المشكلات الاقتصادية للولايات المتحدة تأخذ أبعادا متعددة، بصورة تجعل التعامل مع تلك المشاكل جميعا أمر شبه مستحيل لأن تبني سياسة اقتصادية محددة لمعالجة إحدى تلك المشكلات يؤدي إلى تفاقم الأخرى. أهم مشكلتين يواجههما الاقتصاد الأمريكي حاليا هما استمرار حالة الكساد وضعف استجابة الاقتصاد لجهود الإنقاذ مع تراجع العزم الناجم عن برامج التحفيز المالي المكثف التي تم تبنيها للتعامل مع إفرازات الأزمة المالية، بصفة خاصة تشير مؤشرات سوق العمل إلى أن جهود استعادة النشاط لا تؤدي إلى خلق الوظائف على النحو الذي كان متوقعا مع استمرار عزم استعادة النشاط الاقتصادي. المشكلة الثانية والتي كانت انعكاسا للأولى وهي العجز المالي المتصاعد، والذي يترتب عليه تغذية الدين العام الذي يتزايد يوما عن يوم كنسبة من الناتج المحلى الإجمالي، ليتجاوز نسبة 100% قريبا.
هاتين المشكلتين تضعان صانع السياسة الاقتصادية في موقف لا يحسد عليه لأن محاولة علاج إحدى هاتين المشكلتين سوف يؤدي إلى تفاقم الأخرى. فإذا ما استمر صانع السياسة في جهود التحفيز من خلال المزيد من ميزانيات الإنقاذ في الجوانب المختلفة لتحفيز الطلب الكلي ودفع مستويات النمو وخلق المزيد من الوظائف وهو الأهم، فإن ذلك سوف يؤدي إلى مزيد من العجز في الميزانية العامة وارتفاع نسبة العجز إلى الناتج، ومن ثم المزيد من الدين العام الأمريكي، وارتفاع نسبته هو الآخر إلى الناتج. فاتورة النمو سوف تكون إذن في صورة دين عام ضخم جدا.
أما إذا ما اهتم صانع السياسة بمعالجة العجز في الميزانية بالعمل على زيادة الإيرادات العامة من خلال رفع إيرادات الضرائب وتوسعة القاعدة الضريبية، والعمل على خفض الإنفاق العام، فان ذلك سوف يؤدي إلى التأثير السلبي على النمو الاقتصادي وفرص خلق المزيد من الوظائف ومن ثم تعقيد أوضاع سوق العمل. إنها معادلة صعبة للغاية، خصوصا إذا كانت جهود الإنقاذ تسير على نحو غير متوقع. في ظل هذه الأوضاع فان صانع السياسة لا يمكنه تحقيق الهدفين في ذات الوقت، أي زيادة النمو ومعالجة مشكلة البطالة وفي ذات الوقت السيطرة على عجز المالية العامة ونمو الدين العام، لا بد وان يختار صانع السياسة بين إحدى هذين الهدفين. فماذا يجب ان يختار صانع السياسة الأمريكي.
في ظل الأوضاع الحالية أعتقد ان معالجة العجز المالي ونمو الدين العام لا ينبغي ان تكون من أولويات صانع السياسة الاقتصادية، وانه ينبغي التركيز على قضايا النمو وخلق الوظائف وترك نمو الدين العام جانيا. معنى ذلك ان تخفيض العجز لا يجب ان يكون مطروحا قبل أن يتأكد صانع السياسة من أن استعادة النشاط الاقتصادي تسير في مسارها الصحيح وعلى نحو قوي وليس على أساس هش مثلما هو الحال اليوم. فلا يمكننا الحديث عن معالجة العجز المالي بينما نجد ان معدل البطالة يتجاوز نسبة الـ 10%، وهو معدل أعلى بكثير من معدل البطالة الطبيعي Natural unemployment rate، والذي يتراوح بين 4-6%. إن جهود الإنقاذ ينبغي ان تستمر حتى يستعيد الاقتصاد مستويات التشغيل الطبيعي، بعدها يمكن الحديث عن جهود تخفيض العجز المالي والسيطرة على نمو الدين العام.
بل ان النمو هو الضمان الوحيد لمعالجة العجز المالي، فخلق الوظائف اليوم هو السبيل الوحيد لضمان قاعدة ضريبة أوسع غدا، ومن عجز اقل وتراجع في نمو الدين العام، ذلك أنه لا يمكن تحقيق مستهدفات معقولة في الميزانية بدون التأكد من متانة وقوة واستدامة استعادة النشاط الاقتصادي، وبمعدل نمو مستدام. لا يمكن بدء برامج التقشف طالما ان النمو لم يستقر، ذلك أن محاولة تخفيض الإنفاق سوف تهدد بالتالي جهود الخروج من الأزمة اليوم، وتعقد من أوضاع المالية العامة غدا.
التقرير الذي أصدرته لجنة الكونجرس للميزانية في يناير الماضي يقدم تقديرات لمعدلات البطالة في الولايات المتحدة حتى عام 2020، وهو ما يتضح في الشكل التالي. الشكل يوضح ان معدل البطالة سوف يستمر مرتفعا حتى عام 2012، حيث يصل إلى 8% تقريبا وفقا لتلك التقديرات. معدل البطالة يقترب من مستواه الطبيعي وفقا لتلك التقديرات بدءا من عام 2013، وهو ما يعني أنه لا يجب ان يتم البدء في برامج التقشف والسيطرة على العجز المالي قبل هذا العام، هذا إذا استمرت جهود استعادة النشاط بنفس العزم الذي تسير به وفقا للتقديرات لينخفض معدل البطالة على هذا النحو.
الشكل رقم (1) تقديرات معدل البطالة 2010-2020
أحد الجوانب المهمة لاستمرار الخلل المالي الحالي هو ضعف الايرادات العامة بسبب ان المالية العامة لا تجمع ايرادات ضريبية كافية. غير أن رفع الايرادات الضريبية يتأتى من 3 مصادر هي زيادة دخول الافراد ( من خلال المزيد من النمو في الاقتصاد)، وتوسيع القاعدة الضريبية لتشتمل على المزيد من الدخول التي تخضع للضرائب، وتخفيض الاستقطاعات التي يتم اسقاطها من الدخل الخاضع للضريبة. الجدير بالذكر ان تقديرات مكتب الكونجرس للميزانية تشير الى ان الايرادات العامة كنسبة من الناتج تصل حاليا الى مستويات منخفضة بصورة تاريخية، حيث تبلغ الايرادات العامة 15% فقط من الناتج. ووفقا لسيناريو الرئيس الامريكي يتوقع ان تصل نسبة الايرادات العامة الى الناتج بنهاية العقد القادم الى 19%. غير ان تمديد العمل بتخفيضات الضرائب التي ادخلت في 2001-2003، قد يحول دون تحقيق هذه المستهدفات.
مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق