الاتحاد النقدي الأوروبي ليس متحدا كما يبدو، أو على الأقل ليس على ما يرام، فما إن بدأ جليد الأزمة المالية العالمية في الذوبان، حتى أخذ يلوح في الأفق الأوروبي خطر قادم يكشر عن أنيابه بشدة مهددا العالم بالوقوع مرة أخرى في هاوية أزمة جديدة ولكن من نوع مختلف، وهي أزمة الديون السيادية والتي تعد حاليا بمثابة قنبلة مالية موقوتة مرشحة للانفجار في أي لحظة، ولقد أظهرت أزمة دبي مدى حجم المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن الإعلان عن التوقف عن سداد دين سيادي حتى وان تعلق الأمر بإمارة صغيرة كدبي، ولكن الأمر هذه المرة لا ينصرف إلى بضعة مليارات تعثرت في سدادها دبي وورلد، إننا نتحدث عن مئات المليارات من الديون الحكومية التي ربما تهوي بأسواق المال في العالم بل وتضع اليورو في مهب الريح تحت ضغوط المخاطر المالية المحتملة للدول الأعضاء فيه. باختصار يتعرض اليورو اليوم، على أعتاب العقد الثاني من عمره، لأعنف أزمة في تاريخه حتى الآن.
الوضع المالي المتأزم لليونان وأسبانيا والبرتغال وأيرلندا يثير إشكالية فنية مهمة حول الآليات التي ينبغي أن تعمل الدول الأعضاء في اتحاد نقدي على أساسها. من حيث المبدأ يفترض أن تلتزم الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي بإتباع سياسة نقدية موحدة، بينما ليس لديها نفس الالتزام فيما يتعلق بسياساتها المالية، ففي الواقع يمكن أن تتبع الدول الأعضاء سياسات مالية متباعدة بشكل بين، وهو ما يلقي بظلال الشك حول مدى مناسبة معايير التقارب التي يفترض ان تتوافر في الدول الأعضاء قبل وبعد الانضمام إلى الاتحاد النقدي، بصفة خاصة معايير التقارب المالي، والتي تنص على ألا يتجاوز عجز الميزانية نسبة 3% من الناتج المحلي للعضو وألا يزيد الدين العام عن نسبة 60% من الناتج المحلي كذلك.
كانت الأوضاع المالية للدول الأربع متوافقة مع هذه المعايير عند الانضمام، غير أن التجربة الحالية تثبت أن استيفاء معايير التقارب المالي عند الدخول في الاتحاد النقدي لا يضمن استدامة هذه المعايير في الأجل الطويل، ولذلك نرى البعض ينادي بضرورة تبني معايير للتقارب الحقيقي (وليس المالي والنقدي) قبل الدخول في الاتحاد النقدي لضمان استدامة التقارب وعدم تعرض العملة الموحدة لضغوط مستقبلية في حال اختلت معايير التقارب المالي أو النقدي التي دخلت على أساسها تلك الدول للاتحاد. بوادر الأزمة الحالية تثير إذن وبقوة ضرورة تعديل شروط الاتحادات النقدية من مجرد تبني سياسات نقدية موحدة إلى تبني سياسات مالية موحدة أيضا، لتلافي الضغوط إلي يمكن ان تترتب على السياسات المالية التوسعية أو غير المنضبطة على الاتحاد النقدي.
لقد استغل الأعضاء الأربعة ميزة عضويتهم في اليورو وقاموا بالاقتراض بمعدلات فائدة منخفضة، وفي ظل انفلات أوضاعهم المالية تجاوزت معدلات عجز ميزانياتهم وديونهم العامة إلى الناتج المحلي تلك المعدلات الآمنة المحددة في الاتفاقية، ونتيجة لذلك يتصاعد قلق المستثمرين الدوليين يوما بعد يوم من المستويات المرتفعة لعجز الميزانية لهذه الدول. ولقد جاءت بيانات النمو في الربع الرابع من العام الماضي لتزيد الطين بله، حيث انخفض معدل النمو في منطقة اليورو (16 دولة) إلى 0.1% فقط (أي 0.4% على أساس سنوي)، وذلك مقارنة بمعدل نمو 0.3% في الربع الثالث (1.2% سنويا)، وإذا ما استثنينا فرنسا حيث بلغ معدل النمو فيها في الربع الرابع 0.6%، فإن معدل النمو لمنطقة اليورو سيصبح سالبا. على سبيل المثال انخفض معدل النمو في ايطاليا بـ 0.2%، واليونان بـ 0.8%، بينما كان معدل النمو في اسبانيا سالبا، ولم يحدث أي تحسن في معدل نمو البرتغال وألمانيا، أما في الشرق فقد انخفض معدل النمو في جمهورية التشيك والمجر ورومانيا. كذلك لامست البطالة معدل الـ 10% في منطقة اليورو لأول مرة في ديسمبر الماضي، ومعدل البطالة في اسبانيا حوالي 20% وفي ايرلندا 13.5%.
استجابة لهذه الضغوط أعلنت الدول الأربع عن برامج لخفض مستويات العجز المالي ودفعه إلى الحدود المنصوص عليها في الاتفاقية. فقد أعلنت اسبانيا أن سيناريو العجز إلى الناتج الأسباني في حدود 9.8% في 2010، ينخفض إلى %7.5 في 2011 ثم إلى %5.4 في 2012 ليعود إلى مستوى %3 في 2013. غير أنه في 29 يناير الماضي أظهرت التقارير بأن العجز الحقيقي للميزانية في اسبانيا هو 11.4%. كذلك أعلنت البرتغال أن العجز المتوقع في ميزانية 2009 كان أكبر من المتوقع حيث بلغ 9.3% من الناتج المحلي، ويتوقع ان يصل إلى 8.3% في 2010، وقد أعطى الاتحاد الأوروبي البرتغال مهلة حتى 2013 لكي تخفض العجز مرة أخرى إلى أقل من 3% من الناتج المحلي، وقد أعلنت الحكومة البرتغالية أنها سوف تحاول الحد من نمو الإنفاق من خلال تجميد أجور العاملين في القطاع العام، كذلك سوف تقوم البرتغال بإدخال ضريبة بمعدل 50% على العلاوات الإضافية التي تدفع في 2010 لكبار الموظفين في المؤسسات المالية وسوف تعيد إطلاق برنامج للتخصيص والذي كان قد تعطل بسبب الأوضاع السيئة للأسواق الناجمة عن الأزمة المالية. وفي 2 فبراير جهزت الحكومة اليونانية خطة لخفض الإنفاق بما في ذلك تجميد أجور العاملين وزيادة ضرائب الوقود وإدخال إجراءات لزيادة الإيرادات الضريبة بهدف العودة بالعجز إلى مستوى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2012 مقارنة بـ 13% في 2009. من ناحية أخرى فإن العجز المالي الحالي في ايرلندا يبلغ 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد اليونان. المشكلة الأساسية وراء كل هذه الإجراءات التقشفية هي في آثارها السلبية على النمو الأوروبي الذي يواجه متاعب حادة أصلا على النحو الذي تمت الإشارة إليه أعلاه. ولا ينبغي ان ننسى ان الإعلان عن اتخاذ إجراءات مالية قاسية ربما قد يبدو سهلا من حيث التسطير على الورق، ولكن عملية وضعها موضع التنفيذ تواجه الكثير من العقبات الكامنة، فخفض الإنفاق الجوهري لا يخلو أيضا من مخاطر سياسية حساسة. على سبيل المثال يتوقع وزير المالية اليوناني زيادة معدلات النمو في منتصف هذا العام مدفوعا بالنمو في نشاط النقل البحري والسياحة، ولكن معدلات النمو المتوقعة في أوروبا وفقا لأفضل السيناريوهات المتاحة تتراوح ما بين نصف إلى 1 في المائة على أفضل الأحوال، وتتسم كافة أسواق العمل بالضعف مما يجعل استعادة النشاط السياحي لمستوياته السابقة على الأزمة، كما يفترض الوزير، أمرا مستبعدا، وكذلك الحال بالنسبة لنشاط للنقل البحري.
مشكلة اليونان الملحة هي في حاجتها إلى توفير كمية كافية من التمويل الذي يمكنها من مواجهة الديون المستحقة عليها في أبريل ومايو القادمين، وفي ذات الوقت توفير كمية كافية من السيولة التي تمكنها من الاستمرار في تمويل نفقاتها. وتدور التقديرات حاليا حول أنه من المحتمل ان تحتاج اليونان لحوالي 30 مليار يورو في مايو القادم، وعلى الرغم من تركز عمليات استحقاق الديون بصورة مكثفة في أبريل ومايو القادمين، فان احتياجات السيولة في السنوات القادمة ستظل مرتفعة حيث يبلغ إجمالي الدين اليوناني 303 مليار يورو (حوالي 430 مليار دولار)، وسوف يتطلب الأمر من اليونان أن تحاول أن ترفع من معدلات نمو ناتجها المحلي وترفع من مستويات الادخار بها وتقلل في ذات الوقت من الاقتراض الحكومي، وهي معادلة تبدو مستحيلة الحل. اليونان تقف الآن في المربع الذي وقف فيه بنك ليمان براذرز قبل الأزمة المالية العالمية في 2008، ولكن إذا كانت الولايات المتحدة قد سمحت بسقوط البنك، فكانت النتائج مدوية على الاقتصاد الأمريكي وعلى النظام المالي في العالم، فإن الاتحاد الأوروبي لن يسمح بسقوط اليونان، على الرغم من أنها مارست عملية غش للاتحاد الأوروبي عندما دخلت في الاتحاد النقدي بإعلان مؤشرات مزيفة عن نسبة عجزها المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي، وعدم التزامها فيما بعد بقواعد اللعبة.
القطاع المصرفي الأوروبي بالطبع هو الأكثر تهديدا الآن في هذه الأزمة حيث أن البنوك الأوروبية مستثمرة وبصورة كبيرة في السندات الحكومية الأوروبية، على سبيل المثال البنوك الفرنسية منكشفة على الديون اليونانية بحوالي 75 مليار دولار، والبنوك الألمانية منكشفة على الديون اليونانية، بحوالي 43 مليار دولار ولذلك يرى المراقبون أن سيناريو الأزمة إذا اندلعت ربما يكون أسوأ مما هو متوقع، خصوصا عندما تلجأ حكومات تلك الدول إلى اتخاذ إجراءات تقشفية للتعامل مع الوضع مما يؤثر بصورة سلبية على النمو الاقتصادي بها، وربما يعكس اتجاهات استعادة النشاط الاقتصادي العالمي.
بدأت العلامات الأولى للأزمة في صورة تراجع واضح للمؤشرات العامة للبورصات العالمية، بصفة خاصة البورصات الأوروبية، وأخذ معدل صرف اليورو في التراجع بصورة حادة بالنسبة للدولار ليبلغ أدنى مستوى له منذ شهور. ومثلما حدث مع دبي، أخذت تكلفة التأمين ضد مخاطر التوقف عن السداد لديون الدول الأعضاء في اليورو في التصاعد بصورة كبيرة، بصفة خاصة بالنسبة لديون اليونان، المعرضة، وفقا لمعظم الآراء، لمخاطر الإفلاس والتوقف رسميا عن سداد ديونها السيادية، حيث ارتفعت تكلفة التأمين على السندات الأوروبية جميعها، وبصفة خاصة بلغت 429 ألف دولار سنويا لكل 10 ملاين دولار من الدين اليوناني، والقائمة تتصاعد. صندوق النقد الدولي أعلن انه يقف على أهبة الاستعداد لتقديم الدعم اللازم للحفاظ على استمرار استقرار النمو في الاقتصاد العالمي، إلا أن أي من تلك الدول وخصوصا اليونان لم تتقدم حتى الآن لطلب المساعدة، لأن المساعدة التي سيقدمها صندوق النقد الدولي لن تكون بدون مقابل إذ لا بد وأن تدخل تلك الدول في تجربة قاسية من برامج التكيف المالي التي ربما تؤثر على قدرتها على الاستمرار كأعضاء في اليورو. ولكن إذا أرادت الدول المضطربة ماليا عدم اللجوء للصندوق، فلا بد وأن يكون لدى الاتحاد الأوروبي مؤسسة مثيلة على نفس النمط لتتمكن تلك الدول من تجنب اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
منذ البوادر الأولى للأزمة كانت الأخبار تأتينا بأن الاتحاد الأوروبي لن يقدم المساعدات لليونان للخروج من عثرتها، وانه على اليونان اتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط إيقاع أداءها المالي. حيث يفترض، حسب النظام الأساسي للاتحاد النقدي، ان البنك المركزي الأوروبي أو البنوك المركزية المحلية لا تستطيع تقديم حزم إنقاذ لأي دولة عضو، كما لا يمكن إجبار الدول الأخرى على أن تتحمل أعباء ديون الدول الأعضاء. ولكن مما لا شك فيه أن الحكومات المركزية تستطيع القيام بذلك بمفردها، أو أن تتطوع لمساعدة الدول الأخرى، ومع اشتداد حدة الأزمة بدأت تظهر على السطح مخاطر هذا الخيار. حيث أصبح من الواضح أنه لا يمكن ترك اليونان بمفردها تواجه مشكلة ديونها الحادة بدون أي تدخل أوروبي، لان إعلان عدم التدخل معناه التخلي عن التضامن المفترض بين دول الاتحاد للحفاظ على قيمة اليورو من التدهور، وهو ما فطنت إليه الدول الأعضاء في اليورو مؤخرا، خصوصا وأن انضمام دول أخرى إلى اليونان لا يمكن ان يقلل من التأثير المدوي الذي سوف يترتب على تعثرها على الاتحاد الأوروبي وعلى اليورو.
لقد أعلنت ألمانيا أنها تعد خطة مع شركاءها الأوروبيين بصفة خاصة فرنسا بتقديم ضمانات على ديون اليونان وكذلك باقي الدول الأعضاء في اليورو لكي تهدئ من المخاوف التي تنتشر عن مخاطر تعرض الدول المضطربة ماليا للتوقف عن السداد. ولكن يبدو أن خطة الإنقاذ لن تكون مالية بالدرجة الأولى حيث لا يتوقع ان يتم تمرير مثل هذه الخطط بهذه السهولة، فمن المؤكد أنها سوف تجد معارضة من قبل دافعي الضرائب في الدول الأخرى في أوروبا، حيث سيتم استخدام أموالهم في إنقاذ دولة أخرى لا يستفيدون منها بأي خدمة. وفي رأيي أنه قد لا يوجد بديل آخر متاح حاليا لإنقاذ الدول المضطربة ماليا من تقديم الدعم المالي المباشر لكبح مخاطر انتشار أزمة ديون سيادية. وعلى الرغم من عدم تقديم أي التزام مالي محدد حتى الآن إلا أن الاتحاد الأوروبي في رأيي لن يقف مكتوف الأيدي عن مساعدة اليونان في حال اندلعت الأزمة، حيث يمكن للاتحاد احتواء مخاطر أزمة مثل أزمة اليونان بسهولة نظرا لصغر حجمها بالنسبة للاتحاد (3% من إجمالي الناتج المحلي في الاتحاد)، أما إذا تطورت الامور وانفجرت الأزمة فإن التعامل مع المشكلات الكامنة للدول الأخرى في القائمة مثل أسبانيا سوف يكون مستحيلا.
على أي حال الوضع مازال حرجا لأن عملية الإنقاذ المقترحة حتى الآن هي في صورة تقديم ضمانات للدين بدلا من تقديم مساعدات مالية مباشرة أو قروض مالية، الأمر الذي يجعل من الصعب حساب تكلفة عملية الإنقاذ، فقد تكون عملية الإنقاذ ناجحة ومن ثم لا يتم استخدام إلا قدر بسيط من الضمانات المقدمة للدولة مثلما حدث في أثناء أزمة المكسيك، في منتصف التسعينيات حيث لم يتم استخدام سوى قدر بسيط من حزمة الدعم المقدمة من الولايات المتحدة البالغة 50 مليار دولار، وربما تسير الأمور على نحو سيئ بحيث تكون تكلفة عملية الإنقاذ ضخمة، خصوصا إذا خرجت الأمور عن السيطرة ولم تستطع تلك الدول الوفاء بالتزاماتها.
للأسف الاقتصاد العالمي ليس مستعدا حاليا لكي يواجه تبعات النكسة المحتملة لجهود استعادة النشاط الاقتصادي إذا أعلنت أي من الدول الأوروبية الأعضاء في اليورو التي تواجه ضغوطا مالية عجزها عن سداد الديون المستحقة في مواعيدها. ونتيجة لذلك أخذت الثقة تتصاعد في الدولار، على الرغم من الضجة التي أثيرت حول مدى اعتماديته كعملة احتياط للعالم على الأجل الطويل، إلى الحد الذي وصف فيه الدولار بأنه عملة رديئة يجب الابتعاد عنها، بل وقد بلغ الأمر بالصين إلى أنها حثت العالم إلى السعي نحو إيجاد بديل لعملة عدوها اللدود. ونتيجة لهذا الاعتقاد أخذت بعض البنوك المركزية في البدء في عملية تنويع واسع النطاق لاحتياطياتها التي تتركز أساسا في الدولار، وذلك من خلال الاحتفاظ بالمزيد من اليورو الذي كان سيد الموقف في ظل تراجع الثقة في الدولار نتيجة الأزمة المالية الحادة التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي.
اليوم بدأ اليورو يواجه ضغوطا كبيرة، بعد أن كان العملة العالمية الأولى التي تحظى بالمزيد من الثقة من كافة المستثمرين في العالم بسبب المزايا التي تجمعت له خلال العقد الأول من إطلاقه، واليوم يثبت أيضا أن مزايا اليورو لم تكن بالكامل مزايا ذاتيه، ذلك أن جانبا كبيرا من تلك المزايا كان راجعا لضعف الدولار، عملة العالم الأولى. يقف اليورو اليوم على حافة التراجع بمعدلات حادة، والنتيجة الحتمية لذلك هي تعرض الاحتياطيات النقدية الضخمة لهذا البنوك المركزية للخسارة. محافظي هذه البنوك يعضون أصبع الندم اليوم بسبب شكوكهم حول مستقبل الدولار كعملة الاحتياط العالم الأساسية، وللأسف أصبحت الخيارات المتاحة أمام هذه البنوك المركزية محدودة جدا لأن أي محاولة لعكس عملية التنويع التي اتبعوها سوف يترتب عليها ضغوط متزايدة على اليورو ومن ثم المزيد من الخسائر، ولسوء الحظ كل ما تستطيع أن تفعله هذه البنوك المركزية الآن هو الانتظار ومتابعة الموقف عن بعد بخيارات محدودة جدا للتعامل مع الواقع الذي وضعت نفسها فيه.
المستفيد الأول من الأحداث بالطبع هو الدولار الأمريكي الذي خفت الضغوط عليه وقفز معدل صرفة بشكل كبير في مقابل اليورو والعملات الدولية الأخرى ليفوق مستوياته القياسية في يوليو من العام الماضي، وعاد الحديث مرة أخرى عن الدولار كحصن الأمان الوحيد للعالم، بعد ان كان يوصف بالعملة الرديئة. ومازالت الورقة الخضراء بالفعل، باعتبارها تمثل عملة دولة عظمى موحدة رغم كل ما حدث، تشكل سلة الأمان للعالم، أما اليورو فقد بدأت معاول الشك تنقض على هشاشة وضعه على الرغم من النمو الكبير الذي حققه منذ إطلاقه على حساب الدولار الأمريكي، لأن اليورو مع الأسف يقع تحت رحمة الضغوط المالية للحكومات غير المنضبطة ماليا، وثبت أنه من الممكن أن يكون ضحية للسياسات غير الموائمة التي يمكن أن تتبعها 16 دولة، بعكس الدولار الذي يخضع لسياسات إدارة حكومية واحدة.
بعض المراقبين يرون أن ردة فعل السوق بالنسبة لليورو مبالغ فيها، باعتبار أن ما يحدث في اليونان لا يختلف عن الأوضاع في باقي دول العالم، ولكن هؤلاء يتناسون المخاطر الكامنة نتيجة الأوضاع المالية السيئة للدول الأخرى الأعضاء في اليورو. المشكلة الأساسية ليست في مجرد إجراء التعديل اللازم لماليات الدول المضطربة، فبعض الدول الأعضاء في اليورو يواجه مشكلات مرتبطة بالنمو، ومن ثم فان تعديل الأوضاع المالية هو مجرد بداية لبرامج إصلاح مطلوبة بشدة على المستوى الكلي. باختصار خطة إنقاذ اليونان إذن لن تكون الأخيرة حيث يتوقع أن نجد طابورا من الدول الأوروبية المضطربة ماليا تطالب بنفس المعاملة، ولذلك نجد أسواق السندات قلقة من أوضاع اسبانيا وأيرلندا والبرتغال.
وأخيرا ما الدرس الذي يجب أن نستوعبه هنا في الخليج ونحن مقدمون على اتحاد نقدي ومن ثم عملة خليجية موحدة؟ في رأيي أن الدرس الأساسي هو أن طريق العملة الخليجية الموحدة لن يكون مفروشا بالورود كما يظن البعض، أو كما يروج أنصار العملة الموحدة، وأن الحديث عن المزايا التي يمكن ان تتحقق من العملة الخليجية الموحدة، على الرغم من ضآلتها من وجهة نظري، لا يجب ان ينسينا المخاطر الكامنة لاستبدال عملات مستقرة وقوية حاليا مثل الريال السعودي أو الدينار الكويتي بعملة سوف تتأثر بشكل كبير بالضغوط التي تأتيها من كافة الدول الأعضاء. إن المشكلة الحالية لليورو تثير المخاوف التي طالما نبهت إليها عندما كنت أناقش موضوع العملة الخليجية الموحدة، وحذرت من المخاطر الكامنة لهذه العملة حيث ستكون أكثر تذبذبا من العملات الحالية للدول الأعضاء فيها، نظرا لتأثرها بأي تطورات تحدث على الصعيد الداخلي للدول المشاركة في الاتحاد النقدي، ناهيك عن التطورات الخارجية. التجربة الحالية لليورو تعطي درسا هاما آخر في الاتحاد النقدي، إذ لا يمكن ان يتم انتهاج سياسة نقدية موحدة، بينما تدير كل دولة في الاتحاد أمورها المالية بشكل مستقل، حيث يفترض أن كل دولة من الدول الأعضاء تحافظ على حدود معينة لإنفاقها العام أخذا في الاعتبار إيراداتها العامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق