منذ بدء الأزمة المالية العالمية عملت عوامل متعددة على تخفيف حدة وقع الأزمة على الاقتصاد العالمي أهمها السياسات التحفيزية سواء النقدية أو المالية التي اتبعتها دول العالم للحد من تراجع مستويات النشاط الاقتصادي وتحسين أوضاع أسواق العمل، فضلا عن الدور الجديد الذي أصبح يلعبه الاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي، فعلى الرغم من تراجع معدلات النمو في الاقتصادات الرئيسة في العالم وتحولها إلى معدلات سالبة في الدول الصناعية، ظل الاقتصاد الصيني يحقق معدلات نمو موجبة حتى في أحلك أوقات الأزمة.
وعبر عدة قمم بعد الأزمة استطاعت مجموعة العشرين أن تحدث قدرا ما من التنسيق في السياسات فيما بينها، وفي أكثر من قمة أبعدت شبح الحرب التجارية بين القوى الاقتصادية الرئيسة في العالم بتأكيدها على عدم اللجوء إلى التخفيض التنافسي في قيم عملاتها لتحقيق مصالح تجارية على حساب الدول الأخرى، وذلك إيمانا منها بأن أي حرب تجارية لن تكون في مصلحة أحد، وأن الخاسر من مثل هذه الممارسات هو العالم أجمع بمن فيهم من يلجأ إلى مثل هذه الممارسات التجارية الضارة، مثلما أثبتت التجربة التي مر بها العالم في فترة ما بين الحربين العالميتين.
غير أن الاقتصاد العالمي ما زال يواجه حاليا العديد من المخاطر التي تهدد بعودة الكساد في أي لحظة، ولم تتمكن أي من القوى الاقتصادية الكبرى من تحقيق انتصار حاسم على الأزمة، بصفة خاصة ما زالت معدلات البطالة عند مستويات غير مقبولة في معظم الدولة الصناعية بالمقاييس التاريخية، وعدم القدرة على إعادة توازن الطلب الكلي على المستوى العالمي. كما أصبح من الواضح أن أكثر ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي اليوم هو استعادة الثقة بمستقبل النشاط الاقتصادي، وذلك من خلال تنسيق السياسات على المستوى الدولي بين الدول الرائدة في الاقتصاد العالمي.
ولكن كيف تتم المعالجة في المدى الزمني المتبقي من هذه الأزمة؟ من الواضح أن هناك خلافا في أسلوب المعالجة بين الدول الأعضاء، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد لجأت إلى التسهيل النقدي وزيادة مستويات الدين العام لتحفيز النشاط الاقتصادي الأمريكي، فإن ألمانيا تدعو إلى روشتة مختلفة من خلال تبني سياسات تقشفية للسيطرة على عجز الميزانيات في الدول الأعضاء، وذلك من منطلق مبدأ أن سياسات التقشف هي في الواقع سياسات توسعية.
لقد شهدت موسكو نهاية الأسبوع الماضي قمة وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية لدول مجموعة العشرين، والتي تمثل أهم دول العالم من الناحية الاقتصادية، وقد اتجهت أنظار العالم نحو القمة آملين في سماع أخبار مطمئنة حول قضية واحدة بصورة أساسية، وهي أن العالم سيتخذ من الإجراءات ما يوقف السباق نحو تخفيض قيمة العملات للقوى الاقتصادية الكبرى في العالم حتى لا تتأثر مستويات التجارة وتدفقات رؤوس الأموال عبر حدود العالم.
منذ فترة وهناك قلق بين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم من اتجاه البنوك المركزية للدول الرئيسة في العالم نحو التأثير في القيمة السوقية لعملاتها باستخدام أدوات السياسات النقدية المختلفة لدفع عملاتها نحو اتجاه محدد، بهدف تحقيق أهداف تجارية أو خاصة بتوجيه تدفقات السلع رؤوس الأموال من وإلى داخل الدول. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تناقش فيها مجموعة العشرين ضغوط تراجع قيم عملات الدول الأعضاء على اتجاهات النمو العالمي، على سبيل المثال لطالما اتهمت الولايات المتحدة الصين أكثر من مرة بأنها تتلاعب بعملتها بعدم السماح لقوى السوق بأن تحدد قيمة الرينمنبي الصيني، وحرصت في اجتماعات سابقة على حث الصين على أن تحدد قيمة عملتها وفقا لقوى السوق.
لم تكن الصين على رأس قائمة الدول المتهمة بالتلاعب في عملتها هذه المرة، وإنما كانت اليابان هي الدولة التي وجهت إليها أصابع الاتهام. كانت اليابان هي البادئة هذه المرة من خلال سياسات التيسير الكمي المكثفة التي اتبعتها للضغط على قيمة الين. فمنذ انتخاب رئيس وزراء اليابان الحالي قام بنك اليابان باتخاذ إجراءات عنيفة في إطار السياسة النقدية التي تتمحور حول التيسير الكمي كأداة لضخ كميات هائلة من الين الياباني بهدف الضغط على قيمة الين نحو النزول. تمثل الهدف الأساسي من الضغط على الين في جعل الصادرات اليابانية أقل تكلفة في أسواق الصادرات العالمية، لرفع درجة تنافسيتها في الخارج.
كان من الصعب على مجموعة العشرين أن ترى الين يتراجع على نحو واضح، دون أن تتصاعد المخاوف من أية إجراءات انتقامية يمكن أن تتخذ من جانب دول العالم الأخرى، بصفة خاصة من منافسي اليابان من الدول الناشئة، ففي غضون فترة زمنية قصيرة نسبيا انخفضت قيمة العملة اليابانية في مقابل العملات الرئيسة في العالم بنحو 20 في المائة، وهو ما يخل بقواعد المنافسة بين اليابان وشركائها في التجارة.
أنكرت اليابان أنها تتلاعب بعملتها، وأن الإجراءات التي تتخذها في إطار سياسات التسهيل النقدي خلال الفترة الماضية هدفها الأساسي هو تحفيز اقتصادها الذي تتراجع معدلات النمو الاقتصادي فيه على نحو واضح، وأن ما يحدث للين هو نتيجة طبيعية للإجراءات التي تتخذها اليابان في معرض سعيها لرفع معدلات النمو والخروج من حالة الكساد التي تواجهها مثلها مثل باقي دول العالم.
وللأمانة لا بد من الإشارة إلى أنه على الرغم من أن السياسات النقدية التوسعية لليابان عملت على خفض قيمة الين بصورة كبيرة، إلا أننا أيضا لا يمكن أن نهمل سياسات التوسع النقدي التي تمارسها الدول الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، إنها سياسات تمارسها دول العالم المتقدم كافة، ولذلك لم يعد ينظر إلى مثل هذه السياسات النقدية التوسعية في إطار تأثيرها في معدل صرف عملات الدول التي تمارس تلك السياسات، وإنما من منظور أثرها المتوقع في تحفيز مستويات الطلب الكلي.
بل إن المثير للاهتمام في هذا الاجتماع هو أن دول العالم المجتمعة لم توجه اللوم إلى اليابان، وربما حرص الوزراء المجتمعون على تجاهل توجيه اللوم بشكل مباشر إلى اليابان، ولذلك يعتقد المراقبون أن الين الياباني سيواصل هبوطه ربما بسبب استمرار اليابان في اتباع السياسات ذاتها، إلا أن مجموعة الدول الناشئة الأعضاء في مجموعة العشرين بصفة خاصة الصين والهند والبرازيل حرصت على الدعوة إلى وضع قواعد عامة حول سياسات معدل الصرف في دول المجموعة. أكثر من ذلك لقد أعلنت الدول الأعضاء التزامها بعدم اللجوء إلى التخفيض التنافسي لقيمة العملات وتم الاتفاق على أن العملات لا يجب أن يتم استخدامها كأداة للمنافسة في تخفيض قيمتها، وأن العالم لا يجب أن يرتكب الخطأ نفسه الذي تم في فترة ما بين الحربين.
غير أنه على ما يبدو أن ما تم الاتفاق عليه لا يمنع دول مثل اليابان من أن تلجأ إلى سياسات هجومية للتأثير في قيمة العملة اليابانية نزولا لتحفيز النشاط الاقتصادي بها، كذلك ليس من المتوقع أن تغير الصين سلوك معدل صرف الرينمنبي على الرغم من أن المؤتمر قد أكد على الالتزام الأخلاقي بين المؤتمرين على عدم اللجوء إلى التنافس على خفض قيمة العملات، حتى يمكن لهذه الدول أن تنمو سويا.
أكثر من ذلك توجهت أنظار الدول المجتمعة إلى التأكيد على أن قضايا الديون هي أحد المخاطر الأساسية التي يواجهها العالم في هذه الأزمة، ودعت القمة إلى تقييم المخاطر المحيطة باستدامة الدين العام في العالم، وأهمية مراقبة أثر العجز المالي في الدين العام في العالم. إلا أن مجموعة العشرين لم تستطع حتى اليوم أن تحدد مستهدفات محددة فيما يتعلق بعملية خفض الديون، مثلما استطاعت أن تتجاوز تهديدات حرب العملات، فليس هناك اتفاق على السياسة المالية المناسبة لخفض مستويات الدين العام في دول العالم المتقدم.
لقد أكدت القمة على التزامها بتوازن الاقتصاد العالمي، وأن التقلبات الشديدة في التدفقات الرأسمالية وتقلبات معدلات الصرف غير المنتظمة لها آثار اقتصادية معاكسة على الاستقرار الاقتصادي والمالي، ولذلك أكد الوزراء في القمة التزامهم بعدم اللجوء إلى التخفيضات في أسعار الصرف، وأنهم سيقاومون أي اتجاه نحو استخدام أشكال الحماية واستمرار الأسواق مفتوحة أمام التجارة الدولية، وهو ما يعني أنه لا حرب قادمة للعملات. لقد استجابت الدول المجتمعة إلى نداء التعاون بدلا من المواجهة مثلما صرحت كريستين لا جارد رئيسة صندوق النقد الدولي عقب الاجتماع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق