة الأجل، مما تسبب في زيادة الإقراض لأغراض المضاربة من خلال القروض التي تمنح لشراء أوراقا مالية، وزيادة القروض لأغراض الاستثمار بواسطة البنوك، ونتيجة لذلك أخذت فقاعة الأسهم في الانتفاخ. وعندما اتخذ الاحتياطي الفدرالي عكس تلك الإجراءات برفع معدلات الفائدة ووقف الإقراض لأغراض المضاربة، تشكلت العوامل المساعدة على انهيار السوق.
غير أن هناك أيضا وجهة نظر حول دور العوامل الدولية كمحفز رئيس لخفض معدلات الفائدة في أمريكا، حيث قام الاحتياطي الفدرالي بخفض معدل الخصم لمساعدة الدول الأوروبية، بصفة خاصة البنك المركزي لبريطانيا "بنك أوف انجلاند"، الذي حاول العودة مرة أخرى إلى قاعدة الذهب عند مستويات تعادل ما قبل الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدى إلى تحويل معدلات الخصم إلى مستويات متواضعة جدا لمساعدة الإسترليني، وارتفع بالفعل الإسترليني. وفي إجابته عن أسئلة قدمها مجلس الشيوخ في مطلع 1931 عن سبب عمليات السوق المفتوح التي تم إجراؤها في 1927 أشار الاحتياطي الفدرالي إلى 7 أسباب هي؛ مساعدة الدول الأوروبية على شراء المنتجات الزراعية الأمريكية، ولتقوية العملات الأجنبية، وللحفاظ على قاعدة الذهب في أوروبا، ولتسهيل عملية إصدار السندات الأوروبية في الولايات المتحدة، ولتشجيع استعادة النشاط الاقتصادي لقطاع الأعمال، ولتخفيض معدل الخصم، وللتأكد من انخفاض المستوى العام للأسعار، وهو ما يوضح في مجمله دور العوامل الدولية.
بدءا من 1925 حتى الربع الثالث من 1929، أخذت قيمة الأسهم في التزايد بشكل مستمر بحوالي 120% في أربع سنوات، أي بمعدل نمو سنوي مركب 21.8%، وكان هذا النمو متوافقا مع طبيعة التغيرات الهيكلية التي شهدها الاقتصاد الأمريكي والتي سبقت الإشارة إليها، والازدهار الذي شهدته الولايات المتحدة والتوقعات بأن هذا الازدهار لا محالة سوف يستمر إلى الأبد، وعاما بعد عام تتحسن الأوضاع في سوق المال، على سبيل المثال في عام 1927 أعلنت 755 شركة زيادة في توزيعات أرباحها، وفي عام 1928 ارتفع هذا الرقم إلى 955، أما في التسع اشهر الأولى من 1929، قفز هذه الرقم إلى 1436 شركة. كانت كافة الأخبار المالية في السوق حتى سبتمبر 1929 ايجابية، ويوما بعد يوم تنشر الصحف والمجلات المتخصصة في نشاط الأعمال أخبارا عن الأداء المتميز للاقتصاد الأمريكي. باختصار شديد لم يكن هناك على السطح ما يشير إلى قرب حدوث انهيار في الأشهر السابقة على أكتوبر 1929، كما لم تنحرف الأسهم عن مسارها المفترض مع الأداء الاقتصادي الحقيقي في أمريكا.
غير أنه تنبغي الإشارة إلى أن بعض الكتاب يرى أن أسعار الأسهم في تلك الفترة، على الرغم من انه كان ينظر إليها على أنها مرتفعة جدا، كانت بالفعل مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، أخذا في الاعتبار القيمة الحالية لتدفقات توزيعا الأرباح المستقبلية لتلك الأسهم، ومع ذلك فقد كانت أسعار بعض أسهم شركات المرافق، ترتفع بشدة على الرغم من أن تلك الشركات لم تقم بإجراء أي توزيعات للأرباح، إنها نفس القصة التي ستتكرر في كل انهيارات سوق المال فيما بعد، وقد كان التفسير المقدم لذلك هو أن شركات الخدمات سوف تستفيد من النمو الحادث في مبيعات المعدات الالكترونية، ومن ثم كانت هذه الشركات تقوم بزيادة استثماراتها بدلا من توزيع أرباحها. كما لم يكن عدد من المراقبين يرى ان المؤشر به فقاعة، بل إن بعض الاقتصاديين في هذا الوقت ادعى أن المؤشر يسير بشكل مناسب مع التحليل الأساسي في السوق، ومنهم الاقتصادي الشهير إرفنج فيشر، وقد كان واحدا من المستثمرين بكثافة في سوق المال. كان إرفنج فيشر متفائلا على طول الخط، حيث كان يرى أن الإنتاجية في القطاع الصناعي في الولايات المتحدة تتزايد بمرور الوقت، خصوصا مع تزايد استخدام الكهرباء، ولذلك كان يعتقد أن الأسهم في سوق المال مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، وقد كلفته هذه النظرة بعد ذلك ثروته بالكامل، بما في ذلك منزله عندما حدث الانهيار، وخلال عام 1928 ازداد معدل توزيعات الأرباح إلى سعر السهم لـ 45 سهما من أسهم المنشآت الصناعية من حوالي 12 إلى 14، وكانت هذه المستويات تعد مرتفعة في هذا الوقت، على الرغم من أن مثل هذه المعدلات تعد معقولة جدا بالنسبة لأسواق المال في يومنا هذا، على سبيل المثال بلغ معدل توزيعات الأرباح إلى سعر السهم لمؤشر ستاندارد أند بور في يوليو 2003 حوالي 33، أي حوالي 3 أضعاف تلك المستويات التي كانت سائدة قبل انهيار 1929، والواقع ان العائد المتوسط على الأسهم قد انخفض بصورة كبيرة خلال العشرينيات من حوالي 6% في 1923 إلى اقل من 3% في سبتمبر 1929، لدرجة انه في قمة الرواج الحادث في سوق المال كانت العوائد على الأسهم اقل من العوائد المحققة على أدوات الاستثمار الأقل مخاطرة مثل سندات الحكومة والشركات.
بحلول عام 1929 كانت النظرة السائدة أن السوق يتعرض لمضاربة مفرطة، لدرجة انه في فبراير 1929 أعلن الاحتياطي الفدرالي أنه سوف يقيد استخدام عمليات الائتمان التي تساعد على المضاربة، وعندما أصبح هربرت هوفر رئيسا للولايات المتحدة أخذ على عاتقه مهمة محاربة المضاربة التي كان عدوا لها، وقد كتب في مذكراته أنه أرسل خطابات لكافة رؤساء التحرير والمحررين في الصحف والمجلات لتحذير الجمهور من المضاربة ومن الأسعار المرتفعة للأسهم في البورصة.
هذا هو باختصار شديد المناخ الذي ساد في الولايات المتحدة قبل انهيار 1929، ولكن كيف حدث الانهيار وما هو مساره، وكيف سارت الأحداث بعد ذلك، هذا ما سوف نتناوله في الحلقة القادمة إن شاء الله.
مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون.
مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق