ينظر حاليا إلى قرار الرئيس الأمريكي باختيار الرئيس الجديد للاحتياطي
الفدرالي على أنه ربما أهم القرارات الاقتصادية على الاطلاق في 2013، ويعود ذلك
الى طبيعة الوضع الحرج الذي يمر به الاقتصاد الأمريكي، بما يجعل من عملية اختيار
الشخص المناسب لهذا المنصب مسألة حيوية ليس فقط لأمريكا وإنما للأسواق المالية عبر
العالم، ولكن لماذا هذا الاهتمام بشخصية الرئيس الجديد للاحتياطي الفدرالي؟ لا شك
أن سير عملية صناعة السياسة النقدية واتجاهاتها سوف تعتمد على شخص الرئيس الجديد. فهناك
اعتقاد حاليا بأن الاحتياطي الفدرالي يسير في اتجاه وقف عمليات شراء السندات والتي
تتم في اطار ما يسمى بسياسات التيسير الكمي، ربما هذا الخريف، وبالتالي تمهيد السبيل
لعودة معدلات الفائدة شبه الصفرية حاليا الى مستوياتها الطبيعية قبل الأزمة، وقد بدأت
بالفعل بعض شواهد هذا التحول، حيث أنه بدءا من مايو الماضي أخذت معدلات الفائدة
على سندات الخزانة الأمريكية في الارتفاع.
هناك قائمة طويلة من القضايا والسياسات التي تنتظر قرارات حاسمة من
الرئيس الجديد، والتي على رأسها سياسات التيسير الكمي، ومعدلات الفائدة الصفرية،
ومعدلات البطالة المستهدفة، ومستوى التضخم المستهدف.. الخ وذلك لبدء تحول اتجاهات
السياسة النقدية، وهو ما يجعل من فهم هذه المتغيرات وطبيعتها والعوامل المؤثرة
فيها أمرا حيويا بالنسبة لمن سيتولى هذا المنصب. أكثر من ذلك فإن وجهات نظر ورؤى
رئيس الاحتياطي الفدرالي حول بعض القضايا مثل درجة التفاعل بين السياستين النقدية
والمالية، ودور الاحتياطي الفدرالي في عمليات تنظيم القطاع المصرفي، والتي يمكن أن
يترتب عليها تغير جوهري في صناعة السياسة النقدية في الولايات المتحدة، تعد مهمة.
فمع حلول عام 2008 واشتعال الأزمة حرص الاحتياطي الفدرالي على خفض
معدلات الفائدة الى مستويات قريبة من الصفر، وعندما لم يستجب الاقتصاد الأمريكي تم
اللجوء الى استخدام أدوات غير التقليدية مثل التيسير الكمي، حيث قام الاحتياطي
الفدرالي بشراء الأنواع المختلفة من السندات من البنوك لزيادة عرض النقود بهدف زيادة
حجم السيولة لرفع مستويات التوظف، فقد بلغت ميزانية الاحتياطي الفدرالي قبل الكساد
العظيم الحالي حوالي 900 مليار دولارا فقط، اليوم أدت سياسات التحفيز النقدي
بأشكالها المختلفة الى زيادة حجم الميزانية بأكثر من ثلاثة أضعاف الى 3.3 تريليون
دولارا.
غير أن التوسع النقدي صاحبه تزايد حجم الاحتياطيات الزائدة للبنوك من
45 مليار دولارا فقط في 2007 الى 1.9 تريليون حاليا، الأمر الذي يعكس ظاهرة مصيدة
السيولة، حيث فضلت البنوك الاحتفاظ بأموالها في صورة سائلة لدى الاحتياطي الفدرالي
بدلا من اقراضها وتحمل مستويات مرتفعة من المخاطر، الأمر الذي ساهم في تعميق أثر
الأزمة والحد من الآثار الإيجابية للتيسير الكمي، فقد أدى هذا الإجراء من جانب
البنوك إلى معادلة تأثير السياسات التي اتخذها الاحتياطي الفدرالي لزيادة السيولة،
بتحويلها الى مودعات لديه مرة أخرى.
كان الاحتياطي الفدرالي قد كشف أكثر من مرة
عن استراتيجيته للخروج من سياسات التوسع النقدي، في أعقاب الاتهامات له بدفع
الاقتصاد الأمريكي نحو التضخم الجامح، ولكن المهندس الأصلي لاستراتيجية الخروج سوف
يتخلى عنها ليتم تطبيقها من خلال رئيس جديد، عليه أن يتولى بعناية فائقة مهمة
التخلص من تريليونات الدولارات من السندات بدون أن يؤدي ذلك الى رفع معدلات
الفائدة حتى لا تتأثر جهود استعادة النشاط الاقتصادي بصورة سلبية، ليس فقط ذلك
وإنما عليه أن يراقب التضخم ويتابع في ذات الوقت معدلات البطالة.. إلى آخر هذه
المتغيرات الحرجة، لذلك فإن مهمة الرئيس القادم للاحتياطي الفدرالي لن تكون سهلة،
حيث يجب عليه تفكيك هذه التشابكات المعقدة. فهل
سيستمر الرئيس الجديد في انتهاج سياسات متسقة مع السياسات التي اتبعها برنانكي
لتقوية تعافي النشاط الاقتصادي للولايات المتحدة واستكمال رحلة الخروج من الكساد
العظيم الذي يعيشه الاقتصاد الأمريكي منذ 2007؟ أم أنه سيسلك سبيلا آخر للخروج من
الكساد؟ الإجابة على هذا السؤال تعتمد على من سيكون الرئيس الجديد.
يفترض ان يختار أوباما هذا الشهر من سيحل محل برنانكي الذي تنتهي مدة
رئاسته في آخر يناير القادم، وقد طلب بعض المراقبين من أوباما توسيع نطاق البحث
بين الشخصيات المؤهلة لكي تتولى هذا المنصب الرفيع، نظرا للآثار الخطيرة المتوقع
حدوثها من تغيير من سيجلس على كرسي رئيس الاحتياطي الفدرالي على مسار التعافي
الاقتصادي الأمريكي، وتتعدد التخمينات حاليا حول شخصية الرئيس الجديد، فقد أعلن
أوباما أن وزير الخزانة السابق لورانس سمرز، وكذلك نائبة رئيس الاحتياطي الفدرالي الحالية جانيت
يلين مؤهلين للوظيفة ولكنه يركز في ذات الوقت على آخرين مؤهلين أيضا مثل دون كون.
بحكم منصبها فإن جانيت يلين معروفة بتوجهاتها التشجيعية لسياسات الفائدة
الصفرية وسياسات التيسير الكمي التي يتبعها الاحتياطي الفدرالي حاليا، وهو ما يشير
الى انه في حالة اختيارها سوف تسير على نفس النهج الذي سار عليه برنانكي، وعلى الرغم
من أنه من أقوى المرشحين للمنصب لا توجد شواهد قوية يمكن الحكم من خلالها على وجهة
نظر سمرز حول الاتجاهات المستقبلية للسياسة النقدية ومدى تأييده للسياسات الحالية
التي ينتهجها برنانكي، ومن هذا المنطلق ربما يترتب على اختياره تأثيرات على
الأسواق المالية في العالم، على الأقل لفترة حتى تتضح رؤاه التي سيتبناها. من
ناحية أخرى فإن دون كون معروف باتجاهاته المعارضة لسياسات برنانكي، وقد أعرب عن
ذلك في العديد من الخطب التي ألقاها حول قدرة الاحتياطي الفدرالي على توقع ومعالجة
الازمات المستقبلية، وقد ركز أكثر من مرة على أهمية استخدام السياسات المالية في
معالجة الفقاعات السعرية بدلا من السياسة النقدية، وعلى الرغم من أن خبراته
الأساسية في مجال صناعة السياسة النقدية وتنظيم القطاع المصرفي، فإن عملية صناعة
السياسة النقدية قد تشهد تحولا جوهريا على يديه.
لذلك يمكن القول بأنه من الآن وحتى تتم عملية تسمية الرئيس الجديد
للاحتياطي الفدرالي سوف تستمر ظروف عدم التأكد حول الاتجاهات المستقبلية للسياسة
النقدية الأمريكية، وتستمر معها حالة عدم الاستقرار التي تلف الأسواق وأسعار
الأصول، بصفة خاصة الذهب، وإلى أن تتضح الرؤية، ربما نشهد المزيد من حالات التقلب
والمرشحة لأن تستمر حتى بداية العام القادم إذا تأخرت عملية تسمية رئيس الاحتياطي الفدرالي
الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق