حقق القطاع الزراعي على المستوى العالمي نجاحات ضخمة بصفة خاصة خلال الـ 50 عاما الماضية، حيث تمت مضاعفة مستويات الإنتاج الزراعي عالميا، وتمت مواجهة الاحتياجات المتزايدة لقطاع عريض من السكان في العالم، وتم رفع نسبة ما يحصل عليه الفرد في المتوسط من الغذاء كما تم تحسين نوعية الغذاء الذي يتناوله الإنسان بشكل عام.
بالطبع لا يمكن تعميم هذه النتائج على كل أنحاء العالم، فقد تمايز أداء القطاع الزراعي بشكل واضح بين الأجزاء المختلفة في العالم. على سبيل المثال استطاعت آسيا أن تحقق زيادات واضحة في نصيب الفرد من الغذاء، وبدرجة أقل أمريكا اللاتينية، بينما كان أداء إفريقيا سيئا في هذا المجال بشكل عام، حيث انخفض متوسط نصيب الفرد من الغذاء.
لم يكن هذا النجاح الدولي في رفع مستويات الإنتاجية الزراعية سهلا، بل على العكس لقد جلب معه العديد من التحديات للعالم التي أصبحت اليوم تهدد استدامة عمليات الإنتاج الزراعي على النطاق الدولي. فالقطاع الزراعي هو أكبر القطاعات استخداما للموارد البيئية مثل المياه والغابات والمراعي والأسمدة والمغذيات الزراعية على اختلاف أشكالها، ومن ثم تعتمد استدامة الإنتاج الزراعي على درجة توافر هذه الموارد البيئية.
بشكل عام تشير الدراسات إلى أن هناك عدة مصادر للتحديات البيئية التي تهدد استدامة الإنتاج الزراعي في العالم والتي تتمثل في تدهور نوعية التربة، والقيود على توافر مياه الري اللازمة للإنتاج الزراعي، وفقدان التنوع البيولوجي، فضلا عن التغير البيئي.
لقد ألقت هذه التحديات بظلالها على مستقبل استدامة الإنتاج الزراعي في العالم والشروط البيئية المصاحبة له، وأخذت الجهود الدولية تتصاعد لضمان توفير الشروط اللازمة لضمان استدامة النظم الزراعية في العالم وتحسين أدائها، والتي أخذت أبعادا عدة تمثل أهمها في التركيز على التطوير التكنولوجي لتقليل استخدام الموارد، بصفة خاصة غير المتجددة، والمدخلات الضارة بالبيئة.
وتهدف سياسات استدامة الزراعة إلى تحقيق أربعة أهداف أساسية، أولها هو ضمان توفير احتياجا المجتمع من الغذاء وغيره من المنتجات التي ينتجها القطاع الزراعي وضمان رفع متوسط نصيب الفرد منها بمرور الزمن، والثاني وهو تعزيز وتقوية النظام البيئي وحماية قاعدة الموارد التي يستخدمها القطاع الزراعي في البلاد بصفة خاصة غير المتجددة، والثالث وهو وضمان استدامة الجدوى الاقتصادية لعمليات الإنتاج الزراعي وتحقيق هذا القطاع لأرباح تضمن استمرار تدفقات الاستثمار المناسب فيه، وأخيرا تحسين نوعية الحياة للمنتجين الزراعيين والعاملين في قطاع الزراعة وللمجتمع كله. وتتمثل المشكلة الأساسية في أن هذه الأهداف يوجد بينها قدر كبير من التعارض، الأمر الذي يجعل من عملية استدامة الزراعة مهمة في غاية الدقة والصعوبة في الوقت ذاته.
في اقتصاد نفطي أحادي المورد تقريبا مثل السعودية، يفترض أن يحتل قطاع الزراعة قدرا كبيرا جدا من الأهمية من الناحية الاستراتيجية، لأنه يمثل إشكالية صعبة الحل في اقتصاد يعتمد على التعدين، بينما يتضاءل دور هذا القطاع بالنسبة للحكومة كمصدر للناتج أو الإيرادات. فقد ظل نصيب القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي محدودا جدا بشكل عام، ففي عام 1981 اقتصر الناتج في قطاع الزراعة والغابات والأسماك على 6.2 مليار ريال، مثّلت1 في المائة فقط من الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الجارية لذلك العام، وعلى الرغم من ارتفاع الناتج في هذا القطاع في عام 2012 إلى نحو 50 مليار ريال بالأسعار الجارية، إلا أن مساهمته مثلت نحو 1.8 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، مما يعني أنه يمكن اهمال دور هذا القطاع نظرا لتضاؤل نسبة مساهمته في الناتج المحلي للمملكة.
ونظرا لانخفاض مساهمة قطاع الزراعة لعدة عوامل أهمها انخفاض درجة توافر مياه الري من مصادرها المختلفة، بصفة خاصة الأمطار، وطبيعة التربة الصحراوية وفقرها من حيث توافر المواد الأساسية اللازمة لعمليات الإنبات، فقد اعتمدت المملكة بشكل أساسي في استيفاء احتياجاتها من الغذاء على الاستيراد من الخارج.
ففي عام 1984 بلغت واردات المجموعات الغذائية المختلفة من الخارج 18.7 مليار ريال، مثّلت نحو 16 في المائة من إجمالي الواردات في المملكة، وفي عام 2012 ارتفعت واردات المجموعات الغذائية إلى 81.2 مليار ريال، مثّلت نحو 14 في المائة من إجمالي الواردات السلعية من الخارج. هذا الارتفاع في الاعتماد على الخارج في توفير الاحتياجات الغذائية للمملكة يحمل بعض المخاطر من الناحية الاستراتيجية، على الرغم من أن قدرة المملكة على تدبير احتياجات الاستيراد من النقد الأجنبي تعد مرتفعة جدا حاليا، كما أن أسواق الاستيراد تعد أيضا مؤمنة إلى حد كبير، لكن يظل الاعتماد المكثف على الخارج في تدبير احتياجات الدولة من الغذاء يحيط به الكثير من المخاطر.
لقد حاولت المملكة تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات الزراعية، بصفة خاصة القمح، من خلال استخدام أساليب الإنتاج ذات النطاق الواسع، ولقد تمكنت بالفعل من تحقيق نجاحات في هذا الجانب، ولكن ذلك كان بتكلفة إنتاج مرتفعة جدا، نظرا لأن المملكة لا تقع ضمن ما يسمى حزام القمح العالمي، حيث تتوافر أفضل الظروف المناخية لإنتاج الحبوب، فضلا عن ذلك فقد ترتب على محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح في المملكة استنزاف كميات ضخمة من المياه الجوفية، والتي تتصف بصعوبة إعادة تعبئتها، نظرا لانخفاض معدلات سقوط الأمطار في المملكة، الأمر الذي أصبح يهدد استدامة الأمن المائي في المملكة على نحو خطير، وها هي المملكة اليوم تحاول إعادة هيكلة عملية استخدام المياه الجوفية في الأغراض الزراعية، حيث تصل إلى حل أمثل فيما يتعلق باستيفاء احتياجات القطاع الزراعي من الماء، وفي الوقت ذاته تحافظ على استدامة أمنها المائي من أن يتهدد في المستقبل.
نحن إذن أمام معضلة متعددة الجوانب، فمن ناحية تحتاج المملكة إلى تنمية قطاعها الزراعي، على الرغم من أن ما تمتلكه من مزايا نسبية في هذا القطاع لا تؤهل هذا القطاع لأن يلعب دورا فاعلا في الناتج، حيث تتضاءل مساهمة هذا القطاع على نحو استثنائي كما أشرنا، ومن ناحية أخرى، تحتاج المملكة إلى تأمين احتياجاتها من السلع الزراعية، بصفة خاصة المواد الغذائية لأغراض استراتيجية في الدرجة الأولى لضمان استدامة أمنها الغذائي، ومن ناحية ثالثة تحتاج المملكة إلى التأكد من أن عمليات استخدام المياه في الإنتاج الزراعي تجري على نحو لا يهدد استدامة أمنها المائي على المدى الطويل، ومن ناحية رابعة تحتاج المملكة إلى التأكد من أن عمليات الإنتاج الزراعي تتم في إطار لا يهدد الشروط البيئية في المملكة، ويحافظ على استدامة توازنها البيئي بشكل عام. وأخيرا لا بد أن يتم كل هذا على النحو الذي يضمن جدوى الإنتاج الزراعي وربحيته، وهذه هي التحديات الأساسية أمام استدامة القطاع الزراعي في السعودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق