من وقت لآخر تعلن الحكومة المصرية عن بيع باقي أصول القطاع العام حتى تغسل يديها من عبارة القطاع العام ليصبح الجهاز الإنتاجي والمؤسسات المرتبطة به بالكامل ملكا للقطاع الخاص، ومن ثم يكون برنامج الخصخصة قد انتهى بالكامل. بيع القطاع العام بالكامل ينهي السياسات التي اتبعتها حركة يوليو 1952، بتمصير وتأميم المشروعات الرأسمالية في مصر بحجة القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وهو أحد مبادئ حركة يوليو 1952، وذلك في إطار ما أسمي بالثورة الاشتراكية في مصر، حيث تم تنحية رجال الأعمال في ذلك الوقت عن إدارة المؤسسات التي كانوا يملكونها وتم تأميمها أي تحويل ملكيتها بالقوة الجبرية من القطاع الخاص الى القطاع العام، وإسناد مهمة إدارة معظم هذه المشروعات لمجموعة من عساكر الحركة، وبدأت حركة يوليو في تسيير الاقتصاد المصري بسياسة “صفا و انتباه”، غير انه سياسات "صفا وانتباه" لا تصلح لإدارة الأصول والثروات الاقتصادية التي تتطلب تشجيع المبادرة والابتكار وتبني سياسات تهدف إلى دعم المركز التنافسي للوحدات الاقتصادية، فتحولت مصانع المحلة الكبرى للنسيج على سبيل المثال من مصانع لإنتاج ارقي أنواع النسيج في العالم، والذي يصدر معظمه إلى الخارج، إلى مصانع إنتاج “الكستور” الرديء (نوع من الأقمشة القطنية تصنع منه بيجامات النوم) والذي لم تجد الحكومة في بعض الأوقات بدا من التخلص من مخزونه سوى توزيعه من خلال بطاقات التموين بسعر 16 قرشا للمتر، من المؤكد أن طلعت حرب لم يكن ليسمح بأن تصل الأمور في مصانعه، التي نبيعها الآن بعد تأميمها، إلى هذا المستوى المتردي. من المؤكد أيضا انه في ظل إدارة طلعت حرب وخلفاؤه لم تكن الأمور ستسير على هذا النحو السيء، من المؤكد أنه في ظل ادارة طلعت حرب وخلفاؤه أن مصانع غزل المحلة كانت ستستمر كأرقى مصانع الغزل والنسيج في العالم، وبدون أي دعم مادي من الحكومة مثلما كانت في عهده، وليست “تكية” تستخدمها الحكومات لتوفير فرصة عمل.
ما هي المشكلة إذن في بيع ما تبقى من أصول القطاع العام إلى القطاع الخاص، أليس القطاع الخاص أكفأ في إدارة الموارد الاقتصادية من القطاع الحكومي، الإجابة هي نعم، إلا أننا يجب أن نحذر عند الحديث عن القطاع الخاص في مصر، عن أي نوع من القطاع الخاص نتحدث. دعنا نتناول مثالا واحدا، ماذا حدث لسلسلة محلات عمر أفندي بعد بيعها، كنا نتوقع حدوث تحول هائل في فلسفة السلسلة، وعودتها مرة أخرى إلى سلسلة من المحلات الفاخرة، مثلما كانت في عهد مؤسسها، قبل تأميمها. عندما تدخل محلات عمر أفندي اليوم تجد أن التغيير الوحيد الذي حدث هو لون طلاء سلسلة محلات عمر أفندي وطريقة كتابة اسمها، أما نوع البضائع، أسلوب العرض، طريقة التسويق، أسلوب التعامل مع الزبائن، فهي ذاتها. ماذا كان يقصد إذن مشترو سلسلة عمر أفندي، من المؤكد أن الاستحواذ على السلسلة باعتبارها علامة تجارية لم يكن هو القصد من عملية الشراء، ربما تكون الأصول العقارية التي تملكها والتي قد تساوي أضعاف الثمن الذي بيعت به، لا أحد يدري.
عندما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات عن تبني ورقة أكتوبر في 1974 لتحرير الاقتصاد المصري من مبادئ حركة يوليو، وبدء سياسة الانفتاح الاقتصادي، كانت الرأسمالية المصرية، التي عاشت قبل الحركة في 1952، قد قضي عليها تماما في خضم قرارات الثورة الاشتراكية لمصر، وبدأنا نسمع عن أسماء جديدة لرجال الأعمال لم نألفها قبل انطلاق حركة يوليو، كيف كون هؤلاء ثرواتهم؟ كيف أصبحوا رجال أعمال لهم هذه السطوة والسيطرة في المجتمع؟ لم يحقق أحد في ذلك. نمت الرأسمالية المصرية الخاصة بسرعة البرق، ولكن بأي مبادئ وبأي سلوك. إنها نفس المبادئ التي كونوا على أساسها ثرواتهم في عصر الانفتاح وما تلاه من فوضى، فوضى تجارة السوق السوداء، ومكاتب الاستيراد والتصدير، وتجارة العملة، وتجارة السلع التموينية .. الخ. قد لا يدرك القراء صغار السن ماذا تعني هذه الأنواع من التجارة، ولكنها كانت نشاطا رئيسيا في مصر لتحقيق ثروات هائلة في ظل ضعف الهيكل الاقتصادي.
لماذا إذن تبيع الحكومة باقي القطاع العام، الإجابة هي ربما لكي تتخلص من عبئ الدعم الذي تدفعه والخسائر التي تحققها مشروعات القطاع العام، وكذلك لتتخلص من عبئ جيوش العمال التي يعملون فيها، والتي تمثل في بعض المناطق قنابل موقوتة مرشحة للانفجار في أي وقت، مثل مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى.
ما رأيك دكتورنا في موضوع الخصخصه بالكويت من منطلق اقتصادي ؟؟
ردحذففالكثير طلب عدم تخصيص القطاعات الناجحه مثل الشركات النفطيه بل تخصيص البريد مثلا الذي يكل عبئ على الدوله دون اي فائده تذكر او كشركه الخطوط الجويه الكويتيه التي تجلب الخسائر للدوله .. فما هو رأيك بهذا الموضوع كمختص
لاننا سمعنا جميع الاراء غير الاقتصاديه و لكن لم يخرج علينا احد يحلل الموضوع من منطلق اقتصادي حيادي بحت
شكرا فيلسوق
ردحذفالخصخصة بشكل عام اجراء جيد من الناحيةالاقتصادية، وليس هناك أي تصور يمكن أن يحدث في الكويت بعد انتهاء عصر النفط سوى بتحول كل قطاعات الانتاج في الدولة الى القطاع الخاص، وإلا فمن أين يمكن أن توفر الدولة مدفوعات الرواتب لهذا الجيش الضخم من الموظفين. مطلوب من الكويت الآن التخلص من اجهزتها الانتاجية والخدمية العامة وتحويلها شيئا فشيئا الى القطاع الخاص استعدادا لإعادة الامور الى نصابها الصحيح، حيث أن افضل عمليات الانتاج وأكفئها هي تلك التي تتم عن طريق القطاع الخاص وليس عن طريق الحكومة. مشروعات القطاع العام كما ترى هي مشروعات ليس لها مالك محدد (إنه الدولة)، ليهتم بقضايا التكاليف والارباح ومستويات الخسائر والكفاءة ومعدلات التوظف المثالية... الخ. باختصار الدولة مدير سيئ للموارد، ولم يحدث أن تحقق في ظل ملكيتها كفاءة استخدام للموارد على النحو الأمثل.
ولكن من المؤكد أن عملية الخصخصة لها ضحايا، أهمها جيش الموظفين الذين نشأوا وترعرعوا في ظل مناخ اداري شبه متسيب، والذين يضمنون فرص ترقيهم فقط استنادا الى المعيار الزمني، وربما البعض منهم يضمن وصوله الى أعلى المستويات بسبب الواسطة التي يملكها، أو العائلة التي ينتمي اليها...، ناهيك عن ان احتمالات انتشار الفساد الادراي غالبا ما تكون على نطاق أوسع في المشروعات الحكومية. لأسباب كثيرة يفضل التخلص من القطاع العام وتحويله الى القطاع الخاص، مع محاولة تدنية التكاليف التي سيواجهها المجتمع من جراء هذه العملية، بصفة خاصة على العاملين.
تحياتي