نشر صندوق النقد الدولي يوم الثلاثاء الماضي ملخصا عن نتائج زيارة بعثته إلى المملكة خلال أيار (مايو) لتقييم الوضع الاقتصادي فيها، أشار فيه إلى أن المملكة تمكنت من تحقيق معدلات نمو مرتفعة خلال الأعوام الخمسة الماضية، حيث كانت ثالث أكبر دول مجموعة العشرين نموا بعد الصين والهند، من ناحية أخرى استمرت المملكة منذ بداية الألفية تقريبا في التمتع بموقف مالي قوي وفوائض ضخمة في ميزانيتها مكنتها من تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى المستوى الأقل في العالم، كما مكنت الفوائض المالية الكبيرة المملكة من بناء قاعدة أصول مالية احتياطية ضخمة، تقدر وفقا لمعهد صناديق الثروة السيادية الدولي بنحو 538 مليار دولار، وربما لا تحتل المملكة في الوقت الحالي المرتبة الأولى كصاحبة أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم، لكني أتوقع أنه مع استمرار أسعار النفط مرتفعة أن تزيح المملكة الصين عن هذا المركز لتصبح صاحبة أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم في غضون سنوات قليلة مقبلة.
أما عن آفاق النمو في المستقبل فإن الصندوق يرسم نظرة مستقبلية إيجابية للاقتصاد السعودي، حيث يتوقع أن ينمو خلال العام الحالي بنحو 4.4 في المائة، ووفقا لقاعدة بيانات تقرير World Economic Outlook الذي أصدره الصندوق في شهر أبريل الماضي، يتوقع الصندوق أن يصل متوسط معدل النمو السنوي في المملكة إلى 4.3 في المائة حتى عام 2018. من ناحية أخرى، يشير الصندوق إلى حدوث تطور مهم في معدلات نمو القطاع غير النفطي في المملكة الذي يتوقع أن ينمو بنسبة 7.6 في المائة هذا العام، وعلى الرغم من توقع تراجع الإيرادات النفطية في 2013 إلا أن الفائض في الميزانية يتوقع أن يكون أيضا جوهريا. هذا بالطبع إلى جانب دورها الأساسي كضابط إيقاع للسوق العالمي للنفط الخام لضمان الحد من التقلبات التي تحدث في أسعار النفط الخام لصالح الاقتصاد العالمي.
هذا الوضع المالي المريح يمكن المملكة من أن تلعب دورا مهما في تدفقات المساعدات إلى الدول الأخرى في العالم، وكذلك في تدفقات تحويلات العمالة الوافدة إلى الخارج، التي تشكل جانبا جوهريا من دخول الأسر في دول المنشأ، فوفقا لتقديرات البنك الدولي بلغت تحويلات العمالة من المملكة نحو 104 مليارات دولار خلال الفترة من 2008 إلى 2011.
في مقابل هذه الصورة الإيجابية للاقتصاد السعودي، فإن المملكة تواجه أيضا العديد من التحديات الكامنة. أهم التحديات التي تواجه المملكة هي الهيكل السكاني صغير السن والمرتفع النمو. يتسم هذا الهيكل بشكل عام بارتفاع مستويات التعليم، وهو ما يفترض أنه سيساعد على دفع النمو في المملكة عند توجه هؤلاء إلى سوق العمل، غير أن المشكلة الأساسية هي أن سوق العمل في المملكة، بصفة خاصة سوق العمل الخاص، لا يخلق فرص العمل الكافية أو المناسبة لاستيعاب هؤلاء، لذلك نجد أن معدلات البطالة بين الداخلين الجدد إلى سوق العمل مرتفعة جدا، وفي رأيي أن هذا التحدي هو أهم ما يواجه صانع السياسة في المملكة اليوم وفي المستقبل.
صحيح أن هناك إجراءات جادة تتخذها الحكومة حاليا لرفع نسبة مساهمة العمالة السعودية في القطاع الخاص، إلا أن مقاومة هذا القطاع لتوظيف العمالة السعودية من الواضح أنها مرتفعة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، من الواضح أيضا أن هيكل القيم لدى العمالة الوطنية في حاجة إلى تغيير جذري، بصفة خاصة حول ثقافة العمل ومفهومه وطبيعته وقيمته، فالكثير من الوظائف التي تشغلها العمالة الوافدة في القطاع الخاص غير قابلة لأن تشغلها العمالة الوطنية لسبب جوهري وهي أنها غير مناسبة من وجهة نظر العامل الوطني، وهذا عائق أساسي نحو رفع نسبة توظيف العمالة الوطنية في القطاع الخاص.
من ناحية أخرى، فإن درجة تنافسية العمالة السعودية في مقابل العمالة الوافدة في حاجة إلى التحسن وهذا يتطلب نظاما تعليميا كفئا وكذلك خدمات تدريبية مناسبة، وقوانين صارمة لتضييق الفجوة بين أجور العمالة الوافدة والعمالة الوطنية في القطاع الخاص، أكثر من ذلك فإن رفع نسبة مساهمة الإناث في سوق العمل يتطلب تذليل الصعوبات التي تقف أمام حرية التنقل بالنسبة لمعظمهن، وكذلك تشجيع المبادرين من الداخلين الجدد لسوق العمل بدعم مشروعاتهم الصغيرة والمتوسطة حتى يمكن تخفيض المعدل العام للبطالة في المملكة.
التحدي الثاني الذي يواجه المملكة هو تنامي استهلاك الطاقة، الذي يدفعه بشكل أساسي سياسة الدعم غير المباشر التي تتبعها المملكة حاليا التي تؤدي إلى الإفراط في الاستهلاك، في الوقت الذي تشير فيه التوقعات إلى بلوغ مستويات استهلاك الطاقة في المستقبل مستويات حرجة في ظل ارتفاع معدلات النمو السكاني، الأمر الذي قد يهدد قدرة المملكة على تأمين الإيرادات المالية اللازمة لتمويل الإنفاق العام من خلال تصدير النفط في المستقبل.
يشير تقرير صندوق النقد الدولي إلى أن الحكومة تستجيب لتنامي الطلب على الطاقة من خلال العمل على رفع درجة كفاءة استهلاك الوقود والبحث عن مصادر بديلة لتوليد الطاقة، ومع تقديري لهذا التوجه، إلا أنني أرى أن التعامل الأساسي مع مشكلة نمو الطلب على الطاقة في حالة المملكة لا يكون من جانب فك قيود العرض بشكل أساسي، بقدر ما يتطلب في الدرجة الأولى ترشيد الطلب، الذي من الواضح أن النمط الحالي له يعكس درجة واضحة من الهدر في الاستهلاك، ولن تتم السيطرة على هذا الهدر سوى من خلال السياسات الصحيحة لتسعير الطاقة على نحو أكثر كفاءة.
التحدي الثالث الذي يواجه المملكة هو أنه مع تصاعد النمو السكاني تزداد الحاجة إلى توفير الخدمات الأساسية اللازمة لهم، بصفة خاصة تدبير احتياجات السكان من المساكن، وهي مهمة أراها صعبة في سوق عقاري يتسم باتساع مستويات الاحتكار وانتشار المضاربة على الأراضي، وفي ظل تضاؤل تأثير المبادرات الحكومية لحل المشكلة الإسكانية على أسعار المساكن، التي من الواضح أنها بلغت حاليا مستويات تفوق الإمكانات الداخلية للأسرة السعودية في المتوسط.
التحدي الرابع، الذي دائما ما يصاحب معدلات النمو المرتفع، هو ارتفاع معدل التضخم، فمع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي خصوصا المدفوع بالإنفاق الحكومي تزداد الضغوط التضخمية، وهو ما يحمل أخبارا سيئة لكل من المستهلكين والمالية العامة للدولة، ذلك أن خروج معدل التضخم عن السيطرة يترتب عليه تراجع القوة الشرائية لدخول المقيمين في المملكة، وبما أن الجانب الأكبر من السكان يعمل في الحكومة، أو يرتبط بها بشكل ما، فإن الضغوط التضخمية ستقتضي ضرورة تعديل دخول هؤلاء بما يساعدهم على الحفاظ على القوة الشرائية لدخولهم، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق العام، أكثر من ذلك فإن ارتفاع معدل التضخم في ظل السياسات المكثفة للدعم غير المباشر سيتطلب بالتبعية توجيه مخصصات مالية أكبر لمواجهة ارتفاع الأسعار.
بالطبع ربما تساعد الأوضاع المريحة للدولة في الوقت الحالي على مواجهة الأعباء المالية اللازمة لاحتواء الآثار التضخمية للنمو، غير أن هذا الوضع المالي ليس مضمونا على المدى الطويل، وهي مشكلة أساسية في الدول التي يعتمد الناتج فيها على الموارد الطبيعية التي تصدر إلى الخارج، لأن السيطرة على التضخم في مثل هذه الاقتصاديات مسألة ليست سهلة، خصوصا إذا كانت معظم الضغوط التضخمية مستوردة من الخارج. فمثل هذا الهيكل يشكل في الأساس تحديا لعملية صناعة السياسة الاقتصادية في الاقتصاديات ذات القاعدة الإنتاجية الضيقة، حيث قد يتطلب الأمر أن تخفض المملكة من معدلات نموها للسيطرة على التضخم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق