جاءني هذا التعليق على موقع "ألفا بيتا" تعقيبا على مقال "ماذا يحدث لو أفلست اليونان" المنشور على نفس الموقع، وقد ارتأيت أن أنشر إجابتي هنا تعميما للفائدة. يقول القارئ الأخ عدنان:
د. محمد. .. بالفعل مقالاتك رائعة جدا ونادرا ما نجد مثل هذا الطرح في الكتابات الاقتصادية العربية .. لدي سؤالين :
1- مار أيك في مستقبل أمريكا خاصة ان أمريكا اختارت تنشيط الاقتصاد على حساب نقل المديونيات من مديونيات خاصة إلى الحكومة ورفع مستويات الدين الحكومي .. ألا تعتقد معي أن أمريكا تضخم كرة الثلج.. وأن العالم عامة مبني على فقاعة ائتمان ؟؟
2- ما رأيك بالنمو الحالي هل تؤيد خروجنا من دائرة الركود ؟ وما وجهة نظرك حول النمو هل هو نمو حقيقي ؟ أم نمو تضخمي هش مصحوب ببطالة عالي وتضخم ؟ وما مستقبله ؟ وكم مداه ؟ وماذا بعد النمو مع تزايد الدين العام للحكومات وعلى رأسها أمريكا..
مع كامل شكري وتقديري
ردي
شكرا عدنان على تعليقك
عدنان أسئلتك في غاية الدقة والعمق. وتحتاج إلى مساحة كبيرة جدا للإجابة عليها، ولكنني سأحاول الاختصار قدر الإمكان، واعذرني إذا لم أتمكن من ان أغطي كل أبعاد الإجابة فالموضوع كبير جدا.
بالنسبة للسؤال الأول، مستقبل أمريكا لا يواجهه أي تهديد حقيقي من الكلام الذي تقرأه أو تسمعه. كثير من الناس تكره أمريكا، هنا أو في بلاد أخرى من العالم، وهي بالفعل تشتري كل يوم أعداء جدد لها بسبب سياساتها غير المتوازنة، ولكن هذا لا يغطي قرص الشمس في وضح النهار. الاقتصاد الأمريكي اقتصاد ضخم جدا، ذو موارد هائلة لا تضاهيها فيها دولة أخرى، هو مركز الاختراع والابتكار للعالم، يملك ناصية الصناعات الحيوية في العالم، به أكبر شركات العالم، وأضخم سوق مال في العالم، وأضخم قطاع مالي في العالم، وأفضل مراكز البحث والتطوير في العالم، وأفضل جامعات العالم ... الخ، باختصار شديد هو مركز العالم في وقتنا الحالي. هذه حقائق لا يجب ان ننساها أو نتناساها. نعم أمريكا اختارت تنشيط اقتصادها على حساب رفع الدين العام، ولكن على الرغم من كل ما يقال عن الدين الأمريكي وحجمه لا أشعر بأي قلق بالنسبة له. لا تنسى نقطتين هامتين، النقطة الأولى هي أن الدين الأمريكي بالدولار الأمريكي، وهذه الميزة لا تملكها دولة في العالم إلا أمريكا تقريبا، ماذا يعني ذلك، ان ذلك يعني أن أمريكا لا يمكن ان تتعرض للإفلاس مثلما هو الحال بالنسبة لليونان اليوم، لان أمريكا يمكنها بسهولة خدمة دينها من خلال طبع المزيد من عملتها، أو ما يسمى بالتمويل التضخمي. النقطة الثانية هي أن المهم ليس هو حجم الدين، ولكن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، والنسبة حتى الآن معقولة، وسوف تتراجع مع استعادة النشاط الاقتصادي ومن ثم نمو حجم الناتج. كرة الثلج التي تشير إليها (الدين العام الأمريكي) مصنف حاليا حتى في ظل ظروف الأزمة بين أفضل 10 ديون سيادية في العالم.
قد اتفق ان العالم مبني على فقاعة ائتمان ساعد على ذلك النمو الرهيب للمدخرات عالميا والشبكة المالية الرهيبة التي تشترك في عملية إعادة تدوير هذه المدخرات وخلق المشتقات منها بحيث تتكون في النهاية كرة ضخمة من الائتمان قائمة على أساس صغير، وهذه الكرة في أمان بشرط واحد هو استمرار ارتفاع الثقة في النظام، إذا اهتزت هذه الثقة لأي سبب من الأسباب تجد الذعر المالي ينتشر في العالم انتشار النار في الهشيم، ولذلك تجد العالم الآن أكثر من أي وقت مضى أصبح أكثر عرضة للازمات مقارنة بالفترات السابقة، وبالمناسبة أنا أكتب حاليا سلسلة مقالات حول الأزمات التي مر بها العالم.
الإجابة على سؤالك الثاني صعبة جدا عدنان، ولكن إجابتي سوف تكون استنادا إلى ما هو متاح لي من بيانات. حتى هذه اللحظة، وبشرط ألا يتطور موضوع الدين السيادي الأوروبي بصورة أسوأ من ذلك، العالم يخرج من أزمته، ويستعيد نشاطه الاقتصادي ويقترب من مستويات ما قبل الأزمة. صحيح أن جانبا كبيرا من هذا النمو مدفوع ببرامج تحفيز كما سبق وتفضلت بالإشارة إلى ذلك، ولكن عمليات التحفيز هي شرط أساسي للخروج، وإلا لم يكن العالم ليستطيع أن يخرج من أزمة عنيفة مثل هذه الأزمة بهذه السرعة غير المتوقعة. أنا بالفعل مندهش للسرعة الكبيرة التي استغرقها الكساد الحالي، هناك بعض الكتابات عدنان تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي خرج من الكساد في يوليو الماضي. مثل هذه السرعة المبهرة في الأداء الاقتصادي الكلي لم تكن لتحدث لولا برامج الإنفاق الضخم التي تبنتها دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة والتي أخذت أشكالا كثيرة منها مساعدة المؤسسات المالية، وشراء بعض الأصول المسمومة فيها، وشراء جانب من أصول المؤسسات الإنتاجية مثل جنرال موتورز، وحتى دفع حوافز للمشترين للسيارات، وحاليا دفع حوافز لمن يرغب في إعادة تجديد مسكنه... إنها نفس سياسات الروشتة التي اقترحها الاقتصادي جون ماينارد كينز للخروج من الكساد من خلال دفع مستويات الطلب الكلي لخلق المزيد من الوظائف ومن ثم النمو المضاعف في الإنفاق والناتج.
استعادة النشاط الاقتصادي مع ارتفاع معدلات البطالة أراه أمر طبيعي جدا، وكافة حالات الكساد التي مر بها الاقتصاد الأمريكي مسبقا توضح ان الأمر يأخذ بعض الوقت بعد نهاية الكساد حتى تنتهي مشكلة البطالة. هذا أمر طبيعي تماما، مع ان الكثير من المراقبين يكتبون كثيرا في هذه النقطة، أما أنا فأعتقد أنهم لم يقرءوا تاريخ الدورات الاقتصادية في الولايات المتحدة بشكل جيد. يمكنك متابعة بعض الرسوم البيانية التي تثبت ذلك على مدونتي "مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون. أما مداه، فكما أشرت، إذا لم تنفجر مشكلة أوروبا فان عام 2010 سوف يشهد نهاية الكساد الحالي في العالم تقريبا.
النمو مع الدين أمر طبيعي عدنان، بالعكس المشكلة الأساسية هي أن لا يكون هناك نمو وفي ذات الوقت يرتفع حجم الدين. مع استمرار النمو كما سبقت الإشارة سوف تقل حدة مشكلة الدين السيادي لان نسبة الدين إلى الناتج المحلي سوف تأخذ في التراجع من ناحية، ومع النمو تحقق الدول فوائض في ميزانياتها تمكنها من خدمة ديونها.
معذرة إذا لم تكن الإجابة كاملة، لأن الإجابة التفصيلية على أسئلتك تحتاج إلى مساحة كبيرة جدا ووقت، وأنا لا أملك الأخير بالذات. شكرا على ملاحظاتك الهامة جدا.
تحياتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق