خلال عام 1996 والنصف الأول من 1997 أخذت آلة الائتمان التي ترتب عليها ضخ كميات هائلة من البات التايلاندي في التراجع والعمل بصورة عكسية، وقد كانت جانبا من ذلك راجع إلى انعكاس اتجاهات التجارة للدول الآسيوية، حيث تراجع الطلب على صادرات هذه الدول، فقد انخفضت قيمة الين الياباني، وهو ما جعل بضائع الدول الناشئة في آسيا أقل تنافسية داخل اليابان، وكذلك خارجها مقارنة مع المنتجات اليابانية، وهو ما أثر بشكل مباشر على عمليات الاقراض داخل هذه الدول نظرا لنقص تدفقات النقد الأجنبي، وقد ترتب على ذلك أن أصبح المضاربون داخل هذه الدول في مشكلة كبيرة نظرا لنقص السيولة وبدأت بعض شركات المضاربة في الخروج من السوق.
في ظل هذه الأوضاع تحول المقرضون من الخارج عن آسيا وبدأت تدفقات القروض إلى الدول الناشئة في آسيا في الجفاف، وتراجعت الثقة بصورة كبيرة في اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا، سواء من جانب الشركات المحلية أو المستثمرين الأجانب، فطالما أن أسعار العقارات التي تدور حولها المضاربات تبدو جيدة، فإن الاستثمارات ذات المخاطر المرتفعة في هذا القطاع سوف تبدو جيدة، طالما أن الأسعار السوقية تدعم اتجاه المضاربات. غير أنه مع تراجع اسعار العقارات أخذت شركات المضاربة والمقترضين لأغراضها في تحقيق خسائر، وهو ما أثر على اتجاهات الثقة في قطاع العقار بصورة واضحة وأخذ عرض الائتمان في التراجع نتيجة لذلك، ومعه تراجعت أسعار الأراضي والمباني عن مستوياتها بصورة واضحة.
من ناحية اخرى أدى تراجع الاقتراض الخارجي الى مشكلات لدى البنوك المركزية في هذه الدول، فمع تراجع تدفقات النقد الاجنبي، تراجع الطلب على العملات المحلية، بصفة خاصة البات، من ناحية أخرى فإن الحاجة الى تحويل البات الى عملات أجنبية استمرت في التزايد بسبب الحاجة الى تمويل الواردات الى تايلاند، النتيجة الطبيعية في مثل هذه الأحوال أن تميل قيمة البات نحو التراجع، ولكي يستمر البنك المركزي التايلاندي في الحفاظ على قيمة البات، اضطر إلى أن يقوم بإجراءات معاكسة لما كان يقوم به في حال تزايد تدفقات النقد الأجنبي الى تايلاند (عندما كان يقوم بزيادة عرض البات)، حيث قام بالتدخل في سوق النقد الأجنبي لتحويل البات الى عملات أجنبية (أي شراء البات) وذلك لتدعيم قيمة البات.
غير أن الوضع يختلف هذه المرة، ذلك أن محاولة الحفاظ على قيمة العملة من الارتفاع تعد أسهل بكثير من محاولة الحفاظ عليها من الانخفاض، ففي الحالة الأولى يقوم البنك المركزي بطباعة المزيد من البات والتي هي عملته الأجنبية ويتحكم فيها بشكل كامل، أما في الحالة الثانية فإنه يقوم بالسحب من احتياطياته من النقد الأجنبي، أي من عملات لا يمكن حق طباعتها، وبالتالي فإن هناك قيود على قدرة البنك المركزي على رفع قيمة البات، لأنه سيواجه استنزافا في الاحتياطيات من النقد الأجنبي مع استمرار عملية التدخل لحماية العملة المحلية.
في جميع الأحوال كان السبيل الوحيد للحفاظ على قيمة البات من التراجع هو خفض كمية البات التي في التداول، وهو ما يترتب عليه رفع معدلات الفائدة على البات الأمر الذي يغري المستثمرين على ضخ مدخراتهم الى تايلاند وزيادة الطلب على البات. غير أن الظروف كانت قد تغيرت، حيث ترتب على انهيار قطاع العقارات الى انخفاض مستويات النشاط وارتفاع معدلات البطالة، وهو ما يعني أن الاقتصاد التايلاندي كان في هذا الوقت أحوج ما يكون الى خفض معدل الفائدة لتشجيع الاستثمارات المحلية وزيادة مستويات النمو، أما رفع معدلات الفائدة فإنه سيساعد في مثل هذه الظروف في دفع الاقتصاد نحو الكساد.
كان البديل هو ترك البات حرا بدون تدخل من البنك المركزي بحيث تتحدد القيمة الحقيقية لها بناء على اتجاهات الطلب والعرض في سوق النقد الأجنبي. غير أن هذا البديل كان غير جذاب لتايلاند لأن خفض البات سوف يضر بسمعة الحكومة التايلاندية، وأيضا لأن الكثير من البنوك وشركات الاستثمار وشركات قطاع الأعمال كانت لديها دون ضخمة بالعملات الأجنبية، وخفض قيمة البات يرفع من قيمة هذه الديون بصورة كبيرة، ويجعل من عملية خدمتها مسألة مكلفة للغاية، مما يرفع من معدلات الإفلاس بين هؤلاء المقترضين.
في ظل هذه الظروف فضلت الحكومة التايلاندية الانتظار وعدم اتخاذ أي إجراء حتى تنعكس الأمور وتعود آليات السوق للعمل مرة أخرى في صالح القطاع المالي التايلاندي، وهو ما مهد الطريق لانطلاق أزمة البات. حيث أنه في ظل ثبات معدل صرف البات وعدم اتخاذ الحكومة لأي اجراءات لمعالجة الأزمة تتراكم التوقعات حول احتمالات تراجع البات في المستقبل، وهو ما غذى الاتجاهات نحو المضاربة على البات ولكن في الاتجاه المعاكس، أي باقتراض البات وتحويله الى دولارات انتظارا لانخفاض البات وتحويل الدولارات مرة اخرى الى بات وسداد القروض من البات بكميات اقل منها.
أخذ المضاربون في الداخل باقتراض البات وسداد ما عليهم من ديون بالدولار، كما أخذ حملة السندات بالبات في بيعها وشراء سندات امريكية بدلا من ذلك، كما بدأت صناديق الاستثمار الأجنبية في اقتراض البات وتحويله الى دولارات. كل هذه العمليات ترتب عليها بيع البات وشراء العملات الاجنبية، وهو ما يعني اضطرار البنك المركزي في تايلاند لشراء البات لكي يحافظ عليه من الانخفاض، وهو ما يؤدي الى نتيجة في غاية الخطورة في هذه الحالة وهي استنزاف احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي، الأمر الذي يغذي توقعات المضاربين حول قرب انخفاض البات، وبالتالي زيادة عمليات المضاربة عليه.
لكل هذا تشكلت في تايلاند الظروف المثالية لانطلاقة أزمة البات الذي أدى إلى دفن الاقتصاديات الناشئة في جنوب شرق آسيا.
من خلاصة قراءتي في كتاب The Return of Depression Economics لبول كروجمان.
هل يا دكتور ما نشاهده الأن من إرتفاع لبعض العملات الأسيوية مثل البات التايلندي والبيسو الفلبيني هو أمر مماثل لماحصل تقريبا قبل 15سنه ام أنه أمر آخر أرجو التوضيح
ردحذفهذا الارتفاع ليس انعكاسا لظروف مشابهة للانهيار الآسيوي، وانما انعكاس لضعف العملات الرئيسة في العالم مثل الدولار والين واليورو
ردحذف