الاثنين، سبتمبر ٠٢، ٢٠١٣

هل انتهت سياسات التقشف في منطقة اليورو؟

قبل عدة أيام استعرضت في زاوية ''مجرد تعليق'' في صحيفة ''الاقتصادية'' بعض التقارير الصادرة عن مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي ''اليوروستات''، التي عكست مدى عمق الأزمة التي تعاني منها منطقة اليورو في الوقت الحالي، حيث بلغ معدل البطالة مستويات قياسية جديدة، وتراجع معدل التضخم من 2.6 في المائة في نيسان (أبريل) 2012 إلى 1.2 في المائة فقط في نيسان (أبريل) 2013، وهو ما يعكس تراجع مستويات الطلب الكلي في المنطقة، وقد أشرت إلى أن مثل هذه النتائج السيئة تعكس سياسات التقشف التي تتبعها أوروبا في الوقت الحالي والتي ترتب عليها تراجع نسبة العجز المالي من 6.4 في المائة في 2009 إلى 3.7 في المائة فقط في 2012، والتي كما هو واضح أدت إلى التأثير سلبا في معدلات النمو ورفعت من ضغوط سوق العمل، حيث ارتفعت معدلات البطالة، في الوقت الذي لم تساعد فيه، كما كان يؤمل، على خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتي ارتفعت من 80 في المائة في عام 2009 إلى 90.2 في المائة في 2012.
للأسف فإن تنبؤات اللجنة الأوروبية حول اتجاهات البطالة في العام القادم لا تختلف تقريبا عن المعدلات الحالية، حيث توقعت اللجنة أن معدل البطالة المتوسط في منطقة اليورو سيظل أعلى من 12 في المائة خلال عام 2014، وقد أصبح من الواضح أن الحجة وراء استخدام السياسات التقشفية للحد من العجز المالي في دول اليورو تؤدي إلى نتائج كارثية على البطالة، مثلما حدث في اليونان وإسبانيا حيث تصل البطالة إلى أعلى مستوياتها.
منذ أكثر من ثلاث سنوات وسياسات التقشف المالي هي التي تسود عملية صناعة السياسة الاقتصادية في أوروبا، وذلك استنادا إلى الإيمان بأن السياسات الاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة مستويات الدين العام هي سياسات غير مستدامة، وستنعكس لاحقا على مزيد من التراجع في النمو، مثل هذه النظرة الحديثة لدور التقشف في النمو تختلف تماما عن المنهج الكينزي لمعالجة مشكلة الركود، حيث غالبا ما تلجأ الحكومات إلى تعزيز مستويات الإنفاق العام على المشروعات العامة لمعالجة تراجع الطلب الكلي، ولكن أوروبا بدلا من ذلك كانت تسير عكس التيار من خلال اللجوء إلى التقشف كسياسة لمواجهة الأزمة.
الضغوط تتزايد اليوم على القادة في أوروبا، بمن فيهم ميركل، بالتركيز على السياسات التي تحقق النمو وفتح الوظائف، وليس على التقشف، غير أن وجهة النظر الألمانية تقوم على الاعتقاد بأن النمو القائم على نمو الدين هو نمو غير مستدام، ولكن من الواضح أن الإيمان بوجهة النظر هذه قد بدأ في التزعزع، أخذا في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية في الدول المدينة بصفة خاصة إسبانيا واليونان وإيطاليا وفرنسا والبرتغال. فالاقتصاد الفرنسي لم ينم في 2012، بينما حقق معدل نمو سالب في الربع الأول من 2013، كذلك يتوقع أن يتراجع النمو في ألمانيا بشكل كبير إلى أقل من 1 في المائة، في الوقت الذي يتوقع أن ينخفض النمو في إيطاليا بنسبة 1.5 في المائة.
الوضع في ألمانيا مختلف بعض الشيء باعتبار أن الظروف الاقتصادية لم تصل بعد إلى مستوى السوء نفسه الذي تعانيه الدول الأخرى، ولذلك تستمر ألمانيا في تأييد السياسات التقشفية، وهي سياسات أعتقد أن ألمانيا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة مع أول صدمة نمو يمكن أن تتعرض لها أو مع تصاعد معدلات البطالة فيها على النحو الذي تواجهه الدول الأخرى في المنطقة.
لم تكن هذه التأثيرات لسياسة التقشف تقتصر فقط على الدول المدينة مثل مجموعة الـ PIIGS، وإنما أيضا امتدت لفرنسا ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، ومنذ أن تم انتهاج هذه السياسة كنت أصف هذه السياسات التي تطبقها أوروبا بأنها الروشتة الخطأ، لأنها تؤدي إلى تعميق المشكلة وليس حلها، فما تحتاج إليه أوروبا في الواقع هو سياسات ترفع من قدرتها على مواجهة النمو في ديونها، وهذه السياسات بالتأكيد ليست التقشف، وإنما السياسات المحفزة للنمو، فبالنمو يتم فتح المزيد من الوظائف ومعالجة معدلات البطالة المرتفعة وتزداد قدرة الاقتصادات الوطنية على مواجهة أعباء الدين، وفي الوقت ذاته تساعد على تخفيض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وهو الأهم.
منذ أن تم انتخاب هولاند رئيسا لفرنسا من نحو عام تقريبا، أخذت العلاقة مع المستشارة الألمانية ميركل في التحول حول سياسات التقشف، إذ يعارض هولاند هذه السياسة، وقد ثار جدل طويل بينهما حول مدى مناسبة سياسات التقشف في التعامل مع الأزمة، وكان ذلك من أهم العوامل التي تعكر صفو العلاقة بين القائدين، وبمرور الوقت أصبح من الواضح أن الفجوة تتسع بين ألمانيا وفرنسا حول كيفية معالجة الأزمة، فمع تراجع معدلات النمو في فرنسا قاد هولاند ووزير ماليته حملة ضد السياسات الألمانية لخفض الميزانية، وبعد أن كانت فرنسا الحليف الأول لألمانيا، فإن الأخيرة تنظر اليوم إلى فرنسا على أنها حليف ضعيف بسبب أوضاعها الاقتصادية الضعيفة وضعف أوضاعها المالية.
كان الاقتصاد الفرنسي يدفع ثمن هذه السياسات من نموه وتنافسيته في الوقت الذي لم تفلح فيه هذه السياسات في تمكين فرنسا من السيطرة على العجز المالي، إلى الحد الذي كانت فيه فرنسا معرضة للعقوبات من منطقة اليورو نتيجة لعدم التزامها بمستهدفات التقشف، حيث أخفقت فرنسا في الالتزام بالنسبة المتفق عليها للعجز إلى الناتج المحلي وهي 3 في المائة، إذ يتوقع أن يصل العجز إلى 3.9 في المائة هذا العام و4.2 في المائة في العام القادم، وكما هو واضح فإن فرنسا تعاني من العجز المزدوج أو التوأم، حيث بلغ العجز التجاري هذا العام يقارب 80 مليار دولار، الأمر الذي يعكس تراجع تنافسية فرنسا.
منذ فترة أعلن الرئيس هولاند بأنه سيضغط على ميركل لكي يتم تعديد أسلوب التعامل مع الأزمة في المنطقة وذلك بالبعد عن استخدام خطط التقشف مثل رفع مستويات الضرائب أو خفض الإنفاق العام والتي أدت إلى إضعاف اقتصاديات المنطقة، واحتفالا بمرور عام على تنصيبه رئيسا لفرنسا، أعلن هولاند عن عزمه تنفيذ حزمة إنقاذ تهدف إلى تحفيز النشاط الاقتصادي في فرنسا وذلك وسط تراجع شعبيته بصورة سريعة بعد توليه السلطة، نظرا للأوضاع المتردية للاقتصاد الفرنسي. خطة الإنقاذ تتمثل في إنفاق نحو 34 مليار دولار على مشروعات البنية التحتية خلال العقد القادم. بعض المراقبين يرى أن الحزمة المقترحة محدودة جدا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي، وأن تأثيرها المتوقع سيكون محدودا كذلك، ولتمويل هذه الحزمة ستستفيد فرنسا من حزمة الإنفاق على البنية التحتية التي أقرها الاتحاد الأوروبي في العام الماضي بنحو 120 مليار يورو، وذلك لتمويل مشاريع البنية التحتية.
من ناحية أخرى، فقد سمحت اللجنة الأوروبية الأسبوع الماضي لفرنسا بأن تخالف المستهدفات الخاصة بالعجز للسنتين القادمتين بسبب الوضع الاقتصادي السيئ حاليا، وكذلك التوقعات السيئة لمسار الاقتصاد في المستقبل، وهي الخطوة التي نظر اليها المراقبون على أنها نقطة تحول مهمة في حزمة السياسات الاقتصادية التي تطبقها منطقة اليورو للتعامل مع الأزمة، ولذلك خرج وزير المالية الفرنسي ليعلن أن مرحلة التقشف المالي قد انتهت، بعد أن عرض رفيقه الألماني وكذلك الاتحاد الأوروبي إمكانية السماح بقدر أكبر من المرونة لفرنسا في عمليات تخفيض العجز المالي، كما أعرب عن أن ذلك يعكس نهاية الاعتقاد بأن التقشف هو الأداة التي يمكن من خلالها معالجة أزمة الديون السيادية لمنطقة اليورو، وأن سياسات التقشف تعطل النمو.
بعد الخطوة التي تمت لصالح فرنسا دخلت إيطاليا على الخط من منطلق أنه إذا ما تم السماح لبعض الأعضاء في المنطقة بتجاوز المستهدفات الخاصة بالعجز، فلماذا لا تمنح إيطاليا هذه الميزة، وهي حجة لا يمكن الجدل ضدها؟ يقول رئيس الوزراء الإيطالي أن أي يورو يتم إنفاقه على الدين لا يتم استثماره في فتح الوظائف أو في التعليم أو البحوث .. إلخ، ولذلك فإن منطقة اليورو بجانب التزامها بوضع مالي مستدام، فإنها أيضا تحتاج إلى اللجوء إلى إجراءات تدعم النمو لمعالجة مشكلة البطالة، بصفة خاصة بين الداخلين الجدد إلى سوق العمل والتي بلغت نسبا تاريخية في الكثير من دول منطقة اليورو. فهل بالفعل انتهت سياسات التقشف في منطقة اليورو؟ سؤال ستجيب عنه الأيام المقبلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق