إن ارتفاع مستويات الدين الأمريكي ليست ظاهرة جديدة على الولايات المتحدة، فقد وصل الدين الأمريكي إلى مستويات حرجة بعد الحرب العالمية الثانية، ومنذ بداية الأزمة المالية العالمية والكساد الذي تبعها أخذت معدلات النمو في الدين الأمريكي في التزايد متجاوزة معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أدى إلى تصاعد نسبة الدين إلى الناتج على نحو كبير متجاوزة نسبة الـ 100 في المائة للمرة الثانية في التاريخ الأمريكي في أواخر العام الماضي.
لقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية بدين ضخم بلغ في عام 1946 271 مليار دولار. ربما يستصغر القارئ هذا الرقم، وذلك مقارنة بالأرقام الحالية للدين العام الأمريكي، لكن على القارئ ألا يندهش عندما يعلم أن هذا الدين هو أضخم مستوى للدين العام في التاريخ الأمريكي حتى اليوم، فقد بلغت نسبة هذا الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 121.7 في المائة في ذلك العام، لم يحدث في التاريخ الأمريكي أن بلغ الدين العام هذه المستويات المرتفعة كنسبة من الناتج إلى اليوم.
لتقريب الصورة لا بد أن نعلم أن الدولار في ذلك الوقت كانت قوته الشرائية مرتفعة، فقد كانت أوقية الذهب في ذلك الوقت تساوي 35 دولارا فقط، من ناحية أخرى، كان حجم الاقتصاد الأمريكي في ذلك الوقت أيضا صغيرا نسبيا مقارنة بالوضع الآن، لدرجة أن هذا الدين قد مثل جبلا ضخما من الديون على الاقتصاد الأمريكي، وثار التساؤل الأساسي في ذلك الوقت، كيف ستتمكن الولايات المتحدة من سداد هذا الدين؟
بمرور الوقت مالت نسبة الدين الفيدرالي إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو التراجع بصورة واضحة، ففي عام 1948 تراجعت نسبة الدين الفيدرالي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 100 في المائة، ومع استمرار تزايد نمو الناتج الأمريكي تراجعت نسبة الدين إلى الناتج حتى بلغت أدنى مستوى لها في عام 1981، حيث مثل الدين الفيدرالي نحو 32.5 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أدنى نسبة للدين إلى الناتج في التاريخ الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، فهل قامت الولايات المتحدة بسداد هذا الجبل من الديون بالفعل؟ وهل انخفض الدين العام الأمريكي من الناحية المطلقة؟ ربما يدهش القارئ عندما يعلم أن الإجابة هي لا، لم تقم الولايات المتحدة بسداد ديونها، ففي هذا العام ارتفع الدين من الناحية المطلقة حتى بلغ إجمالي الدين الفيدرالي في هذا العام نحو 995 مليار دولار، أي ما يقارب أربعة أضعاف مستواه في 1946، بل ويتخطى عتبة التريليون دولار في العام الذي يليه.
إذا كان الوضع كذلك فما الذي حدث؟ وفقا للبيانات التاريخية التي ينشرها المكتب التنفيذي لرئيس الولايات المتحدة عن ميزانية حكومة الولايات المتحدة، فإن القيمة المطلقة للدين الأمريكي أخذت في التراجع بعدة مليارات للدولارات حتى بلغت نحو 252 مليار دولار في عام 1948، ثم أخذت قيمة الدين في التصاعد السريع بعد ذلك، وفي عام 1954، أي بعد ثمان سنوات فقط، عاد الدين الفيدرالي إلى مستوياته عام 1946. معنى ذلك أن الولايات المتحدة لم تقم بسداد ديونها، بل أخذت هذه الديون في التصاعد بعد ذلك، ووفقا للبيانات التاريخية بلغ الدين الفيدرالي 381 مليار دولار في عام 1970، وفي عام 1982 تجاوز الدين الفيدرالي حاجز التريليون دولار كما سبقت الإشارة، حيث بلغ 1137 مليار دولار. في عام 1990 بلغ الدين الفيدرالي 3.2 تريليون، وفي عام 2007 قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية بلغ الدين الفيدرالي نحو تسعة تريليونات دولار، ثم أخذت معدلات النمو في الدين الفيدرالي في التسارع حتى بلغ حاليا نحو 16.5 تريليون دولار، حيث تمت إضافة نحو سبعة تريليونات دولار في غضون خمس سنوات فقط.
والآن ماذا تعني هذه الأرقام؟ إنها تعني ببساطة مرة أخرى أن الدين العام الأمريكي لا يتراجع من الناحية المطلقة، أو بمعنى آخر ما يؤكد الفكرة الأساسية لهذا المقال من أن أمريكا لا تسدد ديونها، وإنما تزيد من اقتراضها لديون جديدة عاما بعد عام، وأن الدين الفيدرالي غير قابل للتخفيض من الناحية المطلقة بشكل عام، ولكن إذا كان الوضع كذلك كيف يقال: إن الدين الفيدرالي الأمريكي تراجع من أعلى مستوياته بعد الحرب العالمية الثانية؟ وهل سيستمر الدين الفيدرالي الأمريكي في الزيادة إلى ما لا نهاية؟
لشرح الموضوع بصورة أبسط لا بد وأن نشير إلى أننا عندما نقوم بتحليل المخاطر التي يمثلها الدين العام في اقتصاد ما لا نهتم بحجم الدين من الناحية المطلقة، وإنما ننظر دائما إلى المعيار الأهم عند تحليل عبء الدين وهو نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، حيث ينظر باهتمام شديد إلى نسبة نمو الدين مقارنة بنسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي لمعرفة اتجاهات نسبة الدين إلى الناتج. فإذا كانت نسبة النمو في الدين أقل من نسبة نمو الناتج أو تساويها، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستميل نحو التراجع أو الثبات، الخطر الحقيقي الذي يواجه الدولة هو أن يكون معدل نمو الدين أعلى من معدل نمو الناتج لفترة طويلة من الزمن، في هذه الحالة ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وترتفع بالتبعية نسبة خدمة الدين إلى الناتج ومن الممكن أن تتجاوز قدرة الاقتصاد على خدمة ديونه، فتضطر الدولة إلى إعلان توقفها عن خدمة ديونها، وهو ما يعتبر من الناحية الفنية بمثابة إعلان إفلاس الدولة.
ولكن كيف نحكم على ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي؟ هناك بشكل عام اتفاق على أنه طالما أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في حدود 60 في المائة من الناتج، حيث يظل الدين العام بشكل عام في حدود آمنة بالنسبة للدولة، غير أن ذلك لا يمنع من أن تلجأ الدولة لإعلان إفلاسها عند مستويات أقل من هذه النسبة، خصوصا إذا كانت معدلات الفائدة على الدين العام للدولة مرتفعة، وقد حدث أن أعلنت دول إفلاسها عند مستويات أقل من هذه النسبة. إذن حتى مع هذا المستوى الآمن يمكن أن تحيط مخاطر الدين بالدولة، فما العوامل الأخرى التي تؤثر على استدامة الدين العام للدولة عند مستويات آمنة؟
مرة أخرى فإن كتب النظرية الاقتصادية تخبرنا بأن هناك عاملين مهمين يؤثران في قدرة الدولة على خدمة ديونها، واتجاهات نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وهما معدل الفائدة الحقيقي على الدين ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. فبشكل عام إذا كان معدل الفائدة الحقيقي على الدين أقل من معدل النمو في الناتج فإن نسبة الدين العام إلى الناتج تميل نحو التراجع، خصوصا إذا كانت الميزانية العامة للدولة تحقق فائضا. أما إذا كان معدل الفائدة الحقيقي أعلى من معدل نمو الناتج فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستميل نحو التصاعد بصفة خاصة إذا كانت الميزانية العامة للدولة تواجه عجزا.
ما الذي نتوصل إليه من هذا التحليل؟ الإجابة هي أنه يكفي الدولة أن تدفع معدلا مناسبا للفائدة على دينها العام، لكي تضمن استدامة دينها في الحدود الآمنة، وكما يتضح مما سبق فإن المعدل المعقول للفائدة هو معدل يقل عن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وهو بالفعل ما تفعله الولايات المتحدة حاليا، حيث تنخفض معدلات الفائدة بصورة واضحة، لدرجة أن معدلات الفائدة الحقيقية على بعض أنواع الدين الأمريكي سالبة.
والآن نعود إلى السؤال الأساسي وهو هل ستسدد الولايات المتحدة ديونها يوما ما؟ الإجابة كما أثبتنا من التحليل التاريخي للدين الأمريكي ومفهوم الحدود الآمنة للدين العام هي لا! لن تسدد الولايات المتحدة ديونها، وسيستمر الدين الأمريكي في التصاعد من الناحية المطلقة، ولكن هل من دليل يؤيد هذه المزاعم التي ذهب إليها المقال؟ لحسن الحظ أنه وأثناء كتابة هذا المقال أن مكتب الميزانية في الكونجرس الأمريكي قد أصدر آخر تقاريره حول الاتجاهات العامة للميزانية الأمريكية خلال الفترة من 2013 حتى 2023، وكما توقعت، لقد قدر مكتب الميزانية في الكونجرس الأمريكي حجم الدين العام الأمريكي في عام 2023 بنحو 26 تريليون دولار، أي بزيادة عشرة تريليونات دولار عن مستوياته الحالية. هل هذه أخبار سيئة؟ ربما يندهش القارئ عندما يعلم أن الإجابة هي لا! لأنه ووفقا لتقديرات مكتب الميزانية في الكونجرس في عام 2023 ستتراجع نسبة الدين الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 104 في المائة اليوم إلى 69 في المائة فقط في عام 2023.