الثلاثاء، مايو ١١، ٢٠١٠

مشهد مؤثر

عزيزي القارئ هل يمكن في يوم من الأيام أن تتخيل أن ترى مدارسنا على هذا النحو، وفصولنا بهذه الصورة، وماذا يمكن أن تتوقع أن يفعل أبناءنا إذا أجبرناهم على ان يجلسوا في مثل هذه الفصول الدراسية ليتعلموا العلم على هذا الوضع غير المريح، وهل يمكن أن يقبل مدرسونا أن يقوموا بالتدريس في مثل هذه الصفوف، من المؤكد أن الإجابة سوف تكون لا، إن مدارسنا تغلق أبوابها في بعض الأحيان وتتعطل العملية التعليمية لأن التكييف به مشكلة. لقد حدث ذلك بالفعل في كلية العلوم الإدارية هذا العام عندما كان التكييف معطلا أن ترك الطلبة والأساتذة والموظفين الكلية حتى يتم إصلاح التكييف. هل يمكن أن يدور بخلد أحد منا أن هناك فصولا في العالم تدار على هذا النحو. الفصل التعليمي الذي ترونه في الصورة التالية مصنوع من شجر البامبو وبسقف مغطى بالقش وليس به أي كراسي للجلوس عليها سوى الأرض الجامدة الصلبة والقاسية على أجساد هؤلاء الصغار، وليس هناك أي منضدات خشبية للطلبة لكي يكتبون عليها، أو لكي يضعوا فيها حقائبهم، لا بل إنهم لا يحتاجون تلك المنضدات أصلا، لأنهم ببساطة شديدة ليس لديهم حقائب مدرسية، ليس هناك ملاعب مدرسية أو غرفة لممارسة الجمباز، أو معمل لإجراء التجارب العلمية، أو كانتين للحلويات والسندوتشات، باختصار شديد ليس هناك شيء، هل يمكن أن تتصور أن هناك مدرسة في القرن الواحد والعشرين بهذه الحالة، ومع ذلك فإن الخبر السعيد أنه هناك تعليم والخبر والأجمل أنه هناك رغبة شديدة في التعلم وهذا هو الأهم.


لقد وقفت أمام الصورة التي تشاهدها أمامك في هذا المقال طويلا أبكي وأنا أرى أطفالا تتوقد عيونهم بالذكاء وتشتعل لديهم الرغبة في التعلم في أي وضع وتحت أي ظروف، أنظر إلى هذه الوجوه الجميلة البريئة وهي تقول لك في منتهى القوة والحسم إننا عازمون على أن نكون شيئا في المستقبل، حتى برغم كل الظروف التي حولنا والتي تحاول أن تقهرنا، سوف نقهرها ونتعلم لنحمل في أذهاننا مبادئ اللغة والرياضيات والعلوم وغيرها لنستعين بها على بناء مستقبل أفضل لنا، ومن المؤكد أننا سوف نوجد لأبنائنا وبناتنا من بعدنا ظروفا أفضل يتعلمون فيها، أفضل كثيرا من تلك التي نتعلم فيها نحن الآن. أنا متأكد من أن هؤلاء سوف يقهرون ظروفهم، وسيكونون شيئا ما في المستقبل، ولم لا، إنها نفس الظروف التي عاشها طه حسين عندما كان صغيرا في الكتاب في بلدته في الصعيد قبل أن يصبح بعد ذلك عميدا للأدب العربي وهو كبير.

المصدر السابق.
إذا لم تصدقني انظر إلى هذه الصورة، إنها لنفس الفصل ولنفس المشروع، ولكن انظر إلى ما هو معلق على حائط البامبو (اقصد حائط الفصل) إنها رسوماتهم في فصل التربية الفنية، رسموها وهم يستندون إلى الأرض، بإمكانياتهم المتواضعة صنعوا هذا الجمال الأخاذ من لا شيء تقريبا، ورودا جميلة وأشجارا زاهية وفاكهة متنوعة وطيور ملونة وأوراق شجر بديعة، لا بد أنها مشاهد رأوها في أحلامهم وأخرجوها للعالم في هذه الفصول المتواضعة، بالله عليك هل رأيت هذا الإبداع في مدارسنا بإمكاناتها الهائلة، إنها الإرادة والموهبة العازمة على سحق الظروف مهما اشتدت والإمكانيات مهما ضعفت. بل دقق النظر فيهم ستجد أنهم يرتدون زيا موحدا، وهو رغم كل هذه الظروف نظيف وجميل معا.
عزيزي القارئ هذه مدارس الاناندا أو مراكز التعليم التي أنشأها البنك الدولي في بنجلاديش في إطار مشروع اسمه "الوصول إلى الأطفال خارج المدارس" Reaching Out-of-School Children ROSC أتعرف ما هي ترجمة مدارس الاناندا، إنها "مدارس البهجة" حيث يهدف البنك الدولي إعطاء فرصة أخرى لهؤلاء المساكين الذين لم يستطيعوا الالتحاق بالمدارس ليلحقوا بقطار التعليم قبل أن يفوتهم، وبدلا من أن يصبحوا أميين في القرن الواحد والعشرين، حيث ستنقرض الأمية من العالم، يتمكنوا من الحصول على فرصة لمواصلة التعليم، ويواجهوا التحديات الرهيبة لهذا العصر القادم، حيث شبح التكنولوجيا الرهيب يتحكم في مسار كل ما يحيط بنا، وحيث تتحول الاقتصاديات من مجرد اقتصاديات للإنتاج إلى اقتصاديات للمعرفة، حيث ترتكز التنافسية على الابتكار القائم على المعرفة.
في أكثر من 60 مكانا في بنجلاديش يلتحق أكثر من نصف مليون طفل فقير بهذه المراكز، هؤلاء الأطفال غير المحظوظين اجبروا على ترك التعليم إما لأن أسرهم فقيرة جدا ولا تستطيع ان تدبر نفقات ذهابهم إلى المدرسة، وأما لأنهم اجبروا على ترك المدرسة لكي يلتحقوا بعمل يساعدون من خلاله أسرهم الفقيرة ماديا، أو لأنهم يقيمون في مناطق نائية لا تصلهم فيها تسهيلات التعليم من مدارس ونحوه. في الدول الفقيرة ينظر إلى الأطفال على أنهم احد الأصول المالية للأسرة، وأحد مصادر توليد الدخول لها، بل ووثيقة التأمين للآباء عندما يصلون إلى سن التقاعد وهم على قيد الحياة، لذلك رغم الفقر المدقع تجد أن إقبال الأسر على الإنجاب كبير، والسبب هو أنهم يحاولون من خلال الإنجاب تحسين ظروفهم المادية عندما يلتحق أطفالهم بالعمل. عمالة الأطفال مشكلة كبيرة في الدول النامية الفقيرة لأنها تحرم تلك الدول من تكوين قوة عمل متعلمة ومدربة تمكنها من أن تنافس في عالم شرس. التعليم في عالم اليوم أحد مؤشرات التنمية الاقتصادية، وسهولة الوصول الى التعليم ومعدلات القيد فيه أحد أهم السياسات التي تركز عليه الدول في عالمنا اليوم، وتشير التقارير الدولية في مجال التنمية البشرية أن الفروق بين الدول المتقدمة وغيرها تكمن في الفروق بين طبيعة النظم التعليمية السائدة وسهولة الوصول اليها ومعدلات القيد بها، ومعدلات الانفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي، ونصيب الفرد من هذا الانفاق، وكثافة الفصول الدراسية ومعدلات الطلبة لكل مدرس، ومدى انتشار الوسائل التكنولوجية الحديثة للتعليم في المدارس ودرجة توافر خدمات الانترنت في المدرسة، ولكن كل هذه المؤشرات بعيدة تماما عن مراكز الاناندا في بنجلاديش.
مشروع "الوصول إلى الأطفال خارج المدارس" يعطي هؤلاء الأطفال إعانة مادية شهرية لتقليل أعباء التحاق هؤلاء الأطفال بالتعليم على أسرهم ويساعد على القضاء على الفرصة الضائعة على الأسر نتيجة السماح بتعليم أبناءهم، ويقدم لهم الكتب مجانا والأدوات المدرسية والزى المدرسي مجانا. في مدارس الأناندا حيث يتجمع في كل مركز تعليم ما بين 20-30 طالبا بهدف إعادة دمج هؤلاء الأطفال مرة أخرى في النظام التعليمي الرسمي، في هذه الفصول يتعلم هؤلاء الأطفال اللغة الانجليزية والرياضيات واللغة البنغالية بطريقة مبتكرة تدخل البهجة في نفوس هؤلاء التعساء (أي بنفس الطريقة التي يوحي بها اسم مدرستهم)، لتوفر فرصة لهؤلاء المساكين للهروب لبعض الوقت من الواقع الأليم الذي يعيشون فيه، وتمنحهم الفرصة والأمل والجرأة على الحلم بحياة وواقع أفضل، وتعطيهم التصميم على تحدي الواقع الذي زرعتهم ظروفهم فيه.
عزيزي القارئ، هل تعتقد أن الله سبحانه وتعالى سوف يتركنا يوم القيامة بدون أن يسألنا عن إخواننا هؤلاء الذين تركناهم للبنك الدولي ليعطف عليهم بدلا منا. ترى كم هي تكلفة فصل مدرسي من البامبو، بل ما هي تكلفة بناء مدرسة متكاملة في قرية مثل هذه القرية التي ينقل لنا البنك الدولي صورة هذا الفصل الدراسي منها، ترى كم نستطيع من المدارس أن نبني لهؤلاء، إنها أسئلة كثيرة تدور في ذهني بعد أن رأيت هذا المشهد المؤثر. أسأل الله لي ولكم العفو والعافية، والسلامة في الدنيا والآخرة لنا ولأسرنا ولجميع إخواننا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق