لحسن الحظ فإن كافة المؤشرات التي تأتينا من الاقتصاد الأمريكي حاليا تشير إلى أن الولايات المتحدة تستعد للخروج من أعنف أزمة تعرضت لها منذ الكساد العالمي الكبير، حيث حقق الاقتصاد الأمريكي ولربعي سنة متتاليين معدلات نمو موجبة، بلغت 2.2% في الربع الثالث من 2009، و 5.7% (تقدير أولي) في الربع الرابع من 2009، وهو ما يعزز فرضية استعادة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة على شكل حرف V، والذي يأخذ شكل حدوث انحسار سريع في معدلات النمو الاقتصادي بحيث يصل الاقتصاد إلى قاع الدورة (أدنى معدلات نمو للناتج المحلي الإجمالي) ثم تحدث استعادة سريعة في معدلات النمو الاقتصادي ومن ثم الخروج السريع من الأزمة، باختصار فإن الكساد الذي تتعرض له الولايات المتحدة حاليا يعد من أشكال الكساد القصير، ويعود الفضل في ذلك للاستخدام الكثيف للسياسات الاقتصادية بأنواعها المختلفة، بما في ذلك السياسات النقدية غير التقليدية، وسياسات التحفيز المالي المكثفة والميزانيات الضخمة التي رصدت لهذا الغرض، وما ترتب عليها من عجز قياسي في الميزانية العامة بلغ في العام الماضي حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك صعود الدين العام في الولايات المتحدة بسرعة صاروخية، الى مستويات حرجة للغاية، وتثير الآثار العنيفة للأزمة الحالية والتي كانت أوضح ما تكون على سوق العمل، حيث بلغ معدل البطالة الأوسع 17.5%، تساؤلا مهما لدى المواطن الامريكي، وهو كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتجنب أزمة مماثلة في المستقبل؟ هذا السؤال هو أكثر الأسئلة ترديدا الآن في الولايات المتحدة حاليا.
لقد اضطلع بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة بالإجابة على هذا السؤال الحرج قائلا بأنه يجب على الولايات المتحدة أن تواصل معالجة نقاط الضعف التي أدت إلى الأزمة الراهنة، فعلى الرغم من أن مصادر هذه الأزمة كانت متعددة ومعقدة للغاية، فإن أحد الأسباب الجوهرية للأزمة هو أن الجانب الأكبر من المؤسسات المالية على اختلاف أنواعها، كان ببساطة لا يقدر حجم المخاطر التي يتحملها تقديرا سليما، بحيث كانت نظم إدارة المخاطر في تلك المؤسسات غير كافية، كما كانت معدلات رؤوس الأموال والسيولة في تلك المؤسسات غير مناسبة، وللأسف الشديد لم تقم المؤسسات المالية ولا المنظمين في الولايات المتحدة بتحديد وعلاج الكثير من نقاط الضعف بالسرعة الكافية، وبالتالي ينبغي على جميع المنظمين الماليين في الولايات المتحدة، بما في ذلك الاحتياطي الفدرالي، إجراء تقييم ذاتي قاس لأداءهم في هذا الصدد، ولقد قام الاحتياطي الفدرالي باستعراض مكثف لأدائه خلال الأزمة، ثم انتقل إلى تعزيز قدراته في الرقابة على المصارف، كما قام بالتعاون مع الوكالات الأخرى بتشديد الأنظمة المصرفية للمساعدة على كبح جماح الإفراط في تحمل المخاطر من قبل البنوك، وتعزيز قدرة البنوك على تحمل الضغط المالي. على سبيل المثال كان الاحتياطي الفدرالي من بين قادة الجهود الدولية في السعي، من خلال منظمات مثل لجنة بازل للرقابة على البنوك، لزيادة معدلات رأس المال والسيولة التي يتعين على البنوك الاحتفاظ بها، وفي الداخل يعمل الاحتياطي الفدرالي على تطبيق المعايير التي تتطلب من المؤسسات المصرفية اعتماد سياسات أجور تربط بين الأجور وأداء المؤسسات على الأجل الطويل وتجنب تشجيع الإفراط في تحمل المخاطرة.
كما قام الاحتياطي الفدرالي بتطبيق برنامج الإشراف على تقييم رؤوس الأموال في البنوك الأمريكية، والمعروف باسم اختبارات الضغط المصرفي، ويقوم الاحتياطي الفدرالي حاليا بتقييم الدروس المستفادة من تلك العملية لإعادة توجيه نهجه في الإشراف على المؤسسات المصرفية الكبيرة والمتشابكة والتي تعتبر حاسمة بالنسبة لاستقرار النظام المالي، كما يقوم الاحتياطي الفدرالي بتبني منهجا أكثر حيطة على المستوى الكلي، أي نهج يتجاوز التركيز التقليدي للمشرفين على صحة المؤسسات المصرفية الفردية، ويمحص العلاقات المتبادلة بين المؤسسات وأسواق المال ليتوقع بشكل أفضل مصادر العدوى المالية التي يمكن أن تنشب في أي لحظة، ولكي يتحقق ذلك فإن الاحتياطي الفدرالي يقوم بتوسيع استخدام برامج الاختبارات الآنية والمقارنة عبر المؤسسات والتي أدت إلى الأثر الجيد الذي تحقق في برنامج اختبارات الضغط المصرفي، ولقد كانت قدرة الاحتياطي الفدرالي على رسم النظم المناسبة، باستخدام الاقتصاديين وخبراء السوق والمحاسبين والمحامين بالإضافة إلى مراقبي البنوك، أمرا أساسيا في نجاح برنامج اختبارات الضغط المصرفي، وسوف يكون إتباع المنهج متعدد التخصصات سمة أساسية من سمات إشراف الاحتياطي الفدرالي في المستقبل، على سبيل المثال يقوم الاحتياطي الفدرالي باستكمال فحوصاته التقليدية التي تتم في الموقع، ببرامج مكثفة للمراقبة من خارج الموقع، والتي في ظلها تقوم فرق متعددة التخصصات بمزج المعلومات الإشرافية وتحليل البيانات الخاصة بمؤسسات مالية محددة، بالإضافة إلى المؤشرات القائمة على آليات السوق لتحديد المشاكل التي قد تؤثر على واحد أو أكثر من المؤسسات المصرفية القائمة.
وعلى الرغم من أن المنظمين يمكنهم أن يفعلوا الكثير لتحسين الرقابة المالية، فإن الكونجرس يجب أيضا أن يعمل على إصلاح الفجوات ونقاط الضعف في الهيكل التنظيمي الحالي، وللقيام بذلك لا بد من التعامل مع المشكلة الخطيرة جدا التي تتمثل في الشركات التي ينظر إليها على أنها "أكبر من ان تسقط Too big to fall". فلا ينبغي لأي مؤسسة مالية بحكم حجمها أو درجة تعقيدها أن تبقي النظام المالي والاقتصاد أو دافع الضرائب الأميركي رهينة لها، وللقضاء على هذا الاحتمال، فإن الاحتياطي الفدرالي يحتاج إلى عدد من الخطوات المهمة التي حددها برنانكي في الآتي.
أولا، ينبغي أن تخضع كل المؤسسات المالية المهمة، وليس البنوك فقط، لرقابة مالية قوية وشاملة وعلى أساس موحد، أو على مستوى المؤسسة ككل، ويجب أن تخضع المؤسسات المالية لأشد متطلبات رأس المال والسيولة وإدارة المخاطر ومتطلبات الإدارة من المؤسسات الأخرى على السواء للحد من فرص الفشل، والعمل على إزالة حوافز النمو التي تهدف إلى تحويل المؤسسة المالية إلى كيان ينظر إليه على أنه "أكبر من أن يسقط". على سبيل المثال لم تخضع "المجموعة الأمريكية الدولية AIG" (شركة تأمين)، ولا "بير ستيرنز" (شركة استثمار)، لإشراف موحد وقوي، ويقوم الاحتياطي الفدرالي، وهو الجهة المنظمة للشركات المصرفية القابضة، فعليا بالإشراف على العديد من المؤسسات الأكبر والأكثر تعقيدا في العالم، وتلك التجربة، جنبا إلى جنب مع المعرفة الواسعة بالأسواق المالية، تجعل من الاحتياطي الفدرالي الأنسب ليلعب دور المشرف الموحد للمؤسسات الهامة في النظم غير المصرفية أيضا، وبالإضافة إلى ذلك، فإن مشاركة الاحتياطي الفدرالي في الإشراف هو أمر حاسم لضمان أن يكون لديه الخبرة اللازمة والمعلومات المناسبة والسلطات التي يحتاج إليها لتنفيذ مستهدفاته الأساسية حول تعزيز الاستقرار المالي وتصميم السياسة النقدية على النحو المستهدف.
ثانيا، عندما تقترب مؤسسة مالية هامة من السقوط، يجب أن يكون لدى صانعي السياسات الحكومية فكرة مختلفة عن خيار الإنقاذ أو الإفلاس غير المنظم الذي يمكن أن يؤدي إلى تحطيم الثقة (مثلما حدث في حالة بنك ليمان براذرز)، وينبغي على الكونجرس أن ينشئ نظاما جديدا لحل المؤسسات مشابه للنظام المستخدم حاليا بواسطة اللجنة الفدرالية للتأمين على الودائع للبنوك التي تفلس، والذي من شأنه أن يسمح للحكومة بإغلاق مؤسسة مالية مضطربة ذات أهمية في النظام وبطريقة تحمي الاستقرار المالي، وبما يفرض أيضا على حملة أسهم ودائني المؤسسة المالية التي فشلت تحمل الخسائر بدون أن يفرض ذلك أي تكاليف على دافعي الضرائب، ذلك أن فرض الخسائر على دائني المؤسسات المالية المضطربة، من شأنه أن يساعد على حل مشكلة المؤسسات "الأكبر من أن تسقط" عن طريق إعادة انضباط السوق وتسوية أرض الملعب لشركات أصغر، مع التقليل من الآثار المدمرة للسقوط على النظام المالي والاقتصاد ككل.
ثالثا، إن الهيكل التنظيمي للاحتياطي الفدرالي يتطلب إيجاد آلية أفضل لرصد ومعالجة المخاطر الطارئة على النظام المالي ككل، وبسبب حجم وتنوع وتعقيد النظام المالي الأمريكي، فإن المهمة قد تتجاوز قدرة أي جهاز على حده، ولذلك يؤيد الاحتياطي الفدرالي فكرة إنشاء مجلس للرقابة النظامية، الذي يتألف من المنظمين الماليين الرئيسيين لتحديد التطورات التي قد تفرض مخاطر نظامية، ويوصي بإتباع مناهج للتعامل معها وتنسيق ردود المؤسسات الأعضاء لتدنية الآثار السلبية لأي أزمة طارئة.
باختصار فإن جهود تجنب أي أزمة مالية مماثلة في المستقبل في الولايات المتحدة تقتضي ضرورة أن يتحسن أداء المؤسسات المالية في إدارة مخاطر أعمالها على أسس أكثر واقعية، كما أن المنظمين، بما فيهم الاحتياطي الفدرالي، يجب أن يستكملوا جهودهم الحالية الشاملة لإصلاح نظم الإشراف والرقابة على المؤسسات المالية، كما يجب على الكونغرس أن يمضي قدما في تحقيق التغييرات المطلوبة في نظم الرقابة المالية الخاصة به لتفادي حدوث أزمة مماثلة في المستقبل، وعلى وجه الخصوص يجب إيجاد حل لمشكلة "المؤسسات الأكبر من أن تسقط".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق