تناولنا في الأسبوع الماضي مفهوم النقود الافتراضية، باستخدام البت كوين كأنجح الأمثلة الحية لمثل هذه النقود، وتناولنا بالتحليل كيفية إصدار هذه النقود والمزايا الأساسية لها التي تؤدي إلى تزايد الإقبال العالمي عليها، والواقع أنه منذ إصدار هذه النقود الغريبة فإنها تواجه طلبا متزايدا على استخدامها، مما يؤدي إلى رفع قيمتها، وتوجد تقديرات عديدة لحجم المعاملات باستخدام هذه النقود، بعضها يقدر حجم المعاملات بالبت كوين بما يعادل نحو مليار دولار سنويا. قد يبدو هذا الرقم صغيرا بالقياس إلى حجم المعاملات النقدية التي تتم حول العالم، التي تزيد على خمسة تريليونات دولار يوميا، إلا أن هذا النمو السريع لهذه النقود الافتراضية في غضون هذه الفترة القصيرة لا شك يدق ناقوس الخطر من الفوضى التي يمكن أن تعم العالم إذا ما انتشرت مثل هذه العملات التي يتم إصدارها بعيدا عن رقابة السلطات النقدية الوطنية في دول العالم المختلفة.
إذ تتعدد المخاطر المصاحبة لانتشار استخدام مثل هذه النقود على نطاق واسع، فكيف سيمكن للسلطات النقدية في العالم التحكم في عرض النقود والسيطرة على نموها بما يتوافق مع الأهداف الاقتصادية الكلية للسياسة النقدية في هذه الحالة؟ كيف يمكن تبني مستويات مستهدفة للتضخم والسعي نحو تحقيقها باستخدام الأدوات المتعارف عليها للسياسة النقدية إذا خرجت عملية التحكم في عرض النقود من سيطرة البنك المركزي؟ كيف يمكن تجنب الأزمات المالية التي يمكن أن تنشأ عن انتشار مثل هذه النقود في العالم على نطاق واسع؟ ولمن يمكن تحميل المسؤولية عنها؟ إنها أسئلة كثيرة وخطيرة في الوقت ذاته، فهل يترك العالم أمثال هذه النقود لتنتشر فيه ليكتشف بعد فوات الأوان أن الأمر أصبح خارج نطاق السيطرة فتسود الفوضى في الأسواق النقدية والمالية؟ أم يستيقظ العالم مبكرا ويمنع انتشار مثل هذه العملات في هذه المعاملات الخطيرة على المستوى الدولي؟
لعل أهم المشكلات التي تصاحب انتشار النقود الافتراضية كما ذكرنا أن عملية تعدينها ''إصدارها'' تتم بواسطة أشخاص مجهولي الهوية، كما أن عمليات تبادلها أو إنفاقها تتم تحت أسماء مستعارة وغير حقيقية، ومثل هذه الخاصية تفتح المجال أمام استخدام النقود الافتراضية في إجراء العمليات المالية غير القانونية أو القذرة مثل عمليات غسيل الأموال أو سداد قيمة تجارة المخدرات، أو تحويل أرباح عمليات الجريمة المنظمة... إلخ، ولذلك يلاحظ أن هناك تفضيلا بشكل عام لاستخدام هذه النقود في المواقع الإلكترونية غير القانونية، بل إن هناك تخوفا من أن تصاعد استخدام مثل هذه النقود الافتراضية يمكن أن يسهم في ازدهار الأنشطة الإجرامية عبر أنحاء العالم، باعتبار أن هذه النقود يمكن تحويلها إلى نقود طبيعية في نقطة زمنية الأمر الذي يضفي عليها خاصية السيولة.
من الأمثلة الشائعة أخيرا في استخدام العملات الافتراضية في عمليات غسيل الأموال، أنه في أيار (مايو) 2013 تم القبض على مجموعة أشخاص قاموا بإنشاء موقع للنقود الافتراضية أطلق عليهLiberty Reserve، وقد قامت الولايات المتحدة بتوجيه الاتهام لعدد من الأشخاص المرتبطين بالعمليات التي يقوم بها الموقع بأنهم قاموا عن قصد بإنشاء الـ Liberty Reserve كذراع لتمويل الأنشطة الإجرامية في العالم، وذلك لمساعدة المجرمين في تمويل العمليات الإجرامية وغسيل الأموال الناجمة عنها، من خلال جعل أنشطة التمويل لهذه العمليات تتم تحت أسماء مستعارة أو وهمية، وتقدر عمليات غسيل الأموال التي تمت من خلال الموقع بنحو ستة مليارات دولار من الأموال القذرة، كما أن هناك بعض الكتابات التي تشير إلى أن موقع طريق الحرير Silk Road كان يوزع مخدرات محظورة من خلال استخدام البت كوين، أكثر من ذلك يشار إلى أنه يتم استخدام البت كوين حاليا في إيران لشراء السلع من الخارج وتحويل النقود من إيران إلى الخارج، وهي العمليات التي من المستحيل أن تتم من خلال استخدام الريال الإيراني.
كذلك فإنه في تموز (يوليو) الماضي اكتشفت لجنة الأوراق المالية أن شخصا في تكساس يطبق مخطط بونزي من خلال عمليات البت كوين، حيث تمكن أحد النصابين من جمع نحو 4.5 مليون دولار من مستثمرين في البت كوين، ثم استخدم جانبا منها لنفقاته الشخصية، وغطى تلك المسحوبات عن طريق إقناع مستثمرين جدد بالاستثمار لديه، وقد حذرت لجنة الأوراق المالية من أن العملات الافتراضية يمكن أن تؤدي إلى مزيد من عمليات النصب والاحتيال.
من المخاطر المصاحبة لاستخدام النقود الافتراضية هي أن قيمتها يمكن أن تتقلب بصورة شديدة، بصفة خاصة أنها لا يتم ربطها بسلعة مثل الذهب أو بعملة حقيقية مثل الدولار، وهو ما يعرض حائزي هذه العملة لخسائر ناجمة عن تراجع قيمتها. التقلب الشديد في قيمة البت كوين يمكن إظهاره من خلال البيانات المتاحة عن التقلبات التي حدثت في قيمتها في نيسان (أبريل) من هذا العام، ففي هذا الشهر انخفضت قيمة الوحدة من البت كوين من 266 دولارا إلى 160 دولارا في يوم واحد، وفي حزيران (يونيو) انخفضت قيمتها إلى 20.3 دولار فقط.
أما الخطورة الحقيقية التي تمثلها مثل هذه النقود للسلطات النقدية فتتمثل في أنها ربما تمثل تهديدا للاستقرار النقدي في الدول التي ينتشر فيها استخدامها، فعندما تزداد الكميات المستخدمة من البت كوين فإن ذلك يعني أن عرض النقود لم يعد تحت سيطرة السلطات النقدية كإحدى وسائل الاستقرار الاقتصادي الكلي، بالطبع بالنظر إلى الحد الأقصى الموضوع على عمليات تعدين البت كوين الذي يساوي 21 مليار دولار، فإن الكميات المتداولة منها مهما بلغ سعرها ستظل تمثل نسبة ضئيلة من عرض النقود، غير أن نجاح البت كوين قد يسهل ظهور عملات افتراضية أخرى منافسة أسهل في الاستخدام وأعلى في القيمة، حيث يتمكن المستخدم من إصدار أي كمية منها، الأمر الذي يجعل التحكم في عرض النقود من جانب السلطات النقدية الوطنية أمرا صعبا.
بقي أن أشير إلى أن مستقبل هذه النقود ما زال مشكوكا فيه، فمن الممكن أن تتعرض هذه النقود لفقاعة نتيجة تكثيف عمليات المضاربة فيها، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى انهيار الثقة بها ومن ثم انهيار الطلب عليها، خصوصا أنه ليس هناك أي سند قانوني يدعمها، فالنقود العادية تحمل قوة إبراء للذمة تنبع من القانون الذي تصدر بمقتضاه، الذي يحمي النقود ويضمن استمرار التعامل بل يلزم المقيمين داخل حدود الدولة باستخدامها، وهي خصائص لا تتوافر للنقود الافتراضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق