نشر في جريدة الاقتصادية السعودية بتاريخ السبت 1/8/2009
في مقال له في وول ستريت جورنال أشار بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي للولايات المتحدة) إلى أن الاحتياطي الفدرالي قد اضطر في ظل الأزمة إلى إتباع سياسات نقدية توسعية، حيث قام بخفض معدل الفائدة على الأموال الفدرالية (قروض ما بين البنوك لمدة ليلة واحدة) إلى الصفر تقريبا، كما قام بزيادة حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي من خلال شراء سندات حكومية طويلة الأجل (ومن ثم طبع مزيد من الدولارات في المقابل) بهدف ضمان إعادة ضخ الائتمان في شريان الاقتصاد الأمريكي. ومن وجهة نظر بن برنانكي فإن هذه الإجراءات قد ساعدت على التخفيف من آثار الأزمة المالية الحالية على الاقتصاد الأمريكي، كما أدت إلى تحسين أداء أسواق الائتمان، بما في ذلك عمليات الإقراض ما بين البنوك، والأوراق التجارية، والائتمان الاستهلاكي، والقروض العقارية. ومن المعلوم أن الأهداف الأساسية للاحتياطي الفدرالي يمكن اختصارها في تعظيم مستويات التوظف في الاقتصاد الأمريكي والحفاظ على استقرار الأسعار، ومن ثم فانه يقوم بتصميم سياساته النقدية لضمان حدوث التوازن بين هذه الهدفين المتناقضين. سياسات الاحتياطي الفدرالي مؤخرا ارتكزت على تحقيق الهدف الأول من خلال العمل على تحفيز مستويات النشاط الاقتصادي، إلا أن تلك السياسات النقدية التوسعية تهدد الاقتصاد الأمريكي حاليا بمزيد من معدلات التضخم في المستقبل.
وقد حذر برنانكي من أن هذه السياسات التوسعية سوف تستمر لفترة زمنية أطول في المستقبل، غير انه حالما يبدأ الاقتصاد الأمريكي في استعادة النشاط الاقتصادي، سوف يقوم الاحتياطي الفدرالي بإتباع سياسات نقدية متشددة لمكافحة مشكلة التضخم، كذلك أشار إلى أن لجنة السوق المفتوح الفدرالية قد قامت بدراسة مكثفة لسبل خروج الولايات المتحدة من سياساتها النقدية التوسعية، وأنه واثق من أن الاحتياطي الفدرالي لديه من الأدوات التي تمكنه من الخروج من تلك السياسات عندما يصبح ذلك الأمر مناسبا.
ترتبط استراتيجية الخروج التي عرضها برنانكي بإدارة حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي، ذلك أنه عندما يقوم الاحتياطي الفدرالي بمنح قروض أو شراء أوراق مالية، فان النقود تخرج من الاحتياطي الفدرالي إلى الجهاز المصرفي، ومن ثم تظهر ضمن بند حساب الاحتياطيات الذي تحتفظ به البنوك ومؤسسات الإيداع الأخرى لدى الاحتياطي الفدرالي، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي ومن ثم زيادة عرض النقود. وتبلغ أرصدة حساب احتياطيات المؤسسات المالية لدى الاحتياطي الفدرالي حاليا بحوالي 800 مليار دولار، وهذا الرقم اكبر بكثير من الوضع الطبيعي لهذا الحساب، وهو ما يعني ضمنا ارتفاع درجة سيولة البنوك ومؤسسات الإيداع في الولايات المتحدة، ذلك أنه نظرا لظروف الأزمة الحالية وانخفاض حجم الطلب على الائتمان المصرفي قامت البنوك ومؤسسات الإيداع بالاحتفاظ باحتياطاتها لدى الاحتياطي الفدرالي بشكل عام. غير انه حالما يستعيد النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة مستوياته قبل الأزمة، فان البنوك سوف تجد فرصا أكبر للإقراض، وهو ما يؤدي إلى زيادة في عرض النقود، الأمر الذي سوف يتسبب في ضغوط تضخمية، ما لم يقم الاحتياطي الفدرالي باتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من عرض النقود للحيلولة دون حدوث ذلك وتحييد أي آثار كامنة لعرض النقود على الاقتصاد المحلي في الولايات المتحدة.
الأرقام الواردة من الاحتياطي الفدرالي تشير إلى أن تحسن الأوضاع الاقتصادية قد أدى إلى تخفيض حجم الائتمان قصير الأجل الذي يقدمه الاحتياطي الفدرالي للبنوك إلى اقل من 600 مليار دولار في يوليو، مقارنة بحوالي 1.5 تريليون دولار في أواخر 2008. وقد أشار برنانكي إلى انه يمكن تخفيض حجم احتياطيات البنوك بحوالي 100-200 مليار دولار في كل سنة من السنوات القليلة القادمة، وذلك عندما يحل موعد سداد الأوراق المالية التي في حوزة الاحتياطي الفدرالي أو نتيجة لعمليات السداد المبكر لقيمتها. غير أن احتياطيات البنوك سوف تظل مرتفعة خلال السنوات القادمة ما لم يتخذ الاحتياطي الفدرالي سياسات إضافية لمعالجتها. ومن هذه السياسات المقترحة يشير برنانكي إلى انه من الممكن أن يقوم الاحتياطي الفدرالي برفع معدلات الفائدة على هذه الاحتياطيات (وذلك لحث البنوك على عدم استخدامها في الإقراض، والاحتفاظ بها لديه). ففي أكتوبر الماضي أعطى الكونجرس الاحتياطي الفدرالي الحق في دفع فوائد على احتياطيات البنوك لديه، ويبلغ معدل الفائدة على هذه الاحتياطيات حاليا 0.25%. ومن وجهة نظر برنانكي يؤدي رفع معدل الفوائد على الاحتياطيات إلى عدم تشجيع البنوك على الإقراض، لأنها لن تقرض بمعدل اقل من معدل الفائدة الذي تحصل عليه من ودائعها لدى الاحتياطي الفدرالي، وهو ما يقلل من عرض النقود. الاحتياطي الفدرالي يمكنه إذن أن يقوم برفع تلك معدلات الفائدة على المودعات من احتياطيات البنوك وكذلك رفع معدلات الفائدة على قروض ما بين البنوك، أو ما يسمى بمعدل الأموال الفدرالية، أو استخدام أي إجراءات أخرى لتقليل حجم الاحتياطيات، أو ربما استخدام مزيج من السياستين.
ويدافع برنانكي عن هذه سياسة رفع معدل الفائدة على احتياطيات البنوك قائلا بأن التجربة الدولية تشير إلى أن دفع معدلات فائدة على احتياطيات البنوك لدى البنك المركزي تؤثر بشكل فعال على معدلات الفائدة قصيرة الأجل، ضاربا مثالا من تجربة البنك المركزي الأوروبي الذي سمح للبنوك بإيداع فوائض احتياطياتها لديه في حساب الاحتياطيات بمعدلات فائدة، وبالرغم من أن ذلك الإجراء أدى إلى زيادة حجم ميزانية البنك المركزي الأوروبي، إلا أن معدل الفائدة بين البنوك ظل عند مستوى معدل الفائدة على مودعات احتياطيات البنوك أو أعلى قليلا. كذلك فان البنوك المركزية لليابان وكندا تستخدم أيضا معدلات الفوائد على مودعات احتياطيات البنوك لديها لوضع حد أقصى على معدلات الفائدة قصيرة الأجل.
وفي ظل الظروف الطبيعية فان رغبة البنوك في القيام بعمليات تحكيم في معدلات الفائدة (أي للاستفادة من الفرق بين معدل الفائدة قصير الأجل ومعدل الفائدة على الاحتياطيات لدى البنك المركزي) سوف يؤدي إلى تقليل الفجوة بين المعدلين، أي أنه مع قيام البنوك بسحب احتياطياتها من البنك المركزي للقيام بعمليات إقراض قصير الأجل سوف يؤدي ذلك إلى تخفيض معدلات الفائدة على هذه القروض بحيث تقترب من معدل الفائدة على الاحتياطيات لدى البنك المركزي، ولكن ماذا لو استمرت هذه الفجوة بين المعدلين؟ يرى برنانكي انه يمكن القيام بمدفوعات إضافية على فوائد مودعات البنوك بالإضافة إلى اللجوء إلى خيارات إضافية لتقليل احتياطيات البنوك وسحب فوائض السيولة من السوق، وقد عرض برنانكي أربع خيارات للقيام بذلك وهي:
الأول: يمكن للاحتياطي الفدرالي سحب احتياطيات البنوك وتخفيض فائض السيولة من المؤسسات المالية الأخرى من خلال اتفاقيات إعادة الشراء العكسي، أي بأن يقوم الاحتياطي الفدرالي ببيع جانب من الأوراق المالية التي يحتفظ بها إلى البنوك في مقابل الاقتراض منها، على أن يقوم بإعادة شراء هذه الأوراق مرة أخرى في المستقبل بأسعار أعلى، وهو ما يعرف بالريبو العكسي.
الثاني: يمكن للخزانة الأمريكية أن تقوم ببيع أذون خزانة لتسحب جانب من سيولة البنوك ثم تقوم بإيداع إيرادات البيع في الاحتياطي الفدرالي، وهو ما يؤدي إلى تغيير هيكل ميزانية الاحتياطي الفدرالي من خلال زيادة رصيد مودعات وتخفيض رصيد احتياطيات البنوك لدى الاحتياطي الفدرالي.
الثالث: يمكن للاحتياطي الفدرالي أن يستخدم الحق الذي منحه له الكونجرس في دفع فوائد على أرصدة البنوك، بعرض ودائع بالأجل للبنوك لدى الاحتياطي الفدرالي، مثل شهادات الإيداع التي تقدمها البنوك لعملائها، مع إبعاد هذه المودعات عن سوق القروض ما بين البنوك.
الرابع: يمكن للاحتياطي الفدرالي أن يقوم بتخفيض الاحتياطيات من خلال بيع جانب من محفظة الأوراق المالية طويلة الأجل لديه في السوق المفتوح.
وتؤدي هذه الخيارات إلى زيادة معدلات الفائدة قصيرة الأجل ومن ثم تقليل النمو في عرض النقود والائتمان وبالتالي تشديد السياسة النقدية.
هذه هي الاستراتيجية التي عرضها بن برنانكي للخروج من السياسة النقدية التوسعية التي تتبعها الولايات المتحدة حاليا، والتي أثارت ردود فعل واسعة عالميا بصفة خاصة من قبل الدول التي تحتفظ باحتياطيات كبيرة من الدولار مثل الصين، نتيجة لتصاعد القلق حول مستقبل القوة الشرائية للدولار في ظل هذه السياسات. في رأيي أن تحقق السيناريو الذي عرضه برنانكي لن يكون سهلا لعدة أسباب:
1. أنه إذا استعاد النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة مستوياته بقوة فان ذلك سوف يؤدي زيادة الطلب على الائتمان ومن إلى رفع معدلات الفائدة بحيث تتمكن البنوك من تحقيق هامش جيد بين معدلات الفائدة على قروضها ومعدلات الفائدة على مودعاتها من الاحتياطيات لدى الاحتياطي الفدرالي، خصوصا إذا كان الطلب على الائتمان كبيرا من قبل القطاعات المختلفة في الاقتصاد المحلي.
2. من المعلوم أنه إذا كانت معدلات التضخم مرتفعة فان معدلات الفائدة لا بد وان ترتفع أيضا، وهو ما يشجع البنوك على التحكيم في فروق معدلات الفائدة على ودائعها من الاحتياطيات ومعدلات الفائدة قصيرة الأجل، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة عرض النقود.
3. من أين سيدفع الاحتياطي الفدرالي الفوائد على أرصدة احتياطيات البنوك وكذلك المدفوعات الإضافية الأخرى، وإذا كانت مدفوعات فوائد خدمة الدين العام هي أيضا في تصاعد، وأخذا في الاعتبار القيود على رفع معدلات الضرائب، فانه من الصعب إتباع سياسات نقدية انكماشية في ظل هذه الأوضاع.
4. أن استعادة مستويات النشاط الاقتصادي سوف يرفع من مستويات الطلب على النقود، فإذا كان الاحتياطي الفدرالي سيتبع سياسات نقدية تقلل من عرض النقود للسيطرة على التضخم، فان ذلك سوف يتسبب في ارتفاع حاد في معدلات الفائدة، وهو ما سيؤدي إلى التأثير على الاقتصاد الحقيقي وانتشار الضغوط الانكماشية في الاقتصاد الأمريكي.
5. أن السيناريو الذي عرضه برنانكي يهمل الآثار المتوقعة لتلك السياسات على قيمة الدولار نتيجة رفع معدلات الفائدة، وهو ما سيؤدي إلى تعقيد أوضاع عجز ميزان المدفوعات الأمريكي مع الارتفاع المحتمل في قيمة الدولار نتيجة لتلك السياسات.
6. لم يحدد السيناريو المطروح إجراءات الاحتياطي الفدرالي في التعامل مع تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى الولايات المتحدة إلى الولايات المتحدة مع ميل معدلات الفائدة قصيرة الأجل نحو الارتفاع، أو الآثار التي يمكن أن تنشأ عن تعقيم أثر هذه التدفقات على عرض النقود في الولايات المتحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق