الجمعة، يناير ١٥، ٢٠١٠

لماذا الإفصاح في سوق الأوراق المالية

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 18/1/2010

يتزايد استخدام عبارة قوانين الإفصاح والشفافية بشكل واضح في عالم اليوم، وبصفة خاصة في أسواق المال، حيث تلعب المعلومات دورا حاسما في التأثير على قرارات المتعاملين في السوق بالبيع أو الشراء أو الاحتفاظ. وتفترض نظريات كفاءة سوق الأوراق المالية أن كافة المعلومات عن السوق والشركات المسجلة فيه متاحة بشكل عام، وأن المتعاملين في السوق لديهم حرية وصول إلى هذه المعلومات بدون تكلفة، أو بتكلفة زهيدة، غير أنه من الناحية العملية يعد حصول جميع المستثمرين على المعلومات اللازمة لتقييم القرار الاستثماري أحد التحديات التي يمكن أن تواجه أي سوق للأوراق المالية، على الرغم من الأهمية الكبيرة التي تمثلها المعلومات بالنسبة لاستقرار السوق ونمو المعاملات فيه وتدعيم ثقة المتعاملين فيه. من ناحية أخرى فإن غياب قوانين الإفصاح والشفافية تشيع حالة من عدم العدالة في المعاملات التي تتم في سوق الأوراق المالية، حيث يؤدي غياب مثل هذه القوانين إلى توفير كافة الدوافع اللازمة للعب بمقدرات السوق، ومن ثم استئثار فئات محددة من المتعاملين، خصوصا الذين لديهم حرية الوصول إلى المعلومات الداخلية Inside information الغير متاحة للعامة، أو الذين يمكنهم من أن يشيعوا في السوق معلومات خاطئة، أو يتمكنوا من تسريب معلومات صحيحة تحقق لهم أرباحا ضخمة في حال دخول تلك المعلومات في قرارات المتعاملين، بالجانب الأكبر من الأرباح التي يمكن ان تتحقق من المعاملات في السوق، وذلك على حساب باقي المتعاملين الذين ليس لديهم حرية الوصول إلى مثل هذه المعلومات.




الإفصاح والشفافية أصبحتا متلازمتين ضروريتين للأسواق المالية في عالم اليوم لأسباب كثيرة سوف نحاول اختصارها في هذا المقال. السبب الأول هو انتشار ما يسمى بالهندسة المالية Financial engineering، وهي مزيج من الرياضيات والإحصاء وعلم الحاسوب والتي تأخذ صورة صياغات رياضية معقدة أحيانا وذلك لتقييم مستويات المخاطرة والعائد ومن ثم الحكم على قرارات الشراء أو البيع أو الاحتفاظ للأصول المالية، ونتيجة لاتساع انتشار الهندسة المالية اختلفت استراتيجيات المتعاملين في السوق بشكل واضح، حيث أصبح المتعاملون في البورصات يعملون وفق صيغ رياضية جامدة لتوقيتات البيع والشراء، وشاع بينهم مصطلحات مثل بيتا وجاما وسيجما وما شابه ذلك بدون إدراك لطبيعة الفروض التي بنيت عليها مثل هذه النماذج التي تدعو إلى الإعجاب، وتتجه أصابع الاتهام إلى الهندسة المالية في الأزمة المالية العالمية الأخيرة بأنها المسئولة عن اضطرابات الأسعار في أسواق الأوراق المالية، فالكثير من هذه النماذج الرياضية المصممة لقياس درجة الخطر قد انتهت إلى نتيجة أن الكثير من الأوراق المالية آمنة، بينما هي في واقع الأمر في منتهى الخطورة، إلى الدرجة التي دعت "وارن بوفيت" الملياردير الأمريكي الشهير أن يصرح في احد لقاءاته "احذروا من المهووسين الذي يحملون الصيغ رياضية"، باختصار لقد فشلت الصيغ الرياضية في أن تقدم تقييما مناسبا للمخاطرة للمتعاملين في الأسواق، عندما أصبح من السهل تسميم نتائج هذه الصيغ إذا لم تكن المعلومات المتاحة صحيحة أو لا تتسم بالشفافية والصدق. إن النماذج الرياضية المستخدمة حاليا من قبل المتعاملين في السوق أو الرسوم البيانية القائمة عليها سوف تقدم نتائج محددة حول مدى مناسبة توقيت الشراء أو البيع، ونقاط الدعم... الخ، وإذا لم تكن تلك النماذج قائمة على معلومات صحيحة فإنها ستؤدي إلى استنتاجات خاطئة، وهو ما يؤدي إلى اضطراب السوق.



السبب الثاني هو أن الجانب الأكبر من المتعاملين في سوق الأوراق المالية هم من صغار المستثمرين، وهؤلاء هم أقل المتعاملين استعدادا لتحمل ما يترتب على تغيرات أسعار الأوراق المالية من خسائر، كما أن آثار تقلب أسعار الأسهم على صغار المستثمرين تكون مدمرة نظرا لأنهم غالبا ما يضاربون بكل ثرواتهم أو بثروات الغير. ونظرا لضعف القدرات الفنية لهؤلاء نتيجة لخلفيتهم المتواضعة في مجال التحليل المالي، فإنهم لا يهتمون بالعوامل الأساسية في التحليل والتقييم وقياس التدفقات النقدية المستقبلية وغيرها من مبادئ التمويل التي يجب ان يتم استخدامها في تحليل الأسهم، فضلا عن عدم قدرتهم على الوصول إلى مصادر المعلومات الداخلية، ومن ثم فإنهم لا يدركون حجم المخاطر التي يمكن ان تحيط بهم في ظل سوق مال تغيب فيه الشفافية والإفصاح. ولذلك نجد أن غالبية هؤلاء يميلون إلى إتباع إستراتيجية سلوك القطيع Herd behavior، وهي إستراتيجية مستقاة من عالم الحيوان، حيث تميل الحيوانات إلى التجمع جنبا إلى جنب والجري في اتجاه واحد كإستراتيجية دفاع جماعي لمواجهة أي هجوم من الحيوانات المفترسة، ويتم ذلك في سوق الأوراق المالية من خلال تكثيف عمليات البيع عندما تميل الأسعار نحو التراجع، أو الشراء عندما تميل الأسعار نحو الارتفاع، أو من خلال تقليد بعض الشخصيات أو المتعاملين في البورصة الذين يمثلون المستثمرين الرئيسيين في البورصة، أو المؤسسات المالية الرئيسية، الأمر الذي يزيد من حدة التقلبات التي يتعرض لها سوق الأوراق المالية. إذا كان المتعاملون في السوق يتبعون إستراتيجية سلوك القطيع، فمن الممكن تضليل المتعاملين في السوق بسهولة، وذلك عندما ينحرف المتعاملون الرئيسيون في السوق أو الذين ينظر إليهم على أنهم مفتاح البورصة. المشكلة الأساسية هي انه في حال تعرض صغار المستثمرين لخسائر حادة نتيجة ممارسات غير قانونية فإنها سوف تؤدي إلى عزوف هؤلاء المستثمرين عن الدخول مرة أخرى للبورصة نظرا لحالة انعدام الثقة التي ستتكون لدى هؤلاء حول السوق بشكل عام. وبمعنى آخر فإن توفير الشفافية وضمان الإفصاح يؤدي إلى تعزيز ثقة المتعاملين في السوق، ويرفع من مستوى كفاءة السوق بمعناها الفني.



السبب الثالث هو أن هناك تغيرا هيكليا في طبيعة المتعاملين في سوق الأوراق المالية واستراتيجياتهم في عالم اليوم بالشكل الذي يجعل بورصات الأوراق المالية أقرب إلى صالات للمضاربة أو القمار منها إلى كونها ساحات للاستثمار. على سبيل المثال تشير أحدث البيانات المتاحة إلى أن متوسط فترة الاحتفاظ بالسهم في سوق الأوراق المالية في نيويورك يدور حاليا حول مدى زمني طوله 6 أشهر فقط، كما يتضح من الشكل التالي، ويعني ذلك ان سرعة دوران الأسهم في السوق أصبحت عالية للغاية، وأن العوامل التي تتحكم في توقيت الشراء والبيع أصبحت متقلبة بصورة تدعو إلى القلق لأن ارتفاع معدل دوران الأسهم يؤدي في النهاية إلى انهيار السوق، حيث إن قصر متوسط فترة الاحتفاظ بالسهم تعد من مسببات طفرة التداول، وهذا ما يثبته الشكل، ذلك أن السنوات التي يميل فيها متوسط فترة الاحتفاظ إلى التراجع غالبا ما كان يتبعها أزمة في سوق الأوراق المالية. إن قصر متوسط فترة الاحتفاظ بالسهم إلى هذا الحد توحي بأن البورصات أصبحت اليوم أقرب إلى صالات القمار، إذ ماذا يفعل مستثمر يحتفظ بالسهم في المتوسط لمدة 6 أشهر؟ من المؤكد أننا لا يمكن ان نطلق على مثل هذا المتعامل لقب مستثمر، إنه يتاجر أو يضارب أو يقامر ولكنه لا يقوم بالاستثمار، في ظل هذه السلوكيات الاستثمارية سوف تكون درجة تقلب السوق مرتفعة للغاية، إنه نفس السلوك الذي سبق انهيار بورصة نيويورك في 1929 والذي كان مقدمة لحدوث الكساد العالمي الكبير، حيث بلغ متوسط فترة الاحتفاظ بالسهم حوالي عام في ذلك الوقت، باختصار، الأسواق المالية أصبحت الآن أكثر تقلبا، ومن ثم فإنها في حاجة الآن أكثر من أي وقت مضى لتوافر المعلومات بشفافية تضمن رفع درجة استقرار السوق.



الشكل رقم (1) متوسط فترة الاحتفاظ بالسهم في بورصة نيويورك للأوراق المالية (بالسنوات)




المصدر: SG Global Strategy Research



السبب الرابع هو أن التلاعب بأسعار الأوراق المالية، أو المضاربة غير المشروعة، أو إشاعة الأخبار الكاذبة والعمل على نشرها لتوجيه السوق نحو اتجاه محدد، إلى غير ذلك من الممارسات غير القانونية يمثل جريمة لا بد وأن يعاقب عليها القانون بصرامة لكي يمنع من تسول له نفسه من القيام بذلك، ولكي يحمي السوق من الممارسات غير القانونية مثل تسريب الأسرار أو استخدام معلومات داخلية غير متاحة لجمهور المستثمرين لتحقيق أرباح غير طبيعية، أو غيرها من الممارسات التي ترفع درجة عدم استقرار السوق وتحول دول أداءه لوظيفته الأساسية كساحة لتعبئة مدخرات الجمهور وتوجيهها نحو الاستخدامات الاستثمارية الصحيحة، وليس نحو المضاربة. ومن ثم فإن قوانين الإفصاح في البورصة ينبغي أن تكون شاملة وتسد كافة الثغرات التي يمكن ان تسمح باختراق البورصة على نحو يضر باستقرارها.



السبب الخامس هو أن قوانين الإفصاح التي تضمن استقرار السوق، سوف تعمل على تقليل الحاجة إلى تدخل الدولة من وقت لآخر لضمان استقراره. إذ غالبا ما تدعى الدولة إلى التدخل في حال حدوث انهيار في سوق الأوراق المالية وتراجع مستويات الثقة به، وذلك حفاظا على مصالح المتعاملين فيه، بصفة خاصة صغار المستثمرين وذلك من خلال إنشاء المحافظ الاستثمارية المناسبة لإنقاذ السوق من التردي، وعندما تتوافر الموارد المالية للدولة يسهل تكوين مثل هذه المحافظ، أما عندما تشح تلك الموارد تعجز الدولة عن التدخل على النحو المناسب مما يزيد من عدم استقرار السوق، أما عندما يكون السوق مقننا بحزمة متكاملة من قوانين الإفصاح والشفافية المدعمة بالعقوبات الصارمة في حالة المخالفة، فان احتمالات تعرض السوق للتقلب تقل من ثم تقل تكلفة تدخل الدولة في السوق من الناحية المالية.



السبب السادس هو أن قوانين الإفصاح والشفافية سوف تسهل التعرف على اتجاهات أداء البورصة بشكل أدق، ومن ثم يسهل تحليل مسببات ما يدور في البورصة، ويسهل بالتالي تحديد استراتيجيات التعامل مع تداعيات عدم استقرارها، أما عندما تتغير الأسعار لأسباب غير مفهومة وتجرى تعاملات لا ندري من أين مولت أو إلى أين ستذهب، فإن أبواب التلاعب بالسوق تنفتح على مصراعيها وتكون النتيجة ضياع ثروات الناس لمصلحة المتلاعبين بالبورصة. إن أفضل وسيلة لمنع تسرب المعلومات الداخلية هو فرض ضرورة إتاحتها على نحو متساو لجموع المتعاملين في البورصة، بحيث تكون هذه المعلومات متوازنة ومحايدة وخالية من أي تحيز، وبحيث يؤدي استخدامها إلى تحقيق أرباحا عادلة للجميع.



السبب السابع هو ضخامة الآثار المالية التي تترتب على أي تغير ولو بسيط في مؤشر البورصة، وعظم الآثار التي يمكن أن تنعكس من البورصة (أي من القطاع المالي) على القطاع الحقيقي في الاقتصاد، ذلك أن التجارب السابقة في العالم تشير إلى أن أي أزمة مالية غالبا ما تتحول إلى أزمة اقتصادية وذلك من خلال انتقال آثار الأزمة من البورصة إلى الجهاز الإنتاجي في الاقتصاد نظرا لانتشار التوقعات التشاؤمية، الأمر الذي يرفع من معدلات البطالة وازدياد حالات البؤس الاقتصادي.



باختصار فان سوق الأوراق المالية في أمسّ الحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى قانون محكم للإفصاح والشفافية يعالج أوجه قصور النظام الحالي للبورصة، وبصفة خاصة تلك المرتبطة بحرية التدفق المستمر والآني للمعلومات عن المعاملات التي تتم في البورصة وإمكانية تتبع مصادر التمويل للصفقات المختلفة، بحيث يسهل الكشف عن العمليات المشبوهة التي تهدف إلى الضغط على أسهم معينة ودفعها نحو الارتفاع أو دفعها نحو الانخفاض، ويسهل بالتالي كشف حقيقة ما يتم من تعاملات داخل السوق ، للتأكد من أن المعاملات لا تتم لمصلحة أطراف محددة، وأن هذه التعاملات تؤول في النهاية إلى يد من نص العقد عليهم، وبحيث يمكن التفرقة بين الصفقات التي تتم بدوافع استثمارية بحته هدفها الأساسي تعظيم الربح وتدنية المخاطرة والمرتكزة إلى التحليل الفني الصحيح، والصفقات التي تتم بدوافع انتهازية تهدف إلى التلاعب بالسوق وخلق حالة من عدم الاستقرار فيه حتى تسنح الفرصة لتحقيق أرباح غير عادية تضر بالسوق وباستقراره وبمصلحة المتعاملين فيه، ويدفع ثمنها صغار المتعاملين في السوق، وبحيث تتمكن إدارة البورصة على التدخل المباشر والحاسم لمنع تطور الأحداث داخل البورصة نحو التدهور الذي يضر بمصالح المتعاملين.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق