الثلاثاء، يوليو ٢٧، ٢٠١٠

لماذا تجب محاربة انكماش الأسعار؟

اكتظ بريدي الالكتروني هذا الأسبوع بالكثير من التعليقات والأسئلة حول مقالي الأخير" التخوف اليوم ليس من تضخم الأسعار وإنما من انكماش الأسعار" والذي أشرت فيه أنه للشهر الثالث على التوالي تميل الأسعار في الولايات المتحدة نحو التراجع مما يرفع من مخاطر انكماش الأسعار، وان المشكلة التي أراها الآن هي ليست الخوف من تصاعد التوقعات التضخمية، وإنما في تعمق انكماش الأسعار والذي من الممكن ان يمثل تهديدا لجهود استعادة النشاط الاقتصادي في مركز الأزمة (الولايات المتحدة)، ومنها إلى باقي دول العالم، وعلى رأسهم نحن في الخليج، على الرغم من أنه لا ناقة لنا ولا جمل فيما يحدث. معظم تعليقات القراء تبدي دهشتها من نظرتي إلى انكماش الأسعار على أنه أمر سيئ، أليس تراجع الأسعار أمر جيد سواء للمستهلك أو الاقتصاد؟ سأحاول في هذا المقال ان أوضح ان انكماش الأسعار أمر أشد خطورة من التضخم، لما له من آثار انكماشية مدمرة.

في عالمنا اليوم تتبنى البنوك المركزي في العالم سياسات نقدية تستهدف تحقيق معدل محدد للتضخم، على سبيل المثال المعدل المستهدف للتضخم في الولايات المتحدة هو 2%، وبعض البنوك المركزية تتبنى معدلا مستهدفا للتضخم صفر%، ولكن هذا المستوى المستهدف عند صفر% أمر ضار بالاقتصاد. معنى ذلك ان البنوك المركزي تحرص على ان تضمن حدا أدنى (معقول) من التضخم كل عام. ولكن لماذا تحرص البنوك المركزية على ذلك؟ المشكلة الأساسية التي يواجهها البنك المركزي تتمثل في أنه يرغب في تحفيز النشاط الاقتصادي بشكل مستمر لكي تغذية الطلب الكلي عند مستويات تضمن نموا مرتفعا في مستويات الناتج، غير ان هذه المستهدفات من الممكن ان يترتب عليها مخاطر ارتفاع معدلات التضخم، خصوصا إذا كانت خطط التحفيز تؤدي إلى زيادة معدلات النمو في الطلب الكلي بسرعة. من ناحية أخرى إذا أخذت الأسعار الاتجاه العكسي وأخذت في التراجع بحيث بدأ يظهر في الأفق انكماشا في الأسعار فان هناك مخاطر من نوع آخر تظهر على السطح، وهي مخاطر انكماش الأسعار، وهي بالمناسبة خطيرة جدا أيضا. مهمة البنك المركزي هي محاربة التضخم المرتفع لذلك دائما ما يحدد البنك المركزي لنفسه مستهدفات سنوية لمعدل التضخم (2% مثلا)، وكذلك محاربة انكماش الأسعار، والتأكد من ان انكماش الأسعار سوف يتجه نحو المعدلات المستهدفة للتضخم. ولكن لماذا ينظر إلى انكماش الأسعار بهذا القدر من السوء؟

البعض يعتقد ان ميل الأسعار نحو التراجع أمرا جيدا، حيث يستفيد الأفراد في المجتمع (المستهلكون) بصورة أساسية وترتفع مستويات دخولهم الحقيقية ومن ثم القوة الشرائية لدخولهم بفعل تراجع الأسعار، الأمر الذي يرفع من مستويات رفاهيتهم، وهي آثار ايجابية كما يبدو، فلماذا ينظر لانكماش الأسعار على انه أمر سيئ؟. الإجابة هي ان هذا التحليل تحليل نظري، أي أنه لا يمت لما سوف يحدث في الواقع مع انكماش الأسعار بأي صلة، بل على العكس سوف تتراجع مستويات دخول الأفراد واستهلاكهم ورفاهيتهم مع انكماش الأسعار!!. والآن دعونا نحلل الآثار التي يمكن ان تترتب على انكماش الأسعار.

أولا يؤدي انكماش الأسعار إلى ارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية في الاقتصاد (معدل الفائدة الاسمي أو معدل الفائدة في السوق النقدي مطروحا منه بمعدل التضخم)، فإذا كان الأسعار تنكمش فان معدل التضخم سيكون رقما سالبا، ومن ثم يضاف إلى معدل الفائدة الحالي، وهو ما يرفع من معدل الفائدة الحقيقي، وحتى لو كان معدل الفائدة الاسمي صفرا أو قريبا من الصفر فان معدل الفائدة الحقيقي يزداد ويصبح رقما موجبا في هذه الحالة. يؤدي ارتفاع معدل الفائدة الحقيقي إلى تراجع مستويات الإنفاق الاستهلاكي (وليس زيادتها كما يعتقد البعض)، وتراجع مستويات الإنفاق الاستثماري نتيجة ارتفاع تكاليف الاستثمار. المعضلة التي نواجهها دائما هي أن انكماش الأسعار يحدث دائما في أوقات الكساد حيث يكون الاستثمار منخفضا للغاية، ومن ثم عندما يتعمق انكماش الأسعار فإن ذلك يقضي على احتمالات تحسن مستويات الإنفاق الاستثماري من قبل قطاع الأعمال، الأمر الذي يعقد مهمة الخروج من الكساد، والذي يمكن بفعل ذلك ان يتحول إلى ركود اقتصادي طويل المدى.

ثانيا: ان انكماش الأسعار لا يؤدي إلى تحسن الإنفاق الاستهلاكي للأفراد كما يتوقع البعض، بل على العكس، مع تعمق مستويات تراجع الأسعار وتصاعد احتمالات الكساد فان التوقعات التشاؤمية للمستهلكين حول مستويات دخولهم المستقبلة تزداد وتتعمق هي الأخرى، وهو ما يجعلهم يميلون إلى الادخار (أو الإمساك عن الإنفاق) بشكل اكبر، ولا يميلون إلى الإنفاق للاستفادة من انخفاض الأسعار في ظل هذا المناخ الاقتصادي المظلم، الأم الذي يؤدي إلى تفاقم مشاكل قطاع الأعمال بصورة اكبر نظرا لاستمرار تراجع الطلب على منتجات هذا القطاع من سلع وخدمات، على الرغم من ميل الأسعار نحو التراجع.

ثالثا: ان انكماش الأسعار سوف يؤدي بالتبعية إلى تراجع أسعار الأصول المختلفة التي يملكها الأفراد أو مؤسسات الأعمال مثل العقارات وغيرها من الأصول، وغالبا ما تستخدم هذه الأصول كرهونات لدى المؤسسات المالية في مقابل القروض الممنوحة للأفراد والمؤسسات، ومع تراجع أسعار هذه الأصول تتحول الكثير من اصول المؤسسات المالية إلى أصول مسمومة (وذلك نتيجة تحول قيم الرهونات إلى مستويات اقل من مستويات القروض الممنوحة في مقابل هذه الرهونات)، وهو ما قد يؤدي إلى انهيار تلك المؤسسات، مثلما حدث في أزمة الرهونات العقارية الأخيرة.

رابعا: أن انكماش الأسعار يؤدي إلى تراجع أجور العمال وزيادة معدلات البطالة بينهم، على عكس ما قد يتوقع البعض، فانكماش الأسعار يؤدي إلى تراجع التدفقات النقدية لمؤسسات الأعمال ومن ثم تراجع مستويات الأرباح وهو ما يدفع بمؤسسات الأعمال نحو تخفيض مستويات إنتاجها، ومن ثم الاستغناء على المزيد من العمال، فترتفع معدلات البطالة، ومع تزايد أعداد العمال العاطلين تميل أجورهم نحو التراجع.

خامسا: أن انكماش الأسعار يدفع بالمؤسسات المالية نحو تخفيض قروضها لقطاع الأعمال، حتى لأفضل تلك المؤسسات نظرا لأوضاع مناخ الأعمال السيئ، والتي ترفع من مخاطر الإقراض لدى المؤسسات المالية نتيجة لتزيد من احتمالات التوقف عن السداد عن المقترضين من قطاع الأعمال.

سادسا: أن انكماش الأسعار سوف يرفع من القيمة الحقيقية لأعباء الديون على الأفراد، ومن ثم يبدأ شعور الأفراد الذين تنخفض دخولهم وأجورهم بارتفاع تكاليف خدمة الديون من الناحية الحقيقية على عاتقهم، الأمر الذي يؤثر على مستويات استهلاكهم، ومن ثم رفاهيتهم.

سابعا، أنه ما ان تبدأ الأسعار في الانكماش حتى تتعمق في الاقتصاد التوقعات تشاؤمية حول اتجاهات مستويات النشاط الاقتصادي في المستقبل، ويأخذ الجميع في انتظار الأسوأ مع تراجع مستويات النشاط الاقتصادي ومستويات الطلب الكلي ومن ثم مستويات الدخول والتوظف، والأخطر احتمالات ارتفاع معدلات البطالة.

هذا غيض من فيض حول ضرورة وأهمية مكافحة انكماش الأسعار وليس تشجيعه، ومثلما ننظر إلى التضخم على انه أمر سيئ، فان انكماش الأسعار وتراجعها بشكل مستمر أمر أسوأ من استمرار تصاعد الأسعار.
مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق