اعتاد خطيب المسجد الذي أصلي فيه الجمعة أن يردد هذه الدعاء في نهاية الخطبة "اللهم اهلك اليهود والصليبيين، اللهم اهلك أعداءك أعداء الدين"، وفي كل جمعة كان جميع المصلين في المسجد يرددون، بما فيهم أنا، آمين، آمين، أكثر من 15 عاما وأنا أصلي في نفس المسجد وأسمع نفس الدعاء كل جمعة، حتى أخذت أفكر في مضمون هذا الدعاء المتكرر، والذي بالمناسبة هو شائع ويستخدمه الكثير من الخطباء. عندما تفكر في مضمون الدعاء ونتائجه تصل إلى خلاصة في غاية الخطورة والأهمية وهي أنه لو استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائنا وأهلك أعداء الإسلام لهلكت الأمة الإسلامية بالتبعية كذلك، والله سبحانه وتعالى رحيم بخلقه الذين خلقهم، وهو يرزقهم جميعا من هم على دينه ومن ليسوا على ذلك.
تعالوا نتخيل ما الذي يمكن أن يحدث لو استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائنا وأهلك أعداءنا. من المؤكد أن الهلاك هو القضاء على الناس، وهو ما سوف يؤدي إلى خراب اقتصادي، حيث ستتحول أوروبا والأمريكيتين وأستراليا وأجزاء واسعة من آسيا وكذلك إفريقيا إلى مناطق خربة لا إنتاج فيها ولا استهلاك، فعندما يهلك الناس تهلك قوتان هامتان هما عماد الاقتصاديات في العالم اليوم، قوة الإنتاج (العمال)، وقوة الاستهلاك (المستهلكين)، ويؤدي فقدان قوة العمل إلى توقف القدرة على الإنتاج، حيث لا يمكن تشغيل تسهيلات الإنتاج حاليا بدون عنصر العمل، ثم لماذا سيتم الإنتاج إذا لم يكن هناك استهلاك لهذا الإنتاج على الطرف الآخر (في السوق)، النتيجة الحتمية إذن هي توقف عمليات الإنتاج في أكبر مناطق العالم إنتاجا. ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني ببساطة توقف تلك الدول عن طلب النفط الخام الذي ننتجه، ولن نجد بالتبعية من نبيع إليه نفطنا، هذا في الأجل القصير. في الأجل الطويل لن نستطيع أن نستخرج هذا النفط أصلا من باطن الأرض، وذلك بعد مرور المدى الزمني اللازم لتعطل تسهيلات استخراج هذا النفط وحاجتها إلى تبديل قطع للغيار لكي تعمل تلك التسهيلات التي تتولى مهمة استخراج النفط ودفعه إلى سطح الأرض. أليست هذه التسهيلات وقطع غيارها تأتينا من تلك الدول؟، الحقيقة التي لا يمكن إغفالها هي أن تقنيات إنتاج واستخراج النفط والمعدات اللازمة لذلك ليست من صنعنا، إنما طورها وصنعها لنا أعداءنا، وهم يملكون ناصية إنتاجها وتطويرها ونحن لا نملك ذلك.
سوف يؤدي هلاك أعداء الدين إذن إلى توقف مصدر دخلنا الأساسي ولن تجد حكوماتنا، التي تعتمد أساسا على الإيرادات من النفط، مصادر إيراد يمكن ان تعتمد عليها للإنفاق علينا. أي أنه في الشهر التالي لهلاك أعداءنا لن تنزل رواتبنا في حساباتنا، بسبب عجز حكوماتنا عن تدبير تلك الرواتب، وأنى لها أن تقوم بذلك وهي بدون مصادر إيراد غير نفطية تقريبا، فبقدر ما كان النفط نعمة بالنسبة لنا، فقد كان أيضا نقمة علينا حيث رفع من درجة اعتمادنا عليه إلى هذا الحد الخطير الذي أصبحت معه قدراتنا على الفكاك من أسره محدودة.
لن تجد حكوماتنا ما تستخدمه لتمويل فتح مستشفيات لنا، أو لبناء مدارسنا أو لمد الطرق التي نسير عليها، بل إننا لن نحتاج إلى بناء هذه الأخيرة أصلا، لأن هلاك أعداءنا وهم الذين يصنعون لنا سياراتنا التي نسير بها على هذه الطرق وقطع غيارها في حالة تعطلها، سوف يؤدي بعد فترة قصيرة جدا إلى أن تختفي تلك السيارات من حياتنا، وسنعود مرة أخرى لنستخدم الحيوانات لكي تكون وسيلة النقل الرئيسية لنا. غير أننا لسوء الحظ لن نكون قادرين على استخدام هذه الوسائل إما لأننا فقدنا مهارات ركوبها، أو لأننا سوف نصطدم بحقيقة أننا سوف نحتاج إلى فترة طويلة جدا لكي نربي منها أعدادا تكفينا، وأن منازلنا التي كنا نستخدمها قديما في إيواء هذه الحيوانات وتربيتها، لم تعد تصلح لهذه المهمة. بل أننا لن نستطيع أن نعيش في مساكننا التي أصبحنا نبنيها الآن بدون كهرباء لتضيء لنا المكان أو لتكيف لنا الهواء داخلها، لأننا لن نستطيع أن نولد الكهرباء أصلا، والتي تأتينا ماكينات توليدها وقطع غيارها بل وفي الكثير من الأحيان المهندسين الذين يعملون عليها من الخارج. لن نجد من يزرع لنا الأرز الذي أصبحنا نتناوله يوميا، والقمح الذي نصنع منه الخبز الذي نأكله، واللحوم التي نستوردها من الخارج، والأقمشة التي نصنع منها الألبسة التي نرتديها، والنظارات التي نقرأ بها، والمطابع التي نطبع عليها هذه الصحيفة التي نقرأها الآن، سوف يتوقف إنتاج الأدوية والأمصال والأجهزة الطبية الحديثة ولن نكون قادرين على معالجة أوجاعنا، وستعود الأوبئة التي كانت عدو الإنسان الأول مثل الطاعون والسل وغيرها من الأمراض الفتاكة إلينا مرة أخرى. باختصار شديد هلاك أعداءنا سوف يعني بالضرورة أننا لابد وأن نستعد للهلاك ورائهم. علينا إذن ان نفكر مليا عندما ندعو على أعداءنا ونحن على هذه الصورة.
نحن للأسف الشديد امة فقدت هويتها وقدراتها وطاقاتها على الإبداع والإنتاج، وصرنا تابعين لغيرنا إلى درجة لا يمكننا الانفكاك منها بأي حال من الأحوال حتى صارت رقابنا بأيدي غيرنا، فهم يستطيعون أن يخنقونا إذا فرضوا علينا حصارهم، خاصة في ظل عجزنا على أن ننتج ما نحتاج إليه، دون أن نعتمد عليهم سواء باستيراد سلعة أو آلة أو مادة خام. وقد نتج عن تخلفنا في ذلك أننا أصبحنا عالة على هذا العالم، فهو ينتج ويصدر إنتاجه إلينا، بينما يستورد منا مواردنا الطبيعية، التي لا فضل لنا في وجودها، فقد وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها، وبدلا من أن نستغل هذه الثروة الاستثنائية في تطوير قدراتنا على فك اعتمادنا على غيرنا، تطورت أساليب إنفاقنا واستهلاكنا بصورة ترفية بحيث أصبحنا أكثر من أي وقت مضى في تاريخنا نعتمد على غيرنا، الذين نطلق عليهم للآسف لفظ أعداءنا. لقد فشلنا في استغلال ثرواتنا في بناء هياكل إنتاجية فاعلة، وبدلا من ذلك قمنا باستغلال تلك الثروة في خلق أنماط استهلاكية مدمرة أدت إلى سقوطنا في ما يمكن أن نطلق عليه "مصيدة الرفاه"، وهي مصيدة يبدو أنه أصبح من المستحيل علينا الفكاك منها، على الأقل حاليا.
هذا الوضع المزري لأمتنا لم يشجعنا على العمل والكد لتغيير أوضاعنا نحو الأفضل، بل على العكس جلسنا جلسة العاجز ندعو على أعداءنا، ليس ذلك فقط، وإنما أصبحنا مثالا سيئا للإسلام وللمسلمين، إذا كان هذا الدين يعاني الآن، فإن أكثر وأشد صور معاناته هي منا نحن، وليس من أعداءنا، فقد كنا مثالا سيئا لمن ينتمي إلى هذا الدين، ولم نحمل رسالة النور التي يقدمها للناس، وعمدنا إلى ان ننتقي من الدين الحنيف ما ينفر الناس منا. كل هذا المزيج السيئ قدمناه للعالم على أنه الإسلام، فأصبح ينظر إلينا على أننا رموز الرجعية والضعف والتخلف، رموز القسوة والتشدد والإرهاب .. الخ، مع أن المسلمين الأوائل الذين استقوا الإسلام من منابعه الصحيحة، عندما خرجوا للعالم رسموا أفضل صورة له، فأسلم الناس دون أن يدعوهم إلى الإسلام.
متى إذن نتخلى عن قناعاتنا بأن الإسلام لا بد وأن يصطدم مع هذا العالم، متى ننظر إلى العالم على أنه مسلم محتمل، إن لم يكن الآن ففي المستقبل. متى ندرك أننا مطالبون بأن نتعامل مع الغير باللين والرفق والأخلاق التي أمرنا الله بها. لست مفتيا، ولا يجب أن أتعرض للفتوى، حتى أطالب أئمة المساجد بأن يكفوا عن الدعاء على أعداء الإسلام، ولكن هذه هي تصوراتي لما يمكن أن يحدث لنا، إذا "لا قدر الله" استجاب سبحانه وتعالى لدعائنا وأهلك أعداء الأمة.
لن يصطلح حال الأمة يا دكتور إلا إذا كان شعارها الآية الكريمة :((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) لأنه من السهل آن تلقي باللوم على الآخرين بدل أن تحاسب نفسك وقس عليه في جميع المجالات
ردحذفشكراً دكتور محمد
ردحذفأن أسهل وسيلة للعاجز عن المواجهة هو الدعوة بالهلاك وتشويه صورة الخصم.
"هناك طريقتان ليكون لك أعلى منزل، أما أن تدمر المنازل التي من حولك، أو تبني أعلى من التي حولك، فأختر دائماً أن تبني أعلى من غيرك".
المسلمين الأوائل لم نسمع لهم دعوات بالهلاك، وإنما كانوا واثقين من أنفسهم وبقدرتنا على البناء والتفوق.
أما الوضع الحالي أختلف، فزادت الدعوات، لانعدام الثقة بقدرتنا على البناء والتفوق.
شكرا عباس
ردحذفأتفق معك تماما عباس، نعم تعليق جميل جدا وعميق جدا، شكرا على مرورك
نعم عزيز هذا صحيح
ردحذفصدق الله العظيم، هذه الاية معجزة.
تحياتي وشكرا على مرورك