للأسف تم إقرار قانون شراء الفوائد في جلسة 6/1/2010، على الرغم من كل المحاذير التي سيقت عن عدم عدالة وعدم دستورية القانون، والتعقيدات التي ستصاحب تطبيقه، وما سيفرضه القانون من تغيرات جوهرية على طريقة عمل القطاع المصرفي في دولة الكويت، فضلا عن أنه سيمثل سابقة مهمة من المؤكد أنه سيتبعها اقتراحات، أتوقع أن يكون الاقتراح التالي هو شراء الدولة لأصل القروض. بمقتضى قانون شراء الفوائد يفترض أن تتحمل الدولة عن من اقترض 70 ألفا عشرات الآلاف من الدنانير، وعن من اقترض 5 آلاف ربما ألفا وخمسمائة دينار فقط، رغم أن الاثنان كويتيان لهما نفس الحق في ثروة هذا البلد، وهي قمة العدالة والمساواة التي يراها من أعلنوا تأييدهم للقانون. ما زال في رأيي هناك مجال لرد القانون، ورفض إقراره والحكومة تملك من الوسائل التي تمكنها من إجهاض القانون، سواء من الناحية القانونية أو من الناحية الدستورية.
القانون المقترح لن يكلف المال العام أكثر من 6 مليار دولار فقط، وإنما سوف يؤثر على قطاع المال في دولة الكويت بصورة جوهرية. حيث تحظر المادة التاسعة من القانون المقترح على البنوك وشركات الاستثمار الخاضعة لرقابة البنك المركزي منح
القروض للمواطنين بفوائد، مع منح البنوك التقليدية حق استحداث أدوات مالية تتوافق مع الشريعة الإسلامية لتقديم الائتمان. إذا تم إصدار وتطبيق القانون، فإن ذلك سوف يؤدي إلى تغير جوهري في أسلوب عمل وطبيعة مؤسسات القطاع المالي والعرف الذي درجت عليه البنوك التجارية في دولة الكويت، حيث يتوقع أن يترتب على تطبيق هذه المادة ان تواجه البنوك التجارية خيارين؛ الأول أن تغلق تلك البنوك أبوابها، وذلك لعدم قدرتها على جذب المودعات نتيجة عجزها عن دفع العائد المناسب على المودعات لديها، وذلك إذا ما اختارت استمرار العمل وفقا للنظام المصرفي التقليدي، إذ تشكل الفوائد مصدر الدخل الأساسي للبنك التقليدي، أما الخيار الثاني فهو أن تتحول إلى بنوك إسلامية، أو أن تتعامل في الأدوات المالية التي تتوافق مع الشريعة. ولكن هل تحول البنوك التجارية إلى بنوك إسلامية، أو إلى بنوك تقدم ائتمانا وفقا للشريعة سوف يحول دول عدم تكرار مشكلة القروض الشخصية. الإجابة هي لا، فطالما أن الأفراد يميلون إلى أن يعيشون خارج نطاق إمكانياتهم، ستظل مشكلة ارتفاع عبئ الدين على كاهل الأفراد قائمة، ومن ثم سوف تتحول مشكلة القروض الشخصية مستقبلا من مشكلة مع البنوك التقليدية إلى مشكلة مع البنوك التي تعمل وفقا للشريعة.
الأمر المثير للدهشة هو أن يتم إصدار تشريع يتدخل في طريقة عمل الجهاز المصرفي والعرف الذي درجت عليه البنوك التجارية في دولة الكويت دون أن يتم استشارة المختصين فنيا في تداعيات مثل هذه المادة، كما لا يدعى البنك المركزي للمشاركة في صياغة مثل هذه المادة، حيث يفترض أنه الجهة الوحيدة التي لديها السلطة في صياغة كيفية عمل القطاع المصرفي، وطبيعة الخدمات التي تؤديها البنوك على اختلاف أنواعها. من ناحية أخرى فإن تطبيق القانون سوف يتطلب من البنك المركزي تعديلا جذريا في أدواته المستخدمة في إدارة السياسة النقدية، وضرورة البحث عن أدوات تتوافق مع سوق مال يتعامل بصورة أساسية مع أدوات ائتمان واستثمار تعمل وفقا للشريعة. باختصار لقد تم صياغة القانون وكأن البنك المركزي ليس له وجود في هذا البلد.
من المؤكد أيضا أن فرض إقرار هذا القانون، سوف يؤثر بشكل واضح على خطط تحويل الكويت إلى مركز مالي. فالمركز المالي يفترض أنه مركز لممارسة كافة الأعمال المالية بحرية من قبل كافة المؤسسات المالية على اختلاف أنواعها، وبأدنى تدخل من قبل السلطات، كيف سندعو البنوك والمؤسسات المالية الإقليمية والعالمية لأن تدخل الكويت وتفتتح فروعا ومراكز جديدة لها في الدولة ونحن نقيد أعمالها بمقتضى المادة 9 من القانون، بل كيف يمكن أن تثق بنا تلك المؤسسات، ونحن نسطر القوانين التي تمس صميم أعمالها حتى بدون استشارة البنك المركزي في كافة الجوانب الفنية التي تخص طبيعة عمل القطاع المصرفي.
لقد تم حشد المؤيدين لإقرار القانون انطلاقا من اتهام الدولة بأنها تنثر الأموال هنا وهناك وأنها تساعد القاصي والداني في الوقت الذي تمسك فيه يديها عن مساعدة المواطن. فهل فعلا تنثر الكويت أموالها يمنة ويسارا كما يعتقد البعض؟ إن مشكلة الإعلام وبعض المسئولين الذين يتناولون قضية المساعدات الخارجية لدولة الكويت تتمثل في أنهم يضخمون الدور الذي تلعبه الكويت كمانح للمساعدات الدولية بالصورة التي تجعل المواطن يعتقد أن الكويت تفتح خزائنها هكذا لكل من هب ودب ليغترف منها ما يشاء، بينما تقصر أيديها عن مساعدة مواطنيها، النتيجة هي أنه تم استخدام هذا الادعاء كحجة أساسية للترويج لقانون شراء الفوائد وتشويه صورة الحكومة أمام المواطن باعتبارها حكومة تبخل على مواطنيها. فما هي حقيقة المساعدات التي تقدمها دولة الكويت لدول العالم الأخرى، وما هو مقدار هذه المساعدات.
عندما بدأت الأمم المتحدة العقد الأول للتنمية في الستينيات من القرن الماضي جعلت هدف العقد أن تقوم الدول الغنية بتحويل 1% من ناتجها المحلي في صورة مساعدات تنموية للدول الفقيرة في العالم، وعندما انتهى العقد لم تف دول العالم الغنية بالتزاماتها في هذا الصدد، فتم اعتبار السبعينيات العقد الثاني للتنمية، وتم تخفيض التزام الدول الغنية إلى تحويل 0.7% (أقل من 1%) فقط من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات تنموية للدول الفقيرة في العالم. الكويت إذن كدولة غنية عليها التزام دولي بأن تحول إلى الدول الفقيرة في العالم 0.7% من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات تنموية. الكويت اختارت أن يتم تقديم هذه المساعدات من خلال الصندوق الكويتي للتنمية العربية، والذي يقدم المساعدات بصفة أساسية في صورة قروض وكذلك يقدم منحا في بعض الأحيان، النشاط الأساسي للصندوق الكويتي للتنمية إذن هو منح القروض التنموية بشروط سهلة، وهو ما يعتبر نظريا نوع من المساعدات، وبمعنى آخر فإن المليارات التي يقدمها الصندوق الكويتي للتنمية لدول العالم لا تذهب هكذا كما يظن البعض، وإنما تعود إلى الكويت مرة أخرى مع فائدة محدودة. الجدول رقم (1) يوضح إجمالي عمليات الصندوق خلال عام 2008.
جدول رقم (1) بيانات أساسية عن الصندوق الكويتي للتنمية العربية كما في 30 سبتمبر 2008 (مليون دينار)
البند | القيمة |
رأس المال | 2000 |
قيمة القروض | 4081 |
قيمة منح الصندوق | 90 |
قيمة المعونات الفنية | 10 |
المصدر: الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية
من ناحية أخرى اقتصرت المنح الحكومية (الهبات) في 2008 على 215 مليون دينار، تم توزيعها على عدد من دول العالم، والدول العربية بصفة خاصة، كما يوضح الجدول رقم (2).
جدول رقم (2) التوزيع الجغرافي لمنح دولة الكويت (مليون دينار)
الدول | القيمة |
دول وسط آسيا وأوروبا | 3.1 |
دول شرق وجنوب آسيا والمحيط الهادي | 3.5 |
الدول العربية | 190.6 |
دول غرب أفريقيا | 14.1 |
دول وسط وجنوب وشرق إفريقيا | 0.5 |
المجموع | 211.8 |
المؤسسات | 4.1 |
إجمالي المنح بما في ذلك منح الصندوق والمعونات الفنية | 315.9 |
الناتج المحلي الإجمالي * | 39787.4 |
منح دولة الكويت إلى الناتج المحلي الإجمالي | 0.794 |
المصدر: الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية
* بنك الكويت المركزي
المشكلة أنه عندما يتناول المسئولون موضوع المنح التي تقدمها دولة الكويت، لا يشيرون إلى أن هذه المنح هي التزام دولي على الكويت، أي أن الكويت ملزمة دوليا، كدولة غنية بأن تقدم 0.7% على الأقل سنويا من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات لدول العالم الفقير. كما أن الكويت ليست الدولة الوحيدة التي تقدم مثل هذه المساعدات، فدول الخليج الأخرى، مثل السعودية والإمارات وقطر ... تمارس نفس الدور، لأنها ملزمة بتقديم تلك المساعدات للدول الفقيرة الأخرى، بل إن الكثير من دول العالم الغني، مثل اليابان والدول الاسكندينافية والكثير من الدول الأوروبية تقدم مساعدات دولية أكثر مما تقدمه دولة الكويت كنسبة من ناتجها المحلي الإجمالي، ولم يصرخ أحد من مواطني تلك الدول في وجه الحكومة متهما إياها بنثر الأموال على الفقراء من دول العالم الأخرى.
حكومة دولة الكويت تنفق إذن أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة في صورة منح للدول الفقيرة، بينما تنفق الباقي على المواطن إما بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فأين صحة الادعاء بأن الدولة تنثر أموالها يمنة ويسارا بينما تبخل على المواطن. على العكس من هذا الادعاء فإن المواطن في دولة الكويت يستهلك ارخص كهرباء وماء في العالم أجمع بفضل دعم الدولة، وارخص خبز بفضل الدعم الذي تقدمه الدولة، وأرخص بنزين لنفس السبب، ويتلقى تعليما مجانيا وعلاجا مجانيا، في الكويت أو خارجها، وعندما يدخل الجامعة تقدم له الحكومة مكافأة طلابية طوال فترة دراسته بالجامعة، وعندما يتخرج تؤمن له دخلا من خلال أي وظيفة يؤديها في قطاعها الحكومي، وعندما ينوي الزواج تقدم له منحة مالية مناسبة للزواج، بل وتؤمن له سكنا لائقا لا تؤمنه دولة أخرى في العالم، وعندما ينجب تقدم له علاوة جيدة عن كل طفل ينجبه، بل وعندما يتوفاه الله تتحمل كافة تكاليف دفنه مهما بلغت ثروته، بعد هذا كله يحق لنا أن نتساءل، من يتمتع بمثل هذا القدر من الرفاهية في العالم، وهل تنثر الدولة دخلها على العالم أم على المواطن؟
هل المطلوب إذن من الحكومة ان تلغي برنامج مساعداتها الخارجية وتتوقف عن منح المساعدات للدول الفقيرة في العالم لتنكفئ الكويت على نفسها وتتقوقع؟ البعض لا يفهم أن الكويت عضو في أسرة دولية، وكما لها من حقوق أمام المجتمع الدولي، فإن عليها التزامات أيضا. ولكن هل جنت الكويت شيئا من هذا الموقف تجاه الأسرة الدولية؟، الإجابة واضحة وجلية، لقد كسبت الكويت تعاطف العالم أجمع عندما تعرضت للعدوان على أراضيها، وهبت دول العالم لمساعدتها ونجدتها، حتى عادت حرة كما كانت. فهل يمكن أن نعتقد أنه لو قصرت الكويت أيديها عن مساعدة العالم الفقير كانت ستجد مثل هذه النصرة الكبيرة التي حظيت بها، الإجابة بلا شك هي لا، على العكس لو بخلت الكويت بإمكانياتها عن مساعدة العالم الفقير فستصبح دولة منبوذة في المجتمع الدولي.
أسس إقرار مثل هذا القانون هي واهية سواء من الناحية القانونية أو الدستورية أو الاقتصادية أو العملية، ومن وجهة نظري فان رد قانون شراء الفوائد أصبح أمرا ضروريا، ومثلما أشاع أنصار إلغاء القروض من قبل مقولة أن إلغاء القروض واجب شرعي، تحت الادعاء بأن هناك فتوى في ذلك، فإن رد هذا القانون أيضا أصبح واجبا شرعيا، خصوصا وأن هناك فتاوى شرعية موجودة حاليا من أشخاص مشهود لهم في مجال الفقه بعدم جواز تطبيق القانون شرعا.
إذا ما تم بالفعل إقرار القانون وفشلت جهود رده، فإنه سوف يكون مقدمة لخطوات أخرى أكبر وأوسع وقوانين قادمة ذات تكاليف أكثر وأعمق، ولم لا والوسيلة سهلة ومعروفة ومجربة، إذا لم يتم رد القانون فلا أجد أقل من أن أقدم خالص عزائي لكل من لم يقترض أو انتهى لتوه من سداد قروضه ولم يعاود الكرة بإثقال عاتقه بقروض مجانية، وإلى كل من لم يتبع إشارات الداعين إلى حرق المال العام، بأن القانون في طريقه إلى الإقرار، كما لا يفوتني أن أقدم خالص عزائي للأجيال القادمة، وأبشرهم بأننا نعمل بجد لكي نصنع لهم مستقبلا باهرا على هذه الأرض الطيبة، ونرسي لهم دعائم متينة للنمو المستدام حتى نتأكد بأنهم عندما يأتي دورهم ليتسلموا ذمام الأمور لن يجدوا شيئا، بعد أن نكون قد أتينا على الأخضر واليابس من ثروة هذا البلد، لهؤلاء جميعا أقول عظم الله أجوركم في حصتكم في ثروة هذا البلد.
بل الواجب الشرعي هو محاربة الربا وتحريمه بالقانون، اما التذرع بالحكم الشرعي في قضية اسقاط الفوائد واهمال الحكم الشرعي في اصل المشكلة فهو ما يسمى بازدواجية المعايير
ردحذفشكرا لك
شكرا على التعليق،
ردحذفجوهر هذا المقال ليس قضية الفوائد. أي في هذا المقال أنا لا أتناول قضية الفوائد، ومدى شرعيتها أو عدم شرعيتها، فهذه قضية محسومة، أنا أتناول قضية تحميل المال العام بالفوائد، بالصورة التي لا تحقق المساوة بين من المقترضين أنفسهم من جانب، وبينهم وبين من لم يقترض من ناحية اخرى، وبين الجيل الحالي والاجيال القادمة من ناحية ثالثة، وهذا هو جوهر المقال.