مع إصدار اليورو كعملة موحدة في كانون الثاني (يناير) 1999 تصاعدت الآمال بأن اليورو، العملة الأوروبية الموحدة، ستحل محل الدولار الأمريكي كعملة احتياط دولية، أو على الأقل ستسمح لبنوك العالم المركزية بأن تنوع من احتياطياتها وتقلل بالتالي من مخاطر تركز الاحتياطيات في عملة واحدة، وأن الأوان قد آن للعالم أن يتخلص من عالم العملات الاحتياطية أحادي القطب والمتمثل أساسا في الدولار الأمريكي، وذلك عندما يتحول اليورو إلى منافس حقيقي للدولار.
ما حدث بالفعل هو أنه في غضون سنوات قليلة من إصداره تحول اليورو إلى ثاني أكبر عملة احتياط من العملات الأجنبية للبنوك المركزية في العالم. وظل الكثير من المراقبين يرى أن اليورو يمكن أن يلعب دورا كعملة احتياط عالمية، ولكنه لا يمكن أن يكون بديلا للدولار وأن الدولار سيظل عملة الاحتياط الأولى في العالم برغم بروز اليورو.
أخيرا وبعد أكثر من عقد من الزمان من النمو المستمر في الطلب على اليورو جاءت التقارير الأخيرة عن احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي لتؤكد تراجع الطلب على اليورو نتيجة لزعزعة الثقة فيه وذلك مع تزايد المخاطر المحيطة بالكتلة النقدية الأوروبية. فوفقا لبيانات صندوق النقد الدولي بلغت احتياطيات العالم من اليورو في الربع الأول من عام 1999 عندما تم إصدار اليورو لأول مرة نحو 224 مليار دولار، وبحلول الربع الأول من عام 2008 قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية بلغت احتياطيات العالم من اليورو نحو 1.17 تريليون دولار. خلال هذه الفترة كانت احتياطيات العالم من اليورو تنمو في المتوسط بمعدل 4.6 في المائة سنويا.
مع انطلاق الأزمة أخذت معدلات نمو الطلب على اليورو في التراجع، وبحلول الربع الثاني من عام 2011 بلغ إجمالي احتياطيات العالم من اليورو 1.47 تريليون دولار، حيث تراجع متوسط معدل النمو السنوي في احتياطيات العالم من اليورو إلى 1.6 في المائة فقط، غير أن احتياطيات العالم من اليورو قد أخذت في التراجع بعد ذلك، حيث بلغ متوسط معدل النمو السنوي -0.17 في المائة، حيث اقتصرت احتياطيات العالم من اليورو في الربع الرابع من 2012 على 1.455 تريليون دولار، وكما يتضح من الشكل فقد تراجعت نسبة احتياطيات العالم من اليورو من نحو 28 في المائة في الربع الثالث من عام 2009 إلى نحو 24 في المائة في الربع الرابع من عام 2012.
لم يكن هذا الاتجاه على نفس النحو في جميع دول العالم، فوفقا لبيانات صندوق النقد الدولي استمرت الدول المتقدمة في العالم في زيادة احتياطياتها من اليورو بشكل مستمر من 168 مليار دولار في الربع الأول من 1999 إلى 778 مليار دولار في الربع الرابع من 2012، وذلك بمعدل نمو متوسط 2.98 في المائة سنويا، وخلال تلك الفترة بلغ متوسط إجمالي احتياطيات تلك الدول من اليورو إلى إجمالي احتياطياتها من النقد الأجنبي 22 في المائة، وخلال الفترة من الربع الثالث في عام 2009 إلى الربع الرابع من عام 2012، تراجعت نسبة احتياطيات هذه الدول من اليورو من 25.5 إلى 23.7 في المائة على التوالي كما يتضح من الشكل.
هذا الوضع كان مختلفا بعض الشيء بالنسبة للدولة النامية والناشئة، ففي الوقت الذي استمرت فيه الدول المتقدمة بزيادة احتياطياتها من اليورو فإن الدول النامية والناشئة كانت أكثر الدول ابتعادا عن اليورو، كما كانت أكثرها تخلصا منه. ففي الربع الأول من 1999 احتفظت هذه الدول بنحو 56.5 مليار دولار فقط من اليورو، غير أن محتفظاتها منه استمرت في النمو إلى نحو 765 مليار دولار في الربع الثاني من 2011، ومنذ ذلك الوقت وهذه الدول تتخلص من احتياطياتها من اليورو والتي انخفضت إلى 676 مليار دولار في الربع الرابع من 2012، وفي الربع الثالث من عام 2009 بلغت نسبة احتياطيات الدول النامية والناشئة من اليورو نحو 31 في المائة من إجمالي احتياطياتها من النقد الأجنبي، ومن ذلك الوقت ونسبة احتياطياتها من اليورو تتراجع على نحو واضح حتى بلغت 24 في المائة فقط في الربع الرابع من 2012 كما يتضح من الشكل.
هذه التطورات تعكس حقيقة أن العالم آخذ في التخلص من اليورو ويزيد من انكشافه على العملات الأخرى، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، والذي كان أهم المستفيدين من هذه التطورات الحادثة، إضافة إلى بعض العملات الأخرى غير التقليدية والتي يزيد الطلب عليها عالميا لتضاف إلى احتياطياته من النقد الأجنبي، ولكن مشكلتها الأساسية هي أن نطاق أسواقها يعد محدودا بالنسبة للدولار واليورو، ومن أهم هذه العملات الدولار الأسترالي، والكندي والنيوزيلاندي، والفرنك السويسري.
ولكن هل تعني هذه التطورات أن اليورو قد أخذ في التراجع كعملة احتياط دولية؟ وهل تعني هذه التطورات أن العالم يستعد لكي يهجر استخدام اليورو كعملة احتياط؟ بالطبع هذه البيانات التي عرضناها تأخذ اتجاها محددا منذ فترة، ولكن هذا التراجع كما نلاحظ يتزامن مع اشتداد أزمة الديون السيادية الأوروبية، كما أنه من الواضح أن هذا التطور لا يعني حدوث تحول هيكلي في توزيع الاحتياطيات الدولية بين عملات العالم بعيدا عن اليورو، ذلك أن تغير التوزيع النسبي للاحتياطيات مفهومة أسبابه بصورة جيدة، وتراجع نسبة اليورو إلى إجمالي احتياطيات العالم في غضون هذه الفترة القصيرة لا يعني حدوث تحول جوهري في توزيع الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي، وإذا ما أردنا التأكد من حدوث هذا التحول الجوهري علينا أن ننتظر لفترة زمنية أطول لكي نحكم ما إذا كان هناك تحول هيكلي في توزيع عملات الاحتياطيات الدولية بعيدا عن اليورو.
لكي نفهم الأسباب الحقيقية لهذا التراجع لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن البنوك المركزية عندما تحتفظ باحتياطيات من النقد الأجنبي فإنها لا تحتفظ بهذه الاحتياطيات أساسا في صورة نقدية، "كاش"، وإنما تحتفظ بها في صورة سندات أو أذون خزانة، والتي تمثل جزءا من الدين الذي على الدول التي تحتفظ بعملاتها بها، بالطبع مع تصاعد أزمة الديون السيادية لدول الاتحاد النقدي الأوروبي، من ناحية أخرى فقد تم تخفيض التصنيف الائتماني لبعض الدول الأعضاء في المنطقة من مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، وهو ما يعني تراجع درجة جودة أدوات الدين لهذه الدول. في ظل هذه الظروف لا بد أن تفقد أدوات الدين قصيرة الأجل الخاصة بمنطقة اليورو جاذبيتها مع تصاعد مخاطرها، ولذلك يعد هذا التصرف من جانب البنوك المركزية في العالم تصرفا طبيعيا ومتوقعا في مثل هذه الظروف.
فوفقا لمسح تم على مديري الاحتياطيات في البنوك المركزية في العالم فإن التأثير الأساسي على اليورو جاء من التحول عن الاحتياطيات قصيرة الأجل في اليورو، في الوقت الذي ما زال فيه مديرو الاحتياطيات في تلك البنوك يحتفظون بنفس النظرة لليورو عندما يتعلق الأمر بالأجل الطويل، حيث لم تتزعزع تلك النظرة الأولية لليورو كعملة احتياط عالمية.
غير أنه من الواضح أن التطورات الحالية تبرز على الساحة حاجة العالم إلى مزيد من العملات الاحتياطية، فهل يدخل الرينمنبي الصيني المنظومة ليملأ جانبا من الفراغ الناجم عن تركز الاحتياطيات العالمية بعدد محدود جدا من العملات؟ حتى الآن لا يبدو الرينمنبي جاهزا لكي يلعب هذا الدور، وحتى يتم ذلك سيظل اليورو هو أهم ثاني عملة احتياط في العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق