الاثنين، مارس ١٨، ٢٠١٣

خفض الإنفاق .. الولايات المتحدة «تتقشف»


حديث العالم اليوم هو بصفة خاصة عن برنامج خفض الإنفاق العام الذي ستبدأ الولايات المتحدة في تطبيقه ابتداء من هذا الشهر. فقد بدأت الولايات المتحدة في تطبيق روشتة جديدة للتقشف في الإنفاق العام وذلك مع توقيع الرئيس الأمريكي على برنامج لخفض الإنفاق في ميزانيات الوكالات الأمريكية الاتحادية، الذي كان جزءا من نتائج المفاوضات التي تم الاتفاق عليها في مناقشات رفع سقف الدين الأمريكي في تموز (يوليو) عام 2011. برنامج خفض الإنفاق تم إقراره إذن خلال فترة الرئاسة الأولى لأوباما، كأحد سبل خفض العجز في الميزانية، حيث تم تشكيل لجنة مشتركة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لبحث سبل خفض الإنفاق وتخفيف الضغوط نحو زيادة الدين العام الأمريكي إلى مستويات مرتفعة، ولقد تضمن البرنامج الأساسي مقترحات بزيادة الضرائب وخفض الإنفاق بجميع أشكاله، التي منها برنامج الإصلاح المالي الذي أطلق عليه مصطلح الهاوية المالية Fiscal Cliff الذي تم تناوله بكثافة في أوائل هذه السنة، غير أن الكونجرس الأمريكي استطاع أن يتجاوز الهاوية المالية من خلال اتفاق بالسماح بزيادة الضرائب على الفئات ذات الدخل المرتفع.
لقد كان من المفترض أن يحدث أيضا توافق بين الحزبين لتجنب عمليات الخفض الأوتوماتيكي للإنفاق العام بعد توقيع الرئيس عليه، إلا أن خفض الإنفاق أصبح، حتى اليوم، أمرا خياراته محدودة أمام الإدارة الأمريكية، فعلى الرغم من أن الاتفاق قد تم توقيعه من أكثر من عام ونصف إلا أن أحدا لم يفكر في كيفية تفادي هذا الخفض في الإنفاق من الحزبين، حيث أصبح الخفض الأوتوماتيكي للإنفاق إلزاميا على الإدارة الأمريكية، ولقد بدأت المؤسسات الحكومية الأمريكية اليوم في إعداد خطط لخفض الإنفاق في الفترة المقبلة.
لقد تباينت وجهات النظر حول من يجب أن يلقى عليه باللوم في عدم تجاوز برنامج الخفض في الإنفاق، فالبعض يحمّل الرئيس الأمريكي أوباما المسؤولية، بينما يتفق عدد كبير من المحللين على أن الكونجرس بأغلبيته الجمهورية هو المتسبب في هذا الخفض، ذلك أن خيارات خفض الإنفاق كانت دائما الشعار المرفوع من جانب الجمهوريين عند مناقشة أي مقترح للإصلاح المالي في الولايات المتحدة.
مع بدء عملية تخفيض الإنفاق بدأ مصطلح ما يسمى باللغة الإنجليزية Sequestration أو Sequester التي تعني ترجمتها الحرفية الإلغاء أو السحب، في الانتشار على نحو كبير، حيث يعد هذا اللفظ من أكثر ألفاظ اللغة الإنجليزية انتشارا هذه الأيام في وسائل الإعلام، وهو مصطلح اضطر العالم لكي يتعلم معناه من الناحية الاقتصادية مع تطبيق هذا البرنامج.
وفقا لبرنامج خفض الإنفاق ستتم عملية الخفض الأوتوماتيكي للإنفاق العام بقيمة إجمالية تقدر بنحو تريليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة، ستبدأ هذا العام بخفض يساوي 85 مليار دولار تقريبا، حيث سيتم خفض إنفاق العديد من الإدارات الحكومية بشكل مباشر نتيجة لذلك، ووفقا للخطة سيتم خفض نصف الإنفاق المخطط تخفيضه من ميزانية البنتاجون، حيث سيتم تخفيض ميزانيات الدفاع الأمريكي بنحو نصف تريليون دولار خلال العقد القادم، ولكن الخفض سوف ينسحب أيضا إلى الإنفاق غير العسكري، حيث سيتم خصم باقي النصف الآخر من المبلغ من الإنفاق على دعم التعليم والإسكان والبطالة والبحث العلمي، كما ستنخفض عمليات الدعم المقدمة للأسر منخفضة الدخول، وكذلك قد يفقد بعض العاطلين جانبا من دعم البطالة، ضمن قائمة طويلة من عمليات خفض الإنفاق في المجالات المختلفة.
المشكلة الأساسية في التخفيضات المقترحة أنها ستطبق على كافة أشكال الإنفاق العام، الجيد منها والسيئ، مع أنه كان من المفترض أن يحدث نوع من الترشيد في عمليات الإنفاق، حيث ينصب الخفض على البرامج السيئة وتستمر برامج الإنفاق الجيدة أو الفعالة. أما أن يفرض تخفيض الإنفاق هكذا دون ضابط أو معيار واضح يتم على أساسه التخفيض فتلك مسألة تحتاج إلى مراجعة.
لقد بدأت بعض الإدارات الأمريكية في خفض عمليات التوظيف، كما بدأت بعض الإدارات الأخرى في خفض ساعات العمل لموظفيها، ولسوء الحظ أن إنفاق قطاع الأعمال منخفض وإنفاق المستهلكين منخفض أيضا، وبالتالي أن ينخفض الإنفاق الحكومي في الوقت نفسه، فإن ذلك يضيف إلى المشكلات التي يواجهها الطلب الكلي بشكل واضح، لذلك يرى البعض أن تأثير الخفض، رغم أنه محدود من حيث القيمة، في الاقتصاد الأمريكي سيكون جوهريا، أخذا في الاعتبار الأثر المضاعف للإنفاق.
غير أنه بهذه المستويات من خفض الإنفاق يرى البعض أن حجم الانخفاض منخفض جدا وأنه لا يبدو أن التطبيق الأوتوماتيكي لخفض الإنفاق العام سيحدث هذه الآثار الكارثية على الاقتصاد الأمريكي، وهناك اتفاق بين كثير من الاقتصاديين على أن خفض 85 مليار دولار من الإنفاق العام هذا العام أو حتى تريليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة لن يترتب عليه دفع الاقتصاد الأمريكي نحو الكساد مرة أخرى، وإن كان بعض المراقبين يرون أن التأثير في الاقتصاد الأمريكي لن يتم بصورة آنية، وإنما سيأخذ وقتا لكي يحدث تأثيره في الاقتصاد.
بعض التقديرات للأثر المحتمل للخفض تشير إلى أنه سيؤدي إلى خفض معدلات نمو الناتج بنسبة 0.5 في المائة، لذلك يراجع صندوق النقد الدولي تقديرات النمو للاقتصاد الأمريكي، النمو الحالي للاقتصاد الأمريكي يسير على نحو بطيء التحرك بشكل استثنائي في هذه الفترة مقارنة بالوضع منذ بدء خروج الاقتصاد الأمريكي من الكساد. فقد أظهرت النتائج الأولية للنمو في الربع الرابع من العام الماضي أن الاقتصاد الأمريكي قد حقق معدل نمو سالب 0.1 في المائة، وقد كانت المرة الأولى التي يحقق فيها الاقتصاد الأمريكي مثل هذه المعدلات المتواضعة من بداية استعادة النشاط في 2009، صحيح أن المراجعة الثانية لمعدل النمو أظهرت تحقيق الاقتصاد الأمريكي لنمو موجب 0.1 في المائة، إلا أنه ما زال أيضا معدلا متواضعا جدا.
البعض الآخر يرى أن التخوف الأساسي من أثر الخفض في الإنفاق اليوم ليس مقصورا على أثره الاقتصادي فحسب، وإنما أيضا من آثاره المتوقعة في قدرة المؤسسات الحكومية المختلفة على الاستمرار في تقديم الخدمات العامة بالكفاءة التي كانت تقوم بها من قبل نفسها.
غير أنه على الرغم من صغر المبالغ المتوقع خفضها من الإنفاق العام سواء بالنسبة لحجم الاقتصاد الأمريكي أو لحجم ماليته العامة، فإن عملية خفض الإنفاق لا تتوافق من حيث الأساس مع ما يحتاج إليه الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي خصوصا في الأجل القصير، وبمعنى آخر فإن الخطة التي تم توقيعها تأتي في التوقيت الخاطئ على الإطلاق للاقتصاد الأمريكي، فليس هذا هو وقت التقتير على الاقتصاد بخفض الإنفاق العام، بالعكس، أكثر ما يحتاج إليه الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحاضر هو أن تتبنى الولايات المتحدة سياسات مالية توسعية تضمن رفع مستويات الإنفاق العام لتحفيز الطلب الكلي وتحسين أوضاع سوق العمل الذي لا تكاد تنخفض فيه معدلات البطالة، على الرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على انطلاق الأزمة المالية العالمية، والتقشف يمكن أن يؤخر من فرص استعادة النشاط الاقتصادي، وجدوى السياسات التقشفية في مثل هذا التوقيت لا تجلب إلا المزيد من البؤس الاقتصادي، على سبيل المثال تميل أوضاع أوروبا نحو التعقيد من الناحية الاقتصادية حيث يسير التعافي الاقتصادي في مسار سيئ وتميل معدلات البطالة نحو الارتفاع، بسبب السياسات المالية التقشفية التي تتبعها.
من المؤكد أن عملية خفض الإنفاق المقترحة لن تؤدي إلى خفض عجز الميزانية بشكل ملموس، أو تحد من نمو الدين العام بالشكل الذي يبرر هذه التكاليف الإضافية في هذا التوقيت السيئ، حيث سيؤدي الخفض إلى تحميل الاقتصاد الأمريكي بتكاليف مثل هذا التخفيض دون أن يصاحب ذلك مكاسب ملموسة، وهو بلا شك سلوك أقل ما يوصف به أنه نوع من الغباء في صناعة السياسة الاقتصادية الأمريكية، لكن عملية خفض الإنفاق الأخيرة ستمثل الاختبار العملي لسياسات الجمهوريين الذين ملأوا الدنيا صراخا بضرورة الحد من الإنفاق العام للسيطرة على عجز الميزانية ونمو الدين العام، ولا شك أن استجابة النمو في الاقتصاد الأمريكي ستقدم الرد المناسب على مثل هذه السياسات، وهو ما سنراه في السنوات المقبلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق