السبت، يناير ٢٣، ٢٠١٠

بدأ عهد التخطيط في الكويت

سعدت كثيرا بموافقة مجلس الأمة بالإجماع على خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية (الرباعية) التي تقدمت بها الحكومة هذا العام، والتي يفترض أن يبدأ تنفيذها في حال الموافقة النهائية عليها من أول ابريل القادم لكي تتماشى مع موعد بدأ الميزانية العاملة للدولة، حيث يفترض أن يكون هناك توافقا بين أبواب الإنفاق والإيرادات في الميزانية العامة وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، حسب نص المادة 3 من قانون التخطيط رقم 60 لسنة 1986 وهو ما يقتضي ضمنا أن تكون فروض الخطة حول اتجاهات أسعار النفط وتطور الإيرادات العامة للدولة ونفقاتها متطابقة تماما مع تلك الفروض التي تضعها وزارة المالية عند إعداد مشروع الميزانية العامة للدولة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في الكويت، وهي مرحلة التخطيط الفعلي وسير الدولة بكافة قطاعاتها على خطة تنمية محددة الرؤى والمستهدفات والسياسات والبرامج. قبل ذلك كانت وزارة التخطيط (سابقا) تعد الخطط الخمسية ولكنها لا تجد طريقها للتنفيذ، ربما لرفضها، أو لتأخر تقديمها، أو لأنها أقل من الطموح إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الأسباب، حتى انتهى الأمر بتحويل وزارة التخطيط إلى الأمانة العامة للتخطيط، وأيا كان السبب فمما لا شك فيه أن إقرار الخطة الحالية يعد خطوة هامة جدا للاقتصاد الكويتي لعدة أسباب سنحاول اختصارها في هذا المقال:


أولا: صحيح أن الكثير من دول العالم لا تسير وفق خطط خمسية للتنمية، ولكن في أغلب الأحوال تكون الأوضاع التنموية في هذه الدول مستقرة، أو تكون قد انتهت من البني التحتية اللازمة لانطلاق اقتصادياتها في أوضاع تنافسية مناسبة، أو قد تكون بلغت مستويات متقدمة من النمو تضمن أن آليات السوق سوف توزع الموارد بصورة تضمن استدامة النمو وتوزيع ثماره بدرجة كبيرة من العدالة بين جموع الناس وتساعد على خلق فرص عمل كافية، أو ربما ليس لديها القدرات والخبرات اللازمة لصياغة وتنفيذ مثل هذه الخطط. غير أنه بالنسبة للدول النامية مثل الكويت فإن آليات السوق قد لا تعمل بالصورة التي تمكن من تحقيق المستهدفات الأساسية اللازمة لإحداث التغير الهيكلي المطلوب في الاقتصاد والمجتمع، لذا تحتاج الدولة إلى التوجيه المباشر وغير المباشر للموارد بالصورة التي تضمن تحقيق المستهدفات المطلوبة للتنمية وذلك في ظل تحليل مكثف للأوضاع الحالية للتنمية وتحليل الفجوات المختلفة لبيان أوجه الضعف والخلل ومن ثم تصميم السياسات الكفيلة بمعالجة أوجه الخلل المختلفة ووضح الإجراءات التفصيلية اللازمة لذلك في إطار برنامج محكم لمتابعة وتقييم التنفيذ.

ثانيا: أن وضع وإقرار خطة للتنمية هو أحد متطلبات النظام القانوني في الكويت، والذي لم يتم استيفاؤه خلال الربع قرن الماضي، حيث تنص المادة الأولى من القانون رقم 60 لسنة 1986 الخاص بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي على الآتي "توضع خطة قومية شاملة طويلة الأجل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ترتكز على الإستراتيجية العامة للدولة وتتضمن أهدافاً رئيسية محددة يمتد بعدها الزمني إلى المدى الطويل، وتقسم هذه الخطة إلى خطط متوسطة الأجل يتفرع منها خطط سنوية تفصيلية، لكل منها أهدافها المرحلية وبيانات تحقيقها، وتعبأ لها جميع الموارد المالية والبشرية وتتوافر لها المرونة الكافية لمواجهة ما يجد من متغيرات أو تطورات تقتضي تعديل الأهداف المبتغاة"، معنى ذلك ان وضع تلك الخطط وتنفيذها هو متطلب قانوني بالدرجة الأولى، وأن عدم وضع وتنفيذ خطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدولة خلال الربع قرن الماضي يعد أمرا مخالفا لهذا القانون.

ثالثا: لا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد في العالم ما يسمى بخطة التنمية التي تتماشى مع الطموح، حتى في أعتي الدول التي تنتهج من التخطيط أسلوبا لتسيير الاقتصاد، فلن تتمكن الجهات القائمة على التخطيط من تسطير تلك الخطة التي تتماشى مع توقعات الجميع وطموحاتهم حول المستقبل ورؤيتهم حول ما يجب أن تكون عليه الأوضاع في الدولة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية في أي دولة في العالم، ومن ثم فمهما بذلت الأمانة العامة للتخطيط من جهد في إعداد الخطة، سوف تظل دائما تطلعات المجموعات المختلفة في المجتمع تتجاوز القدرة على التخطيط لها، أو على الأقل القدرة على تنفيذ تلك التطلعات، ومن ثم فلا بد وأن نسمح بقدر من القصور في أي مشروع يقدم للخطة، على أن نقوم بمحاولة تعديل ذلك القصور وتطوير الخطة شيئا فشيئا في المستقبل.

رابعا: إن سير الكويت على خطة محددة، أيا كان مستواها، حتى لو كانت أقل من مستوى الطموح هو بالتأكيد أفضل بمراحل من سير المجتمع بلا رؤى واضحة وبلا خطة محددة المعالم وبلا مستهدفات كمية محددة سلفا حول معدلات النمو المستهدفة واتجاهات النمو العام ونسب مشاركة القطاعات الاقتصادية المختلفة والهيكل المناسب لقوة العمل وتوزيعها على القطاع المختلفة في الاقتصاد، بصفة خاصة بين القطاعين الحكومي والخاص، والهيكل المناسب للسكان وتركيبتهم من حيث الجنسية إلى أخر هذه القائمة الطويلة من المستهدفات التي تشملها الخطة. صحيح أن الحكومة حاليا تقدم عند تشكيلها لمجلس الأمة برنامجا لعملها يسمى "برنامج عمل الحكومة"، ولكن مشكلة برنامج عمل الحكومة أنه يتغير مع تغير الحكومات، ومن ثم يمكن ان نجد أكثر من برنامج عمل للحكومة في ذات السنة، لو تغيرت الحكومة، فضلا عن أن برنامج عمل الحكومة لا يتسم بالشمول الذي تتسم به الخطة، ومن ثم لا يعد أداة فعالة لمتابعة أداء الحكومة على المستوى الكلي.

خامسا: إن إقرار الخطة سوف يقدم لمجلس الأمة أداة رقابة ومتابعة فعالة لبرامج الحكومة ومستهدفاتها حول القطاعات المختلفة في الوطن والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وتطورات الاقتصاد المحلي واتجاهاته. أكثر من ذلك يستطيع المجلس الآن المشاركة بصورة أكثر فعالية في تحديد الاتجاهات العامة للخطة القادمة ومستويات مستهدفاتها والوقوف على مناطق الخلل المختلفة في الأوضاع الاقتصادية للدولة، واقتراح السبل لكيفية معالجة أوجه القصور في التنفيذ وكيفية رفع مستويات الأداء الاقتصادي بشكل عام والأداء الحكومي بشكل خاص، باختصار فإن المستفيد الأول من الخطة هو مجلس الأمة كمؤسسة تشريعية ورقابية.

سادسا: إن تنفيذ الخطة سوف يكشف عن أوجه القصور والخلل الحقيقي في كافة القطاعات المختلفة، ويكشف مستويات الكفاءة واللا كفاءة التي توجد في كل جهاز من أجهزة الدولة، وتوضح مواطن الضعف في الإدارة الحكومية والمسئولين عن ذلك تمهيدا لوضع السبل المناسبة لرفع كفاءة الأجهزة التنفيذية المختلفة. غير أنه تجب الإشارة إلى أنني لا أتوقع أن يكون تنفيذ المستهدفات ومتابعة الأداء للخطة الحالية على المستوى المطلوب، خصوصا وأن هذه هي أول مرة توضع فيها خطة التنمية للدولة موضح التنفيذ، ومما لا شك فيه أن الحكومة سوف تحتاج إلى بعض الوقت ليتكون لديها تجربة وخبرة مناسبة في تنفيذ خطة التنمية للدولة، ومن ثم لا ينبغي أن نصاب بالإحباط إذا ما جاءت مستويات التنفيذ أقل مما هو مأمول.

سابعا: إن وضع الخطة موضع التنفيذ سوف يجبر الحكومة على العمل على إيجاد آليات على أعلى مستوى للتنفيذ والمتابعة، سواء من خلال تشكيل جهاز مستقل لمتابعة تنفيذ مستهدفات الخطة وبرامجها في القطاعات المختلفة أو من خلال آليات أخرى لتقييم مستويات الأداء وتحديد معوقات التنفيذ واقتراح الحلول المناسبة لمعالجة تلك المعوقات والتفكير في ابتكار أساليب ووسائل فعالة لضمان التنفيذ الجيد والمتابعة المناسبة للخطة، وهو ما يعمل على ضمان نظم فعالة للتغذية العكسية التي تساعد على تقويم عمليات التنفيذ وفقا للجداول الزمنية المحددة.

ثامنا: إن إقرار الخطة سوف يعزز الدور الذي يلعبه المجلس الأعلى للتخطيط والأمانة العامة للتخطيط، لتحتل تلك المؤسسات الأهمية التي تستحقها في تحديد مسارات واتجاهات النمو وبرامجه والوصول بالمرئيات حول الاقتصاد والمجتمع الكويتي إلى أفضل حالاتها، كما أن عملية تنفيذ الخطة سوف تساعد على تطوير عملية التخطيط لاحقا من خلال سعي الأمانة العامة للتخطيط للاستعانة بأفضل الخبرات العالمية في مجال التخطيط والمتابعة للخطط التنموية، بما في ذلك استخدام النماذج الاقتصادية القياسية الفعالة ونماذج التوازن العام التي تضمن تحديد المستهدفات العامة للخطة بدقة وواقعية أكثر أخذا في الاعتبار العلاقات التشابكية بين القطاعات المختلفة وآثار البرامج على مستهدفات النمو ومستويات التوظيف، وهيكل السكان، ومتوسط نصيب الفرد من الناتج إلى آخر هذه القائمة الطويلة من المستهدفات التي عادة ما تتضمنها خطط التنمية.

تاسعا: سوف تحتاج الخطط القادمة إلى معالجة موضوعات في غاية الحساسية، مثل إعادة هيكلة المالية العامة للدولة، وتبني برنامج مناسب للإصلاح المالي من خلال النظر في تعديل هيكل الرسوم على الخدمات التي تقدمها الدولة، وإعادة تسعير السلع العامة بحيث تقترب من مستويات التكاليف التي تتحملها الدولة في سبيل إنتاجها وتوزيعها بما يساعد على ترشيد استهلاك تلك السلع، والحد من الدور المكثف الذي تلعبه الدولة في الحياة الاقتصادية من خلال إفساح المجال بصورة أكبر أمام القطاع الخاص والمشترك في أن يتولى قيادة عمليات الاستثمار والإنتاج والتوظيف، وأن تبدأ الدولة في عمليات التخلص من أجهزتها الإنتاجية الغير فعالة بتحويلها إلى القطاع الخاص سواء بنقل الملكية أو الإدارة، أخذا في الاعتبار الانعكاسات على الفئات الدخلية المنخفضة، ولتحقيق مشاركة أكثر عدلا في الخدمات العامة التي تقدمها الدولة لجموع المواطنين، ومازال أمامنا الكثير من القضايا التي تحتاج إلى معالجتها بصورة جدية ومتابعة تلك المعالجة من خلال خطط واضحة المعالم وقابلة للتنفيذ، مثل هيكل الناتج وتوزيعه، وهيكل السكان، وهيكل العمالة توزيعه بين القطاعين العام والخاص، ومشكلة التوظيف في القطاع الحكومي الى آخر هذه القضايا الشائكة التي سيتم تناولها بصورة أو بأخرى إما في الخطة الحالية أو في الخطط التالية.

وأخيرا فإنه بما إن عملية التخطيط هي عملية مستمرة وديناميكية بالأساس، أقترح على المجلس الأعلى للتخطيط والأمانة العامة للتخطيط البدء في الإعداد للخطة التالية من الآن، ضمانا لاستطلاع آراء الشخصيات المهمة والتجمعات الأساسية وذوو الخبرة المناسبة محليا وعالميا، حول رؤى الخطة القادمة ومستهدفاتها وسياساتها العامة وبرامجها، وللتأكد من إجراء عمليات التقدير القياسي للنماذج، سواء النماذج الاقتصادية الكلية أو مصفوفة الحسابات القومية SAM على نحو مناسب يضمن إفساح المزيد من الوقت لوضع السيناريوهات المناسبة لفترة الخطة وتقييم تلك السيناريوهات بشكل أوسع واختيار السيناريو الأكثر مناسبة مع التوجهات العامة للمجتمع والتغيرات المتوقع حدوثها محليا واتجاهات النمو في الاقتصاد العالمي وانعكاسات ذلك على أسعار النفط، ولإجراء الاختبارات اللازمة لتلك النماذج للتأكد من سلامة الفرضيات التي قامت عليها عمليات القياس، ومن ثم سلامة ومعقولية النتائج التي سيتم التوصل إليها، ولكسب المزيد من الوقت لإطلاع المختصين على نتائج النماذج وتجميع الملاحظات حولها تمهيدا لإعادة الحسابات مرة أخرى، وبحيث يبقى مشروع الخطة مفتوحا للتعديل أطول فترة ممكنة، وكذلك للتأكد من الانتهاء من إعداد الخطة قبل موعدها بفترة كافية لتخضع بعد ذلك للمناقشات المكثفة حول إطارها العام من قبل الجهات والمجموعات المختلفة ولإجراء التعديلات التي تتوافق مع التوجهات العامة لتلك المجموعات وتطلعاتها حول مسار الاقتصاد والمجتمع الكويتي خلال الفترة القادمة، وكذلك لإفساح المجال لإدخال التعديلات اللازمة في ضوء النتائج التي تترتب على تنفيذ الخطة الحالية من ايجابيات وسلبيات، وذلك كله قبل أن يتم تقديم الخطة القادمة إلى مجلس الأمة لإقرارها.


هناك تعليقان (٢):

  1. بارك الله فيك دكتور..
    نأمل أن تكون بداية عهد جديد للدولة والتنمية ، وأن تدخل مرحلة التنفيذ بأسرع وقت ممكن ، لأن الكل متعطش للتنمية الواعية والمنهجية.
    جزاك الله خير دكتور على تحليلك العميق اللي عودتنا عليه.

    ردحذف