دخل الاقتصاد البريطاني العام الجديد بتقارير سيئة عن النمو الاقتصادي في الربع الرابع من العام الماضي، ولم تكن هذه البيانات المعاكسة بداية جيدة للاقتصاد البريطاني في العام الحالي، ويوما بعد يوما تتراكم المؤشرات السلبية عن النمو، حيث تتراجع معدلات النمو في القطاعات الإنتاجية على نحو واضح، حيث أصبح عدد كبير من المراقبين يؤكد اليوم أن الاقتصاد البريطاني يتجه نحو تراجع ثلاثي Triple Dip، أي العودة للدخول في الكساد للمرة الثالثة على التوالي منذ بدأت الأزمة المالية العالمية، بعد أن خرج منه مرتين بعزم غير كاف لانتشال الاقتصاد المحلي من الكساد بصورة نهائية.
لقد لجأت بريطانيا مثلها مثل باقي الدول الأوروبية إلى اتباع السياسات المالية التقشفية قبل أن يسترد الاقتصاد المحلي عافيته وعزمه بشكل كامل ليخرج من الكساد بشكل نهائي، وهو ما جعل الاقتصاد أكثر عرضة للتراجع مع تراجع مستويات الإنفاق الحكومي في هذا الوقت، وهو أهم ما يحتاج إليه الاقتصاد في أوقات الكساد، خصوصا أنه من الناحية التاريخية يعد الكساد الحالي أطول كساد مر على الاقتصاد البريطاني منذ قرن من الزمان تقريبا، وإذا حدث وانزلق الاقتصاد نحو التراجع الثلاثي فإن ذلك سيمثل ضربة شديدة للآمال بالخروج من الكساد الحالي.
وفقا لتقارير النمو لم يحقق الاقتصاد البريطاني نموا تقريبا خلال عام 2012، وذلك فيما عدا الربع الثالث، حيث ساهمت دورة الألعاب الأولمبية في تنشيط النمو ولكن بشكل مؤقت، غير أن تقارير النمو في الربع الرابع من العام الماضي أشارت إلى عودة النمو الاقتصادي نحو التراجع بمعدل 0.3 في المائة، متأثرا بصورة أساسية بتراجع الناتج في القطاع الصناعي بمعدل 1.5 في المائة، في الوقت الذي لم ينم فيه قطاع الخدمات، بينما أخذت معدلات الإفلاس بين الشركات البريطانية في التسارع، وحاليا يقدر أن نحو 10 في المائة من الشركات البريطانية هي شركات زومبي، وهي الشركات التي تقتصر الإيرادات التي تولدها على خدمة ديونها، ومثل هذه الشركات تكون الأكثر عرضة للإفلاس في أوقات انحسار النشاط الاقتصادي.
المتتبع للشأن البريطاني يلاحظ تواتر أنباء تراجع الناتج المحلي بين كانون الأول (ديسمبر) وشباط (فبراير)، فقد تراجع الناتج بنسبة 0.2 في المائة في الأشهر الثلاثة السابقة على كانون الثاني (يناير)، واستمر في التراجع بنسبة 0.1 في المائة في الأشهر الثلاثة السابقة على شباط (فبراير)، من ناحية أخرى، تراجع الإنتاج الصناعي في بريطانيا في كانون الثاني (يناير) بمعدلات هي الأسوأ منذ ستة أشهر، جانب كبير منها يرجع الى إغلاق إحدى أهم آبار النفط في بحر الشمال، وهو ما أدى إلى فقدان ثمار النمو في الإنتاج الصناعي الذي تم تحقيقه في كانون الأول (ديسمبر).
في ظل هذه الأجواء تعلقت الآمال على قطاع الخدمات لينقذ الاقتصاد البريطاني من الانزلاق نحو التراجع الثلاثي، وقد نشرت بعض التقارير اليوم والتي تشير إلى تحقيق قطاع الخدمات لمعدلات نمو جيدة في شباط (فبراير)، وهو ما نظر إليه على أنه يؤدي إلى تبديد المخاوف بانزلاق الاقتصاد نحو الكساد، غير أنه على الرغم من هذه الأخبار الجيدة عن نمو قطاع الخدمات فإن بعض المراقبين يؤكدون أن الانزلاق أمر مؤكد، وأن نمو قطاع الخدمات لن يحول دون حدوث ذلك.
لهذه الأسباب يرى المراقبون أن نتائج الربع الأول لن تختلف بصورة جوهرية عن نتائج الربع الرابع، مؤكدة دخول الاقتصاد البريطاني مرحلة الكساد للمرة الثالثة، حيث يتزايد الاعتقاد بأن يستمر الاقتصاد البريطاني في تحقيق معدلات نمو سالبة خلال الفصل الأول من هذا العام، وإذا ما تحقق ذلك فسينطبق شرط الكساد على بريطانيا وهو أن تحقق الدولة معدلات نمو سالبة لربعي سنة (ستة أشهر) على التوالي.
إذا حدث التراجع الثلاثي، فسوف تكون هي المرة الأولى التي تحدث في الاقتصاد البريطاني في غضون هذه الفترة القصيرة، أكثر من ذلك فإنه بانزلاق الاقتصاد نحو التراجع الثلاثي سيكون الاقتصاد البريطاني قد تراجع عن أعلى مستوى بلغه في 2007 وذلك بنحو 3.5 في المائة، وبسبب سوء الأوضاع الاقتصادية لا يتوقع بعض المراقبين أن تخرج بريطانيا من حالة الكساد قبل الربع الأول من 2015.
ترجع أسباب تراجع النشاط إلى أنه بعد أن تسلم تحالف المحافظين والليبراليين الديمقراطيين الحكم أعلن سياساته التقشفية كسبيل لخفض الدين العام الحكومي، وذلك استجابة للتهديدات بخفض التصنيف الائتماني المتميز الذي تتمتع به بريطانيا حاليا AAA بعد أن أعطت مؤسسات التصنيف الائتماني نظرة سلبية للاقتصاد البريطاني، حيث تم الإعلان عن استمرار السياسات التقشفية للحكومة البريطانية حتى 2018، فقد قامت الحكومة بخفض الإنفاق الاستثماري بعد تسلمها الحكم بصورة سريعة، غير أن هذه السياسات التقشفية لم تفلح في خفض الدين الحكومي، أكثر من ذلك فقد أضرت بالنمو الاقتصادي، وهي اليوم تهدد فئات كثيرة في المجتمع البريطاني بفعل تراجع الإنفاق الحكومي.
في أعقاب هذه البيانات السيئة عن نمو القطاع الصناعي تراجع الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات، وقد يكون لهذا الاتجاه للعملة آثار إيجابية، فمن الناحية النظرية يفترض أن يساعد الاسترليني المتراجع القطاعات الإنتاجية والخدمية في الاقتصاد البريطاني، حيث يساعد على نمو التجارة الخارجية لبريطانيا وتحسين ميزان المدفوعات، غير أن انخفاض قيمة العملة لكي يساعد على تحسين مستويات التجارة للدولة لا بد أن يصاحبه ارتفاع في معدلات النمو لشركاء الدولة في التجارة، المشكلة الأساسية هي أن باقي دول الاتحاد الأوروبي والتي تمثل الشركاء الأساسيين في التجارة البريطانية تتبع السياسات التقشفية نفسها من ناحية، كما أن آفاق النمو في الاتحاد الأوروبي خلال الفترة المقبلة ليست مبشرة لعوامل عدة، وهو ما يعني أن تراجع قيمة الاسترليني لن يساعد القطاع الصناعي على النمو، كما أن تراجع الاسترليني سيؤثر بالتأكيد في القوة الشرائية للأسر البريطانية، كما سيرفع من معدلات التضخم.
لقد أصبح من الواضح أن السياسة المالية البريطانية في حاجة إلى مراجعة جذرية لدفع النمو والخروج بالاقتصاد من حالة التراجع الواضح التي يغوص فيها اليوم، وذلك لكي تساعد على دفع الاستثمار والنمو. بصفة خاصة لم تعد هناك فائدة ترجى من الاستمرار في السياسة المالية الحالية بمحاولة موازنة الميزانية والإنفاق في حدود الإيرادات للسيطرة على النمو في الدين العام، فالسياسات التقشفية للتحالف الحاكم تضع الاقتصاد البريطاني في مأزق، وأكثر ما يحتاج إليه الاقتصاد البريطاني اليوم هو المزيد من الإنفاق بصفة خاصة الاستثماري في البنى التحتية، كما أنه من بين الخيارات المطروحة على الحكومة خفض الضرائب على القيمة المضافة بشكل مؤقت لرفع مستويات دخول الأسر وتحفيزها على الإنفاق.
في ظل هذه الاخبار يفترض أيضا أن بانك أوف إنجلاند، (البنك المركزي البريطاني) سيطلق موجة جديدة من التيسير الكمي لدفع مستويات النمو في الطلب الكلي، وللمساعدة على انعكاس اتجاه النمو للخروج من التراجع الثلاثي، فقد كانت لجنة السياسة النقدية كانت قد صوتت في شباط (فبراير) الماضي على ضخ المزيد من الاسترليني في جسد الاقتصاد المحلي، غير أن هذا التيسير الكمي لا بد أن يكون مصحوبا من جانب آخر بإجراءات مالية توسعية سواء في جانب الإنفاق العام أو الضرائب بالشكل الذي يساعد على رفع مستويات الطلب الكلي والنمو، وبجرعات حاسمة تساعد الاقتصاد المحلي على الخروج من الكساد بصورة نهائية.