نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 20/7/2009
يثير ضعف الشفافية حول الموقف الحقيقي لبنوك دول مجلس التعاون المخاوف حول احتمال تعرض تلك البنوك لأزمة مع توالي المفاجآت غير السارة، والتي كان آخرها الهزة العنيفة التي تلت انكشاف مجموعتي سعد والقصيبي، والتي وضعت العديد من البنوك الخليجية على حافة الأزمة. من يعلم؟ ربما تحمل الأيام أخبارا غير سارة ومزيد من الانكشافات التي قد تعرض النظام المصرفي للمزيد من المشاكل نتيجة اضطراب أصول البنوك أو ما يعرف بظاهرة الأصول المسمومة (أي الأصول غير القابلة للتحصيل).
عندما تضطرب أصول البنوك أو يصبح جانبا كبيرا منها أصولا مسمومة، أو عندما ترتفع درجة انكشاف البنوك على المؤسسات التي ترفع درجة مخاطرها، فان احتمال فشل البنوك يتزايد، وعندما تسري الأخبار عن احتمال فشل أحد البنوك فإن ذلك يتسبب في حالة من الذعر المالي تطال ليس فقط البنوك المضطربة، ولكن أيضا البنوك ذات الوضع المالي المتين، ولا شك أن أحداث أزمة بنك الخليج في الكويت ليست عنا ببعيد. في ظل أسوأ سيناريوهات الأزمة قد تتحول بعض البنوك إلى ما يسمى ببنوك الزومبي Zombie Banks، وهي البنوك التي يكون صافي أصولها اقل من الصفر، والتي عادة ما تمثل مشكلة كبيرة في أوقات الأزمات المالية. وللتعرف على قدرتها على تحمل المخاطر المصاحبة لتوقف بعض المقترضين عن السداد يجرى ما يعرف باختبارات الضغط المصرفي للبنوك لكي توضح الحاجة الحقيقية لعملية إعادة الرسملة إذا ما تحققت السيناريوهات المطروحة في اختبارات الضغط. وفي ظل أسوأ السيناريوهات وتحاشيا لحالة الفوضى المصرفية في ظل انتشار الذعر المالي، فقد يبدو خيار تأميم البنوك هو الحل الأمثل لمشكلة الأصول المسمومة ولوقف اتجاه البنوك نحو التعثر ولإنقاذ القطاع المالي والاقتصاد المحلي برمته.
تأميم البنوك عبارة أصبحنا نسمعها كثيرا في أعقاب الأزمة المالية العالمية، على سبيل المثال دعا الرئيس البرازيلي العالم إلى تأميم البنوك التي تعاني من آثار الأزمة المالية، بدلا من الاستمرار في ضخ الأموال فيها، وطالب الحكومات بان تكون أكثر جرأة في تأميم تلك البنوك لكي يبدأ الائتمان في التدفق مرة أخرى خارج البنوك. الاقتصادي نورييل روبيني الذي تنبأ بالأزمة المالية قبل حدوثها يرى أن هناك أربعة أساليب للتعامل مع البنوك التي تعاني من مخاطر نظامية وهي: إعادة رسملة البنوك مع قيام البنوك بشراء أصولها المسمومة، والثاني وهو إعادة الرسملة مع تقديم ضمانات حكومية لمواجهة خسائر البنوك، والثالث هو أن تعرض الأصول المسمومة للبيع إلى القطاع الخاص مصحوبة بضمانات حكومية أو ربما من خلال إنشاء صندوق مشترك من الحكومة والقطاع الخاص لإنشاء ما يسمى بالبنك السيئ bad bank، ليضم كل هذه الأصول، والرابع وهو تأميم البنوك المتعثرة وإعادة تنظيفها ثم إعادة تخصيصها مرة أخرى في إشارة إلى التجربة السويدية. ومن بين هذه الخيارات الأربعة يرى روبيني أن هناك عيوبا عديدة في الخيارات الثلاث الأولى، بصفة خاصة في نموذج البنك السيئ حيث أن هناك احتمال أن تدفع الحكومة ثمنا مبالغا فيه للأصول المسمومة، بصفة خاصة في حال تقييم تلك الأصول بالقيمة الدفترية لها، وكذلك الحال بالنسبة للضمانات الحكومية، حيث ستكون هناك مشكلة في عملية التقييم في حال حدوث خسائر تلحق بالبنك. ومن وجهة نظره فان خيار التأميم يبرز كأفضل هذه الحلول. بل إن رئيس الاحتياطي الفدرالي السابق آلان جرينسبان أشار إلى ضرورة تأميم البنوك في ظل مناخ الأزمة.
مصطلح تأميم البنوك يعني ببساطة شديدة مساهمة الدولة في دعم رأس مال البنوك لمواجهة الضغوط المالية الناجمة عن الأزمة للحيلولة دون انهيارها، وبحيث تصبح الحكومة مالكة بشكل جزئي أو كلي للبنك. الفكرة الأساسية وراء التأميم بسيطة وهي أنه في حالة وجود أصول مسمومة لدى البنوك فان رأس مال البنوك يكون غير كاف، وإذا وجدت البنوك صعوبة في توفير احتياجاتها الرأسمالية فان الحكومة لا بد وأن تتدخل لإنقاذ البنوك من خلال مساعدتها على التخلص من الأصول ذات المخاطر المرتفعة. بمعنى أخر فإن تعثر البنوك قد يتحول إلى عملية ضخمة لإعادة الرسملة قد تشارك فيها الحكومة إما بشكل كلي أو جزئي، ومن وجهة نظر مؤيدي هذا الخيار فان تأميم البنوك يصبح ضرورة لتفادي المخاطر النظامية التي تنشأ عن انهيار احد البنوك الكبرى في سوق مصرفي كبير، أو أحد البنوك الصغيرة في سوق مصرفي محدود، ومن الناحية العلمية فإن التعريف العلمي للتأميم هو "جعل الصناعة، أيا كان نوع النشاط الذي تمارسه، ضمن نطاق الملكية العامة للدولة، وتحت رقابتها".
بالنسبة لبعض المراقبين فان التأميم يجب أن يكون الحل الأخير، ذلك أن هناك خيارات أخرى يمكن أن تلجأ إليها الحكومة قبل فرض التأميم مثل خيار الاندماج لتكوين كيانات مصرفية أكبر وأقدر على تحمل مخاطر الصناعة والحفاظ بصورة أفضل على أموال المودعين والمساهمين. غير أنه في ظل ظروف الأزمة فان خيار الاندماج بين بنكين ربما يكون أشبه باثنان من السكارى يحاولان مساعدة بعضهما البعض على الوقوف، كما يذكر روبيني.
ومما لا شك فيه أن الملكية الخاصة للبنوك تعد أمرا مهما، على الأقل لضمان تنافسية البنوك، وخصوصا عندما تكون أعمال البنوك منظمة على نحو جيد في ظل إطار رقابي يسمح للسلطات النقدية بممارسة دورها بشكل فعال للحيلولة دون حدوث انحرافات تهدد سلامة النظام المصرفي، ومن ثم فإن فكرة تأميم البنوك تبدو غير مريحة وغير محببة على الآذان، وتخضع للكثير من الجدل. غير أن انتشار الأصول المسمومة في القطاع المصرفي قد يجعل الفكرة ضرورية، ومن المؤكد أن أي عملية إنقاذ للبنوك سوف تكون الحكومة طرفا فيها، وهو ما يجعل خيار التأميم غير مستبعد.
لماذا يخشى البعض من خيار التأميم؟ الإجابات على هذا السؤال متعددة فأولا يعد مجرد الحديث عن التأميم إشارة إلى عمق الأزمة المالية التي يواجهها القطاع المالي وهو ما يرفع من درجة عدم التأكد، وثانيا أن المصطلح يوحي بأن القطاع المالي يسير نحو الاتجاه الخطأ باعتبار أن القطاع العام ليس مديرا جيدا للموارد، وقد ينظر إلى التأميم على انه احد السياسات الاشتراكية التي فشلت في معظم دول العالم، كما أن تأميم البنوك يتناقض مع الاتجاه الذي يسود العالم نحو تخصيص الأصول العامة والتخلص من القطاع العام. أما بالنسبة لموظفي البنوك فعند التأميم يتحول البنك إلى مؤسسة قطاع عام، وهو ما يؤثر على حجم المدفوعات التي يحصلون عليها، ولذلك يتوقع مع عملية التأميم هجرة الكفاءات من الموظفين إلى مؤسسات مالية خاصة أخرى تدفع مدفوعات أعلى، الأمر الذي يؤثر على كفاءة البنك المؤمم مقارنة بكفاءته عندما كان في ظل الملكية الخاصة.
ولكن كيف للبنوك أن تتعامل مع تآكل رؤوس أموالها بفعل الأزمة. إن تزايد نسبة الخسائر إلى رأس المال البنوك قد يجعل من المستحيل أن تتم عملية ضخ أموال في هذه البنوك بدون تملك الدولة لجانب من رأس مال البنوك، بصفة خاصة عندما يصعب على البنوك توفير احتياجاتها الرأسمالية من مصادر خاصة.
التجارب الدولية للتعامل مع مخاطر القطاع المصرفي متعددة، إلا أنه من الواضح أن هناك تفضيلا عالميا لأن يلعب رأس المال الخاص الدور الأساسي في عملية إنقاذ البنوك، بما في ذلك الرئيس الأمريكي أوباما الذي يفضل أن تتم عملية زيادة رؤوس أموال البنوك من خلال رأس المال الخاص. وحاليا تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضخ الأموال في النظام المصرفي الأمريكي على أمل أن تتم عملية إنعاش أسواق الائتمان في ظل الأزمة، وهو ما يعرف ببرنامج إنقاذ الأصول المضطربة TARP. ومن الناحية العملية فان الحكومة الأمريكية تقدم الأموال فقط للبنوك ذات الوضع المالي الصحي أما باقي البنوك فلا تهتم الحكومة بها، بل إنه وفقا للمؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع فان عدد البنوك الأمريكية التي أغلقت أبوابها منذ مطلع عام 2009 حتى الآن بلغ 53 بنكا. لحسن حظ الولايات المتحدة انه حتى الآن لم يتعرض أي من البنوك الضخمة للانهيار، ومن المؤكد أن حدوث ذلك سوف يجلب خيار التأميم على بساط البحث بسرعة استنادا إلى مبدأ "أكبر من أن يسمح له بالانهيار too big to fall". غير أن بديل التأميم الذي تفكر فيه الولايات المتحدة حاليا هو أن تقوم بتجميع كافة الأصول المسمومة للبنوك في محفظة واحدة يطلق عليها البنك السيئ bad bank، ليتم تأميم تلك القروض، بهذا الشكل يتم تخليص البنوك من أصولها المسمومة بدون أن تكون هناك حاجة إلى تأميم البنوك ذاتها. غير انه في نموذج البنك السيئ سوف تواجه الحكومة مشكلة إضافية وهي كيفية إدارة كافة الأصول السيئة التي قامت بشرائها.
وتعد التجربة السويدية في التأميم النموذج الأمثل الذي يتحدث عنه العالم في هذا الجانب. فقد لجأت السويد في أوائل التسعينيات إلى التأميم المؤقت لبنوكها في تجربة تعد رائدة في هذا المجال، حيث استطاعت إنقاذ أوضاعها الاقتصادية من التدهور من خلال تأميم البنوك. فبدءا من عام 1992 قامت الحكومة السويدية بتأميم البنوك المتعثرة، ثم تابعت عملية تنظيفها من أصولها المسمومة، ثم أعادت عملية تخصيصها بسرعة مرة أخرى. على سبيل المثال حاولت الحكومة أن تقوم بإصلاح أوضاع بنك نوردبانكين ولكنها اكتشفت أن عملية الإصلاح غير كافية، ومن ثم قررت أن تقوم بتأميم البنك وإعادة رسملته. بنك نوردبانكين كان ضخم الحجم لدرجة أن أصوله كانت تمثل حوالي 23% من الناتج المحلي السويدي، وقد بلغت فاتورة إعادة رسملة البنك حوالي 3% من الناتج المحلي، ومنذ البداية كان هدف الحكومة هو إعادة تخصيص البنك في أسرع وقت ممكن لاستعادة استثماراتها. وفي غضون سنوات قليلة قامت الحكومة بإعادة تخصيص البنك مرة أخرى، واستطاعت بذلك أن تتجنب الآثار المدمرة لازمتها على القطاع المصرفي بشكل خاص واقتصادها بشكل عام. ولذلك ينظر البعض إلى التجربة السويدية على أنها الوصفة النموذجية في ظل أوضاع الأزمة. وتنبغي الإشارة إلى أن صغر حجم الاقتصاد السويدي وكذلك حجم القطاع المصرفي فيه قد ساعد على نجاح التجربة، ولذلك يرى البعض ومنهم الرئيس أوباما أن التجربة السويدية قد تبدو غير صالحة للتطبيق في اقتصاد ضخم مثل الاقتصاد الأمريكي.
غير أن اليابان قد قضت حوالي عقد من الزمان في حالة كساد بسبب فشلها في أن تنظف بنوكها من القروض السيئة، وأخيرا اضطرت إلى تأميم بعض البنوك في 2003، وسمحت بإفلاس البنوك الضعيفة، ولكن بعد أن فقد مؤشر نيكاي حوالي 75% من قيمته. وخلال الفترة من 1992-2005 كانت اليابان قد شطبت ما يزيد عن 96 تريليون ينا من الديون المسمومة، أو حوالي 19% من ناتجها المحلي، إلا أن ذلك قد ساعد على استعادة الثقة في النظام المصرفي الياباني. بعض المراقبين يرون أن الولايات المتحدة ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته اليابان في التسعينيات ويدعون إلى ضرورة تأميم البنوك الأمريكية.
الدرس الذي يمكن استخلاصه من التجربة السويدية واليابانية هي أن إنقاذ البنوك كان عاملا رئيسيا في الخروج من الكساد، وأن برامج التحفيز الاقتصادي لن تنجح ما لم يتم إصلاح خلل النظام المصرفي أولا. وأخيرا فانه هناك بعض الملاحظات الهامة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار وهي:
· أن اختبارات الضغط المصرفي تعد ضرورة للتعرف على حجم الخسائر المحتملة للبنوك وفق أسوأ السيناريوهات المطروحة في الاختبارات، ومن ثم تساعد اختبارات الضغط بشكل كبير في معرفة مدى الحاجة إلى إعادة رسملة البنوك ومن ثم تقييم مدى جدوى خيار التأميم للتعامل مع أوضاع البنوك المتعثرة. خليجيا لم تجر أي اختبارات للضغط المصرفي حتى الآن، وبالنسبة لدولة الكويت فان الجهة الوحيدة التي أجرت مثل هذه الاختبارات للبنوك الكويتية هي صندوق النقد الدولي، وقد لاقت نتائج تلك الاختبارات انتقادات عديدة سواء من قبل البنك المركزي أو من قبل بعض قادة القطاع المصرفي في الكويت.
· من المؤكد أن الحكومة لا تسعى كما أنها لا ترغب في تملك البنوك، ولكن في اقتصاديات صغيرة مثل دول الخليج لا يمكن السماح لبنك، حتى لو كان صغيرا، بالإفلاس نظرا للمخاطر الهائلة التي يمكن أن تنجم عن ذلك، ومن ثم قد يكون خيار التأميم مهما لإنقاذ البنوك من المفاجآت غير السارة والتي تتراكم يوما بعد يوم. وفي ظل أسوأ السيناريوهات ربما تلجأ الحكومة إلى تأميم مؤقت للبنوك التي تواجه رصيدا كبيرا من الأصول المسمومة كإجراء أخير لإصلاح النظام المالي ومعالجة آثار الأزمة.
· أن التأميم سوف يمكن الحكومة من أن تقرر ما يجب أن تفعله البنوك، أو على الأقل سيمكن التأميم البنوك من مواجهة مشكلة الأصول المسمومة ومن ثم تمكين البنوك من متابعة عملية الإقراض. وماليا قد يكون التأميم أفضل من أن تقوم الحكومة بضخ الأموال في البنوك والذي يؤدي إلى تحقيق حملة الأسهم لأرباح ناجمة عن ارتفاع أسعار الأسهم في السوق نتيجة لذلك على حساب المال العام.
· أن قانون الاستقرار المالي المقترح يقدم ضمانات حكومية للبنوك، ولكن هذه الضمانات تسري على الإقراض الجديد فقط، ومن المؤكد أن المشكلة الحقيقية التي تواجهها البنوك ليست في الإقراض الجديد، ولكن في القروض القديمة التي منحت في فترة ما قبل الأزمة. وحاليا تعتمد البنوك في الكويت على احتياطياتها لمواجهة أي احتمال للتعثر. ولكن هل تكفي هذه الاحتياطيات لما يمكن أن تنبئ عنه المفاجئات غير السارة في المستقبل. مرة أخرى لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا من خلال اختبارات الضغط المصرفي.
· أن مواجهة الأسوأ تقتضى أن تكون خطة التأميم جاهزة أو على الأقل مأخوذة في الحسبان كأحد الخيارات الإستراتيجية للدفاع عن سوق الخدمات المصرفية المحلي والتأكد من سلامة عمل النظام المالي برمته، كخيار أخير من منطلق أن "آخر العلاج الكي".
عندما تضطرب أصول البنوك أو يصبح جانبا كبيرا منها أصولا مسمومة، أو عندما ترتفع درجة انكشاف البنوك على المؤسسات التي ترفع درجة مخاطرها، فان احتمال فشل البنوك يتزايد، وعندما تسري الأخبار عن احتمال فشل أحد البنوك فإن ذلك يتسبب في حالة من الذعر المالي تطال ليس فقط البنوك المضطربة، ولكن أيضا البنوك ذات الوضع المالي المتين، ولا شك أن أحداث أزمة بنك الخليج في الكويت ليست عنا ببعيد. في ظل أسوأ سيناريوهات الأزمة قد تتحول بعض البنوك إلى ما يسمى ببنوك الزومبي Zombie Banks، وهي البنوك التي يكون صافي أصولها اقل من الصفر، والتي عادة ما تمثل مشكلة كبيرة في أوقات الأزمات المالية. وللتعرف على قدرتها على تحمل المخاطر المصاحبة لتوقف بعض المقترضين عن السداد يجرى ما يعرف باختبارات الضغط المصرفي للبنوك لكي توضح الحاجة الحقيقية لعملية إعادة الرسملة إذا ما تحققت السيناريوهات المطروحة في اختبارات الضغط. وفي ظل أسوأ السيناريوهات وتحاشيا لحالة الفوضى المصرفية في ظل انتشار الذعر المالي، فقد يبدو خيار تأميم البنوك هو الحل الأمثل لمشكلة الأصول المسمومة ولوقف اتجاه البنوك نحو التعثر ولإنقاذ القطاع المالي والاقتصاد المحلي برمته.
تأميم البنوك عبارة أصبحنا نسمعها كثيرا في أعقاب الأزمة المالية العالمية، على سبيل المثال دعا الرئيس البرازيلي العالم إلى تأميم البنوك التي تعاني من آثار الأزمة المالية، بدلا من الاستمرار في ضخ الأموال فيها، وطالب الحكومات بان تكون أكثر جرأة في تأميم تلك البنوك لكي يبدأ الائتمان في التدفق مرة أخرى خارج البنوك. الاقتصادي نورييل روبيني الذي تنبأ بالأزمة المالية قبل حدوثها يرى أن هناك أربعة أساليب للتعامل مع البنوك التي تعاني من مخاطر نظامية وهي: إعادة رسملة البنوك مع قيام البنوك بشراء أصولها المسمومة، والثاني وهو إعادة الرسملة مع تقديم ضمانات حكومية لمواجهة خسائر البنوك، والثالث هو أن تعرض الأصول المسمومة للبيع إلى القطاع الخاص مصحوبة بضمانات حكومية أو ربما من خلال إنشاء صندوق مشترك من الحكومة والقطاع الخاص لإنشاء ما يسمى بالبنك السيئ bad bank، ليضم كل هذه الأصول، والرابع وهو تأميم البنوك المتعثرة وإعادة تنظيفها ثم إعادة تخصيصها مرة أخرى في إشارة إلى التجربة السويدية. ومن بين هذه الخيارات الأربعة يرى روبيني أن هناك عيوبا عديدة في الخيارات الثلاث الأولى، بصفة خاصة في نموذج البنك السيئ حيث أن هناك احتمال أن تدفع الحكومة ثمنا مبالغا فيه للأصول المسمومة، بصفة خاصة في حال تقييم تلك الأصول بالقيمة الدفترية لها، وكذلك الحال بالنسبة للضمانات الحكومية، حيث ستكون هناك مشكلة في عملية التقييم في حال حدوث خسائر تلحق بالبنك. ومن وجهة نظره فان خيار التأميم يبرز كأفضل هذه الحلول. بل إن رئيس الاحتياطي الفدرالي السابق آلان جرينسبان أشار إلى ضرورة تأميم البنوك في ظل مناخ الأزمة.
مصطلح تأميم البنوك يعني ببساطة شديدة مساهمة الدولة في دعم رأس مال البنوك لمواجهة الضغوط المالية الناجمة عن الأزمة للحيلولة دون انهيارها، وبحيث تصبح الحكومة مالكة بشكل جزئي أو كلي للبنك. الفكرة الأساسية وراء التأميم بسيطة وهي أنه في حالة وجود أصول مسمومة لدى البنوك فان رأس مال البنوك يكون غير كاف، وإذا وجدت البنوك صعوبة في توفير احتياجاتها الرأسمالية فان الحكومة لا بد وأن تتدخل لإنقاذ البنوك من خلال مساعدتها على التخلص من الأصول ذات المخاطر المرتفعة. بمعنى أخر فإن تعثر البنوك قد يتحول إلى عملية ضخمة لإعادة الرسملة قد تشارك فيها الحكومة إما بشكل كلي أو جزئي، ومن وجهة نظر مؤيدي هذا الخيار فان تأميم البنوك يصبح ضرورة لتفادي المخاطر النظامية التي تنشأ عن انهيار احد البنوك الكبرى في سوق مصرفي كبير، أو أحد البنوك الصغيرة في سوق مصرفي محدود، ومن الناحية العلمية فإن التعريف العلمي للتأميم هو "جعل الصناعة، أيا كان نوع النشاط الذي تمارسه، ضمن نطاق الملكية العامة للدولة، وتحت رقابتها".
بالنسبة لبعض المراقبين فان التأميم يجب أن يكون الحل الأخير، ذلك أن هناك خيارات أخرى يمكن أن تلجأ إليها الحكومة قبل فرض التأميم مثل خيار الاندماج لتكوين كيانات مصرفية أكبر وأقدر على تحمل مخاطر الصناعة والحفاظ بصورة أفضل على أموال المودعين والمساهمين. غير أنه في ظل ظروف الأزمة فان خيار الاندماج بين بنكين ربما يكون أشبه باثنان من السكارى يحاولان مساعدة بعضهما البعض على الوقوف، كما يذكر روبيني.
ومما لا شك فيه أن الملكية الخاصة للبنوك تعد أمرا مهما، على الأقل لضمان تنافسية البنوك، وخصوصا عندما تكون أعمال البنوك منظمة على نحو جيد في ظل إطار رقابي يسمح للسلطات النقدية بممارسة دورها بشكل فعال للحيلولة دون حدوث انحرافات تهدد سلامة النظام المصرفي، ومن ثم فإن فكرة تأميم البنوك تبدو غير مريحة وغير محببة على الآذان، وتخضع للكثير من الجدل. غير أن انتشار الأصول المسمومة في القطاع المصرفي قد يجعل الفكرة ضرورية، ومن المؤكد أن أي عملية إنقاذ للبنوك سوف تكون الحكومة طرفا فيها، وهو ما يجعل خيار التأميم غير مستبعد.
لماذا يخشى البعض من خيار التأميم؟ الإجابات على هذا السؤال متعددة فأولا يعد مجرد الحديث عن التأميم إشارة إلى عمق الأزمة المالية التي يواجهها القطاع المالي وهو ما يرفع من درجة عدم التأكد، وثانيا أن المصطلح يوحي بأن القطاع المالي يسير نحو الاتجاه الخطأ باعتبار أن القطاع العام ليس مديرا جيدا للموارد، وقد ينظر إلى التأميم على انه احد السياسات الاشتراكية التي فشلت في معظم دول العالم، كما أن تأميم البنوك يتناقض مع الاتجاه الذي يسود العالم نحو تخصيص الأصول العامة والتخلص من القطاع العام. أما بالنسبة لموظفي البنوك فعند التأميم يتحول البنك إلى مؤسسة قطاع عام، وهو ما يؤثر على حجم المدفوعات التي يحصلون عليها، ولذلك يتوقع مع عملية التأميم هجرة الكفاءات من الموظفين إلى مؤسسات مالية خاصة أخرى تدفع مدفوعات أعلى، الأمر الذي يؤثر على كفاءة البنك المؤمم مقارنة بكفاءته عندما كان في ظل الملكية الخاصة.
ولكن كيف للبنوك أن تتعامل مع تآكل رؤوس أموالها بفعل الأزمة. إن تزايد نسبة الخسائر إلى رأس المال البنوك قد يجعل من المستحيل أن تتم عملية ضخ أموال في هذه البنوك بدون تملك الدولة لجانب من رأس مال البنوك، بصفة خاصة عندما يصعب على البنوك توفير احتياجاتها الرأسمالية من مصادر خاصة.
التجارب الدولية للتعامل مع مخاطر القطاع المصرفي متعددة، إلا أنه من الواضح أن هناك تفضيلا عالميا لأن يلعب رأس المال الخاص الدور الأساسي في عملية إنقاذ البنوك، بما في ذلك الرئيس الأمريكي أوباما الذي يفضل أن تتم عملية زيادة رؤوس أموال البنوك من خلال رأس المال الخاص. وحاليا تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضخ الأموال في النظام المصرفي الأمريكي على أمل أن تتم عملية إنعاش أسواق الائتمان في ظل الأزمة، وهو ما يعرف ببرنامج إنقاذ الأصول المضطربة TARP. ومن الناحية العملية فان الحكومة الأمريكية تقدم الأموال فقط للبنوك ذات الوضع المالي الصحي أما باقي البنوك فلا تهتم الحكومة بها، بل إنه وفقا للمؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع فان عدد البنوك الأمريكية التي أغلقت أبوابها منذ مطلع عام 2009 حتى الآن بلغ 53 بنكا. لحسن حظ الولايات المتحدة انه حتى الآن لم يتعرض أي من البنوك الضخمة للانهيار، ومن المؤكد أن حدوث ذلك سوف يجلب خيار التأميم على بساط البحث بسرعة استنادا إلى مبدأ "أكبر من أن يسمح له بالانهيار too big to fall". غير أن بديل التأميم الذي تفكر فيه الولايات المتحدة حاليا هو أن تقوم بتجميع كافة الأصول المسمومة للبنوك في محفظة واحدة يطلق عليها البنك السيئ bad bank، ليتم تأميم تلك القروض، بهذا الشكل يتم تخليص البنوك من أصولها المسمومة بدون أن تكون هناك حاجة إلى تأميم البنوك ذاتها. غير انه في نموذج البنك السيئ سوف تواجه الحكومة مشكلة إضافية وهي كيفية إدارة كافة الأصول السيئة التي قامت بشرائها.
وتعد التجربة السويدية في التأميم النموذج الأمثل الذي يتحدث عنه العالم في هذا الجانب. فقد لجأت السويد في أوائل التسعينيات إلى التأميم المؤقت لبنوكها في تجربة تعد رائدة في هذا المجال، حيث استطاعت إنقاذ أوضاعها الاقتصادية من التدهور من خلال تأميم البنوك. فبدءا من عام 1992 قامت الحكومة السويدية بتأميم البنوك المتعثرة، ثم تابعت عملية تنظيفها من أصولها المسمومة، ثم أعادت عملية تخصيصها بسرعة مرة أخرى. على سبيل المثال حاولت الحكومة أن تقوم بإصلاح أوضاع بنك نوردبانكين ولكنها اكتشفت أن عملية الإصلاح غير كافية، ومن ثم قررت أن تقوم بتأميم البنك وإعادة رسملته. بنك نوردبانكين كان ضخم الحجم لدرجة أن أصوله كانت تمثل حوالي 23% من الناتج المحلي السويدي، وقد بلغت فاتورة إعادة رسملة البنك حوالي 3% من الناتج المحلي، ومنذ البداية كان هدف الحكومة هو إعادة تخصيص البنك في أسرع وقت ممكن لاستعادة استثماراتها. وفي غضون سنوات قليلة قامت الحكومة بإعادة تخصيص البنك مرة أخرى، واستطاعت بذلك أن تتجنب الآثار المدمرة لازمتها على القطاع المصرفي بشكل خاص واقتصادها بشكل عام. ولذلك ينظر البعض إلى التجربة السويدية على أنها الوصفة النموذجية في ظل أوضاع الأزمة. وتنبغي الإشارة إلى أن صغر حجم الاقتصاد السويدي وكذلك حجم القطاع المصرفي فيه قد ساعد على نجاح التجربة، ولذلك يرى البعض ومنهم الرئيس أوباما أن التجربة السويدية قد تبدو غير صالحة للتطبيق في اقتصاد ضخم مثل الاقتصاد الأمريكي.
غير أن اليابان قد قضت حوالي عقد من الزمان في حالة كساد بسبب فشلها في أن تنظف بنوكها من القروض السيئة، وأخيرا اضطرت إلى تأميم بعض البنوك في 2003، وسمحت بإفلاس البنوك الضعيفة، ولكن بعد أن فقد مؤشر نيكاي حوالي 75% من قيمته. وخلال الفترة من 1992-2005 كانت اليابان قد شطبت ما يزيد عن 96 تريليون ينا من الديون المسمومة، أو حوالي 19% من ناتجها المحلي، إلا أن ذلك قد ساعد على استعادة الثقة في النظام المصرفي الياباني. بعض المراقبين يرون أن الولايات المتحدة ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته اليابان في التسعينيات ويدعون إلى ضرورة تأميم البنوك الأمريكية.
الدرس الذي يمكن استخلاصه من التجربة السويدية واليابانية هي أن إنقاذ البنوك كان عاملا رئيسيا في الخروج من الكساد، وأن برامج التحفيز الاقتصادي لن تنجح ما لم يتم إصلاح خلل النظام المصرفي أولا. وأخيرا فانه هناك بعض الملاحظات الهامة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار وهي:
· أن اختبارات الضغط المصرفي تعد ضرورة للتعرف على حجم الخسائر المحتملة للبنوك وفق أسوأ السيناريوهات المطروحة في الاختبارات، ومن ثم تساعد اختبارات الضغط بشكل كبير في معرفة مدى الحاجة إلى إعادة رسملة البنوك ومن ثم تقييم مدى جدوى خيار التأميم للتعامل مع أوضاع البنوك المتعثرة. خليجيا لم تجر أي اختبارات للضغط المصرفي حتى الآن، وبالنسبة لدولة الكويت فان الجهة الوحيدة التي أجرت مثل هذه الاختبارات للبنوك الكويتية هي صندوق النقد الدولي، وقد لاقت نتائج تلك الاختبارات انتقادات عديدة سواء من قبل البنك المركزي أو من قبل بعض قادة القطاع المصرفي في الكويت.
· من المؤكد أن الحكومة لا تسعى كما أنها لا ترغب في تملك البنوك، ولكن في اقتصاديات صغيرة مثل دول الخليج لا يمكن السماح لبنك، حتى لو كان صغيرا، بالإفلاس نظرا للمخاطر الهائلة التي يمكن أن تنجم عن ذلك، ومن ثم قد يكون خيار التأميم مهما لإنقاذ البنوك من المفاجآت غير السارة والتي تتراكم يوما بعد يوم. وفي ظل أسوأ السيناريوهات ربما تلجأ الحكومة إلى تأميم مؤقت للبنوك التي تواجه رصيدا كبيرا من الأصول المسمومة كإجراء أخير لإصلاح النظام المالي ومعالجة آثار الأزمة.
· أن التأميم سوف يمكن الحكومة من أن تقرر ما يجب أن تفعله البنوك، أو على الأقل سيمكن التأميم البنوك من مواجهة مشكلة الأصول المسمومة ومن ثم تمكين البنوك من متابعة عملية الإقراض. وماليا قد يكون التأميم أفضل من أن تقوم الحكومة بضخ الأموال في البنوك والذي يؤدي إلى تحقيق حملة الأسهم لأرباح ناجمة عن ارتفاع أسعار الأسهم في السوق نتيجة لذلك على حساب المال العام.
· أن قانون الاستقرار المالي المقترح يقدم ضمانات حكومية للبنوك، ولكن هذه الضمانات تسري على الإقراض الجديد فقط، ومن المؤكد أن المشكلة الحقيقية التي تواجهها البنوك ليست في الإقراض الجديد، ولكن في القروض القديمة التي منحت في فترة ما قبل الأزمة. وحاليا تعتمد البنوك في الكويت على احتياطياتها لمواجهة أي احتمال للتعثر. ولكن هل تكفي هذه الاحتياطيات لما يمكن أن تنبئ عنه المفاجئات غير السارة في المستقبل. مرة أخرى لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا من خلال اختبارات الضغط المصرفي.
· أن مواجهة الأسوأ تقتضى أن تكون خطة التأميم جاهزة أو على الأقل مأخوذة في الحسبان كأحد الخيارات الإستراتيجية للدفاع عن سوق الخدمات المصرفية المحلي والتأكد من سلامة عمل النظام المالي برمته، كخيار أخير من منطلق أن "آخر العلاج الكي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق