الأربعاء، أغسطس ٠٧، ٢٠١٣

سياسات التقشف الاقتصادي في العالم


ما هو التقشف؟

التقشف هو لجوء الدولة الى اتباع سياسات مالية تهدف الى إحداث قدر من التوازن بين الانفاق العام للدولة وايراداتها العامة باستخدام الأدوات المعلومة للسياسة المالية مثل رفع الضرائب بكافة أشكالها أو زيادة الرسوم التي تحصلها الدولة على ما تقدمه من سلع وخدمات عامة، وهذه تؤثر على مستويات الدخول المتاحة للجمهور أو صافي أرباح الشركات وهو ما يؤدي الى خفض الانفاق بشكلية الاستهلاكي والاستثماري.

أو أن تلجأ الدولة إلى خفض الانفاق العام بأشكاله المختلفة مثل الانفاق على البنى التحتية أو الانفاق على المشروعات العامة، والميزانيات التي تخصصها الدولة لمدفوعات الدعم أو مساعدات الأسر منخفضة الدخول، أو أن تقوم الدولة بخفض أجور العاملين في الخدمة المدنية أو غيرها من أشكال الانفاق العالم المؤثر، وتهدف هذه الإجراءات الى رفع درجة السيولة التي تتمتع بها الحكومة وتقليل درجة اعتمادها على الاقتراض بكافة أشكاله، وتتم هذه العمليات من الخفض الاختياري للإنفاق العام بهدف السيطرة على العجز في الميزانية العامة للدولة، والسيطرة على نمو الدين العام ورفع تنافسية الاقتصاد المحلي ورفع مستويات نموه الاقتصادي.

ويشير Mark Blyth من جامعة براون ومؤلف كتاب "التقشف: تاريخ فكرة خطيرة Austerity: The History of a Dangerous Idea" الذي نشر مؤخرا إلى أن التقشف هو روشتة توصف للدول التي تعيش خارج إطار امكانياتها، ولذلك تحتاج هذه الدول الى شد الحزام على البطون، لكي تتمكن من أن تتعايش في حدود امكانياتها المالية بدون اللجوء الى مزيد من الاقتراض.

وغالبا ما تلجأ الدول إلى سياسات التقشف عندما تواجه بأزمة عنيفة ناتجة عن ارتفاع مستويات الانفاق وزيادة العجز المالي، ومن ثم نمو الدين العام للدولة على نحو غير مستدام، ويحدث ذلك عندما ترتفع معدلات العائد المطلوب على سندات الدولة عن معدلات النمو الحقيقي لاقتصادها القومي، حيث يترتب على ذلك استمرار دين الدولة العام في الارتفاع إلى ما لا نهاية.

لماذا ارتفعت مستويات الدين العام في الدول المضطربة ماليا.

يفترض من الناحية النظرية أن النمو في الإنفاق العام للدولة يترتب عليه آثارا توسعية على الطلب الكلي في الاقتصاد ومن ثم معدلات النمو ومستويات الناتج، ومثل هذه التطورات يفترض أنها ترفع من قدرة الدولة على مواجهة اعباءها المالية التي تترتب على العجز في ميزانياتها العامة، ومن ثم ارتفاع قدرتها على خدمة الديون.

غير أن المشكلة الأساسية هي أن الجانب الأكبر من النمو الحادث في الدين العام لهذه الدول كان راجعا الى عمليات الانقاذ المالي لاقتصاديات هذه الدول، وعمليات إعادة رسملة البنوك والمؤسسات المالية لمنعها من السقوط، بصفة خاصة المؤسسات المالية الضخمة التي يطلق عليها المؤسسات الأكبر من أن تسقط Too big to fail، ومد المؤسسات المالية المضطربة بالأموال لمساعدة تلك المؤسسات على مواجهة النقص في السيولة الناجم عن تراجع جودة أصولها المالية، وتحول جانب كبير من تلك الأصول الى أصول مسمومة.

على سبيل المثال لقد نتج العجز في الولايات المتحدة عن السياسة المالية الفدرالية في خفض الضرائب كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي في الوقت الذي تزايدت فيه مخصصات الانفاق الحكومي، وما قامت به من انقاذ لنظامها المالي، واعادة رسملة بنوكها، ودفع مبالغ ضخمة كتحويلات حكومية، كما تحملت الحكومة ديون الجهاز المصرفي الخاصة للبنوك التي افلست، فتحولت الديون الخاصة بالأفراد وقطاع الأعمال للبنوك الى دين عام حكومي.

معنى ذلك أن جانبا كبيرا من هذا النوع من الإنفاق الذي يرفع من مستويات الطلب الفعال، وبالتالي لم يذهب لرفع قدرة الاقتصادات على مواجهة حالة الانحسار الاقتصادي التي تعاني منها هذه الدول، ولم يؤد هذا الإنفاق إلى ارتفاع مستويات الطلب الكلي بالشكل الذي يساعد على رفع معدلات التوظف ومعالجة البطالة المرتفعة وزيادة معدلات النمو، وبدلا من ذلك تراجعت معدلات النمو الاقتصادي وارتفعت ديون تلك الدول الى مستويات غير مستدامة سواء إذا ما نظرنا إلى الديون كنسبة من الناتج، أو الى معدلات خدمة هذه الديون كنسبة من الناتج أو الى معدلات العائد المطلوب على سندات هذه الديون مقارنة بمعدل النمو الحقيقي للدولة المدينة. ويوضح الجدول رقم (1) نسبة العجز المالي للحكومات في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) ودول منطقة اليورو (17) دولة مقارنة بالوضع قبل اندلاع الأزمة.

جدول (1) العجز المالي للحكومة كنسبة من الناتج

السنة
2007 
2008 
2009 
2010 
2011 
2012 
الاتحاد الأوروبي 27 دولة
-0.9 
-2.4 
-6.9 
-6.5 
-4.4 
-4.0 
منطقة اليورو 17 دولة
-0.7 
-2.1 
-6.4 
-6.2 
-4.2 
-3.7 

المصدر: Eurostat

وقد ترتب على مشكلة الديون السيادية في دول منطقة اليورو انطلاق المخاوف من استفحال مستويات تلك الديون وخروجها عن نطاق السيطرة الى الحد الذي يمكن أن يهدد بإفلاس الدول المدينة، بصفة خاصة فيما يطلق عليه مجموعة دول الـ PIIGS (البرتغال وايرلندا وايطاليا واليونان وإسبانيا)، ويوضح الجدول رقم (2) نسبة الدين العام في هذه الدول الى الناتج، وبشكل عام ينظر الى مستوى 60% من الناتج على أنه الحد الخطر، الذي تبدأ بعده المخاوف من احتمالات تخلف الدولة المدينة على خدمة ديونها في التصاعد، ومن الواضح من الجدول أن نسبة الديون الى الناتج المحلي الإجمالي قد أخذت في التصاعد على نحو غير مستدام.

جدول (2) الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي

السنة
2007 
2008 
2009 
2010 
2011 
2012 
الاتحاد الأوروبي 27 دولة
59.0 
62.3 
74.6 
80.0 
82.5 
85.3 
اليونان
107.4 
112.9 
129.7 
148.3 
170.3 
156.9 
إسبانيا
36.3 
40.2 
53.9 
61.5 
69.3 
84.2 
إيطاليا
103.3 
106.1 
116.4 
119.3 
120.8 
127.0 
البرتغال
68.4 
71.7 
83.7 
94.0 
108.3 
123.6 
إيرلندا
25.1 
44.5 
64.8 
92.1 
106.4 
117.6 

المصدر: Eurostat

 يترتب دائما على هذا النمو غير المستدام في الدين العام قيام مؤسسات التصنيف الائتماني بتخفيض التصنيف الائتماني للدولة الأمر الذي يضع شكوكا حول درجة الملاءة المالية التي تتمتع بها، وهو ما يعقد أوضاع الدولة المالية على نحو أكبر. ذلك أن الأسواق غالبا ما تستجيب لهذه التطورات برفع معدلات الهامش المطلوب على سندات ديون الدولة نتيجة ارتفاع المخاطر المصاحبة للاستثمار في تلك السندات، مما يرفع من تكلفة الدين العام للدولة (الإصدارات الجديدة للسندات) ومن ثم المزيد من العجز فالمزيد من الدين، وهكذا يدور الاقتصاد في حلقة مالية خبيثة، وفي الحالات الحادة قد تصل معدلات العائد المطلوب على سندات الدولة الى مستويات قياسية، مثلما حدث في حالة اليونان أثناء الأزمة الحالية، حيث ارتفعت معدلات العائد المطلوب على سنداتها لأكثر من 70%.

الوضع في الولايات المتحدة يختلف بشكل كبير عنه في أوروبا، حيث يسهل على اقتصاد ميجا مثل الولايات المتحدة أن تسوق سندات دينها العام بسهولة وبمعدلات فائدة قريبة من الصفر، وهو ما يعني أن معدل العائد الحقيقي على هذه السندات سالبا، على الرغم من أن دينها العام يميل نحو التصاعد الى مستويات مخيفة، ومع ذلك فإنها مصنفة بين أفضل دول العالم من الناحية الائتمانية من جانب مؤسسات التقييم الائتماني، في الوقت الذي يصعب فيه ذلك على معظم دول العالم، خصوصا الصغيرة منها، ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى انخفاض فرص تخلف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها وارتفاع مخاطر الديون السيادية للدول الأخرى.

ومن الواضح أن الدول تلجأ الدول الى التقشف إذا ما كان هناك تهديدا لقدرتها على سداد التزاماتها، بصفة خاصة إذا ما كانت هذه الالتزامات بالنقد الأجنبي، أو ما يطلق عليه الديون السيادية، حيث تنعدم قدرة الدولة على طباعة النقود لمواجهة التزاماتها المالية، وتتم عملية وضع الشروط العامة للتقشف حسب الجهة التي ستتولى صياغة خطط التقشف، على سبيل المثال إذا اضطرت الدولة الى اللجوء الى صندوق النقد الدولي للحصول على سيولة إضافية لمواجهة التزاماتها المالية، فإن الصندوق هو الذي يتولى اعداد برنامج التقشف، بينما إذا كانت الدولة ذاتها هي التي ستتولى وضع هذه الإجراءات التقشفية فإن السلطة المالية في الدولة سوف تقوم برسم السياسات المالية المناسبة في هذه الحالة.

الاعتبارات النظرية

إن السياسات المالية التوسعية المتفق على آثارها في النظرية الاقتصادية هي ما يطلق عليه الروشتة الكينزية نسبة للاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز الذي اقترح أنه في ظل ظروف الكساد يكون الطلب الكلي الخاص (الانفاق الاستهلاكي الخاص والانفاق الاستثماري الخاص) منخفضا، بصفة خاصة الاستثماري، على الرغم من انخفاض معدلات الفائدة بسبب شيوع التوقعات التشاؤمية بين المستثمرين حول مستقبل النمو الاقتصادي، وإذا ما استمرت الأوضاع على هذا النحو فإن الانفاق الاستثماري لن يتزايد وسيستمر الطلب الكلي منخفضا، من هنا لابد وأن يأتي النمو في الانفاق من مصدر خارجي، هذا المصدر الخارجي هو الحكومة.

التقشف سياسة انكماشية.  

بالنسبة للكينزيين تعتبر فترات الرواج هي الوقت المناسب لتطبيق خطط التقشف وليس أوقات الكساد، بينما يتطلب الكساد أن تحقق الدولة عجزا في ميزانيتها وتتبع سياسات مالية توسعية. فمن وجهة نظر الكينزيين فإن الانفاق الخاص يتراجع في أوقات الكساد، لأن القطاع الخاص، إما أن يكون غير قادر على الإنفاق أو غير راغب فيه عند المستويات التي تضمن للاقتصاد الخروج من حالة الكساد، وهنا يأتي دور الانفاق الحكومي في تعويض النقص الحادث في الانفاق الخاص. فإذا قامت الحكومات بتطبيق خطط للتقشف في أوقات الكساد حيث يحتاج الاقتصاد أساسا الى المزيد من الانفاق، فإن حجم الطلب الكلي يتراجع وهو ما يوفر الشروط اللازمة لدخول الاقتصاد مصيدة الكساد.  

لقد كان جون ماينارد كينز يرد على معارضيه من الكلاسيك حول فكرة أن الأسواق لا بد وأن تعمل على النحو الصحيح بدون الحاجة الى التدخل الحكومي في الأجل الطويل، بأنه صحيح أن الأسواق سوف تعمل بشكل صحيح في الأجل الطويل، ولكننا جميعا سوف نكون موتى في الأجل الطويل In the long run we are all dead، بمعنى أن الاقتصاد لا يجب أن ينتظر حتى تستجيب الأسواق ليعاني الاقتصاد من ويلات الكساد، وأن التدخل الحكومي يصبح ضرورة في مثل هذا الحالات، ويشير مؤلف كتاب "التقشف: تاريخ فكرة خطيرة" إلى أن التقشف فكرة خطيرة اقتصاديا لثلاثة أسباب على الأقل هي:

الأول: أن سياسات التقشف لا تعمل كما هو متوقع من الناحية العملية، بمعني أن الآثار المتوقعة لسياسات التقشف لا تتم على النحو المتوقع، وانما الذي يحدث بالفعل هو العكس.

والثاني: أن سياسات التقشف يترتب عليها إعادة توزيع للدخل بصورة غير متساوية بين السكان، حيث ينصب آثرها بشكل كبير على الفئات المحدودة الدخل، وربما تكون هذه هي أسوأ آثار التقشف. 

والثالث أن هذا المدخل يهمل حقيقة أن جميع دول العالم لا يمكنها أن تنتهج سياسة التقشف في ذات الوقت، لأن النمو في العالم ككل سوف يتراجع إذا قامت كل دولة في ذات الوقت بتخفيض انفاقها ورفع مستويات الايرادات التي تحصلها بحيث يتأثر الطلب الكلي في كافة دول العالم في ذات الوقت. فالعالم الذي نعيش فيه متشابك بطبيعته، وبالتالي فإن التوسع في ناحية منه يفيد الناحية الأخرى من العالم، أما التقشف في جانب منه فلا شك يضر المتعاملين مع هذا الاقتصاد الذي يتقشف في الجانب الآخر. فإذا ما هبت دول العالم واتبعت هذه السياسات في ذات الوقت فإن الأثر على النمو في العالم سوف يكون مدمرا، وهذا ما يحدث حاليا، حيث يترتب على السياسات التقشفية في أوروبا والولايات المتحدة التأثير سلبا على اتجاهات النمو في الدول الناشئة والدول المصدرة للمواد الأولية مثل دول الأوبك، ومن ثم على النمو العالمي.

التقشف سياسة توسعية.

تنطلق وجهة النظر القائلة بأن التقشف هو سياسة توسعية من الآثار المتوقعة للتقشف على اتجاهات التوقعات، بصفة خاصة توقعات قطاع الأعمال الخاص، فوفقا لوجهة النظر هذه يترتب على اتباع سياسات تقشفية أن يتم وضع الميزانية العامة للدولة وعجزها تحت السيطرة وهو ما يعني بالتبعية أن الدين العام للدولة سوف تتم السيطرة عليه من خلال اجراءات التقشف الأمر الذي يؤدي الى تدعيم الثقة في الاقتصاد القومي للدولة، وهو ما يشجع المستثمرين على المزيد من الاستثمار، وزيادة الانفاق الاستثماري، ومع زيادة الانفاق الاستثماري تزداد مستويات الطلب الكلي، وهو ما يؤدي الى زيادة مستويات التوظف والخروج من حالة الكساد.

معنى ذلك أن التقشف، وفقا لوجهة النظر هذه، سوف يكون توسعيا عندما تزداد مستويات الثقة التي تؤدي الى تحسن اتجاه التوقعات لقطاع الأعمال وكذلك قطاع المستهلكين الأمر الذي يدفعهم الى زيادة مستويات الانفاق وتحسن الوضع الاقتصادي للدولة وخروجها من حالة الكساد، غير أن التقشف في جوهره هو عملية خفض للإنفاق الكلي، وفي ظل ظروف الكساد فإن مستويات ثقة المستثمرين تكون دائما عند حدودها الدنيا، ومن ثم فأن تلجأ الدولة الى التقشف، فإن ذلك يعني بالتأكيد تراجع مستويات الانفاق الكلي ومن ثم الطلب بكافة أشكاله، وهذه ليست السياسات المناسبة لتوفير القدر المناسب من الثقة حول اتجاهات التوقعات الخاصة بتحسن مستويات الانفاق الاستثماري الخاص وقدرته على مواجهة الكساد، خصوصا الكساد العميق أو ما يطلق عليه الركود الاقتصادي.

من ناحية أخرى ينظر الى التقشف على أنه يؤدي بالتبعية إلى خفض مستويات الانفاق الحكومي بصورة كبيرة، وهو ما يعني تغير مستويات التوقعات حول معدلات الضرائب التي يمكن أن تفرضها الحكومة في المستقبل في ظل المستويات المنخفضة للإنفاق، إذ يفترض أن تقوم الحكومات بخفض معدلات الضرائب إلى الناتج عندما تقوم بإنفاق نسبة أقل الى الناتج، ويترتب على هذا التوقعات التفاؤلية حول اتجاهات الضرائب أن يقوم قطاع الأعمال بالمزيد من الاستثمار كما تؤدي الى زيادة مستويات الانفاق الاستهلاكي ومن ثم زيادة حجم الطلب الكلي.

ولقد انطلقت الدعوات الى التقشف في الأزمة الحالية استنادا الى وجهة النظر القائلة بأن التقشف ربما قد يكون مكلفا اليوم بصورة أكبر عن الوضع الذي يكون فيه الاقتصاد في ظروفه الطبيعية، غير أنه اذا لم تجر هذه التعديلات الآن فإن آثارها المتوقعة سوف تكون أعظم، على سبيل المثال في صورة ارتفاع التوقعات بالإفلاس أو التوقف عن خدمة الديون نتيجة لنقص السيولة اللازم لاستيفاء الالتزامات المالية للدول في منطقة اليورو، غير أنه على الرغم من  معقولية الادعاء بضرورة وضع الدين العام تحت السيطرة، فإن مخاطر التقشف نتيجة عدم التوافق الزمني بين خطط التقشف وطبيعة الأوضاع على الأرض لا يمكن إهمال اثرها.

التقشف الاقتصادي سياسة انكماشية: الحالة الأوروبية

ولكن هل ترتب على سياسات التقشف تحسن في الوضع الاقتصادي للدول التي تتبع هذه السياسات مثلما تشير الحجج النظرية في هذا المجال؟

أكثر من يهاجم برامج التقشف هم انصار المدرسة الكينزية، على سبيل المثال العالمان بول كروجمان وجوزيف ستيلجتز، حيث يعتبرونها المسئول الأول عن انخفاض أو تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة والحيلولة دون تحقيق الاقتصاد للتوظف الكامل، على سبيل المثال يشير بول كروجمان عالم الاقتصاد الشهير والحاصل على جائزة نوبل للسلام إلى أن برامج التقشف انتجت نتائج سيئة أسوأ كثيرا بالنسبة لما كانت تستهدفه في الأساس عندما تم وضع تلك الخطط.

ومع تراجع مستويات النمو نتيجة تطبيق خطط التقشف فإن الإيرادات الضريبية تتراجع، وهو ما قد يتجاوز تأثيره أية فوائد حققتها الدولة من خفض الانفاق الحكومي، وإذا كانت خطة التقشف تتضمن خفضا للإنفاق الحكومي وزيادة مستويات الضرائب سويا، فإن الأثر الصافي على الضرائب لن يكون كما هو متوقع، لأن خفض الانفاق الحكومي يؤدي الى خفض الطلب الكلي، ومن ثم خفض الإيرادات الضريبية، مما يعني أن زيادة الضريبة في إطار برنامج التقشف بنسبة محددة سوف تنتهي الى أثر صافي أقل من النسبة المحددة للارتفاع.

من ناحية أخرى فإن خفض الانفاق الحكومي يؤدي إلى زيادة مستويات البطالة وانخفاض مستويات الدخول بشكل عام، فإذا كانت الدولة تتبع نظاما لإعانات البطالة فإن ارتفاع مستويات البطالة سوف يتطلب زيادة في مخصصات إعانة البطالة ومن ثم زيادة الانفاق الحكومي بصورة اجبارية، وعلى ذلك فإن مستوى سيولة الحكومة لن يتحسن بشكل مباشر كما هو متوقع. المشكلة هي أن التقشف يقدم على أنه الوسيلة للخروج من الأوضاع السيئة للمالية العامة الدولة وغالبا ما تكون التكهنات حو اتجاهات النمو مغال فيها.

لقد لعب صندوق النقد الدولي دورا حيويا في صياغة خطط التقشف ومراقبة عمليات تطبيقها من جانب الدول المدينة في الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن هدفه الأول كان ضبط اوضاع المالية العامة في الدول المضطربة، بينما تجاهل، أو على الأقل، قلل من أهمية الآثار المتوقعة على النمو وأسواق العمل في هذه الدول.

بالطبع هناك اتفاق بين الاطراف المشاركة في عمليات التعديل المالي مثل صندوق النقد الدولي والمجموعة الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي بأن الدول الأوروبية لا بد وأن تعدل من هيكلها المالي، وأنه لضمان استقرار، أو ربما تخفيض مستويات دينها العام، تحتاج هذه الدول الى تحسن كبير في مراكزها المالية لكي يتم تثبيت مستويات الدين. لكن على الرغم من هذا الاتفاق فإن القضية الأساسية ليست حول التعديل المالي كمبدأ وانما حول درجة هذا التعديل، وهو ما أفرطت فيه الدول المدينة في أوروبا.

لم يكن أمام الدول المضطربة ماليا في منطقة اليورو أي خيار سوى القبول بالوضع الراهن حيث فرض التقشف على الدول المدينة كسبيل لحصول تلك الدول على المساعدات المالية، وكشرط أساسي لتدخل البنك المركزي الأوروبي في السوق الثانوية للسندات لمساندة هذه الدول وجعل معدلات العائد على سنداتها أقل، وقد حرص صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي على وضع المواقف المالية لهذه الدول تحت السيطرة، على سبيل المثال، إذا ما أهملنا الدول المضطربة في أوروبا فإن العجز المالي تراوح بين 1.5% الى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما فرضت تعديلات هيكلية أقسى على كل من اليونان والبرتغال.

صحيح أن أوروبا تحتاج الى تعديلات في هيكل انفاقها العام لكي تضمن استدامة اوضاعها المالية، لكن السرعة التي تتم بها عملية التعديل اصبحت محل انتقاد شديد من جانب قطاع عريض من الاقتصاديين، حيث يرى المراقبون أنه على الرغم من أهمية الاصلاحات المالية الهيكلية في أوروبا، إلا أن نطاق هذه الاصلاحات وسرعتها كانتا أكبر من اللازم بالرغم من ضرورتها.

سبق أن ذكرنا أن أزمة منطقة اليورو الحالية ناشئة أساسا عن سياسات التقشف التي تتبعها معظم دول المنطقة التي قامت بخفض مستويات الطلب الكلي من خلال خفض مستويات الانفاق العالم فيها على نحو كبير مما أدى الى تعميق أثر الأزمة الحالية، حيث أدى اتفاق الدول الأعضاء على تبني سياسات تقشفية الى حدوث تراجع أو كساد مزدوج Double Dip، يمكن أن نلاحظه بصورة واضحة من بيانات النمو والناتج ومعدلات البطالة في دول منطقة اليورو، كما هو واضح في الجدول رقم (3).

جدول (3) معدلات نمو الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي

السنة
2007 
2008 
2009 
2010 
2011 
2012 
الاتحاد الأوروبي 27 دولة
3.2 
0.4 
-4.5 
2.1 
1.6 
-0.4 
منطقة اليورو 17 دولة
0.4 
-4.4 
2.0 
1.5 
-0.6 
-0.4* 

المصدر: Eurostat                                      *بيانات متوقعة

فمنذ أكثر من عام ونصف معدلات النمو تتراجع في منطقة اليورو بسبب خطط التقشف التي تطبقها هذه الدول.

جدول (4) معدلات البطالة في أوروبا

السنة
2007 
2008 
2009 
2010 
2011 
2012 
الاتحاد الأوروبي 27 دولة
7.2
7.1
9
9.7
9.7
10.5
منطقة اليورو 17 دولة
7.6
7.6
9.6
10.1
10.2
11.4

المصدر: Eurostat

من ناحية أخرى تميل معدلات البطالة في الاتحاد الأوروبي، ومنطقة اليورو بالذات الى التزايد على نحو واضح كما هو موضح في الجدول رقم (4)، ووفقا لأحدث البيانات فإن معدل البطالة في منطقة اليورو يزيد عن 12%، غير أن اللافت للنظر في هذه الأزمة هو معدلات البطالة طويلة الأجل، والتي تعد من الظواهر الجديدة لهذه الأزمة، حيث تظل أعدادا كبيرة من العاملين في حالة بطالة ولمدة زمنية طويلة، بل إن التقارير تشير إلى أن الكثير من العمال الذين يتحولون الى عاطلين يصبح من الصعب إيجاد فرص عمل لهم بعد ذلك.

جدول رقم (5) معدل البطالة طويلة الأجل في أوروبا

السنة
2007 
2008 
2009 
2010 
2011 
2012 
الاتحاد الأوروبي 27 دولة
3.1
2.6
3
3.9
4.1
4.6
منطقة اليورو 17 دولة
3.4
3
3.4
4.3
4.6
5.3

المصدر: Eurostat

أهم آثار التقشف على العالم

لا يمكن ان نهمل الآثار قصيرة ومتوسطة الأجل التي تترتب على التقشف، والتي تنعكس في صورة تراجع مستويات الطلب العالمي وتراجع معدلات النمو. فمنذ أن بدأت أوروبا سياسات التقشف والنمو الصيني وكذلك في باقي الدول الناشئة يتراجع ويفقد الكثير من عزمه، كذلك انخفضت وتيرة النمو في الاقتصاد الأمريكي باعتبار أن السوق الأوروبي من أكبر الاسواق المستهلكة لبضائع العالم، على سبيل المثال تراجع النمو الصيني الى 7.5% في الربع الأول من 2013، وهو معدل نمو منخفض جدا بالمقارنة باتجاهات النمو الصيني في العقدين الماضيين، كذلك تراجع معدل النمو في الولايات المتحدة الى 1.8%، في الوقت الذي ما زال فيه الاقتصاد الياباني يحقق معدلات نمو سالبة.

بلا شك أن هذه التطورات تلقي بظلالها على تجارة النفط العالمية، مصدر الدخل الرئيس لدول الخليج، حيث تعد هذه الدول أكبر مستوردي النفط الخليجي، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه التطورات على الكميات المصدرة من النفط وأسعاره، وعلى الرغم من أن الدول الخليجية تحقق فوائض مالية كبيرة في الوقت الحالي، فإن الأوضاع المالية لهذه الدول كان من المفترض أن تكون أفضل بكثير من أوضاعها الحالية لو يتم انتهاج سياسات التقشف التي يتم تطبيقها حاليا في الكثير من مناطق استهلاك النفط.

أكثر من ذلك فإن استمرار حالة عدم التأكد حول مستقبل النمو في الاقتصاد العالمي، ما زال يؤثر سلبا على آفاق استعادة أسواق المال في المنطقة لعافيتها بعد أن تراجعت مؤشرات أسواق المال في هذه الدول في أعقاب الأزمة وما زالت تصارع لاستعادة مستوياتها قبل الأزمة.

غير أن أهم الآثار الإيجابية لسياسات التقشف على المنطقة هي تراجع معدلات التضخم مع انخفاض الضغوط التضخمية في الدول التي تطبق هذه الخطط نتيجة تراجع مستويات الطلب الكلي، وهو ما يمكن أن يلاحظ بجلاء عندما نقارن بين معدلات التضخم الحالية في المنطقة ومعدلات التضخم قبل وقوع الأزمة، حيث تراجعت الضغوط التضخمية في دول الخليج بفعل تراجع تأثير التضخم المستورد.

من العرض السابق للنتائج التي ترتبت على خطط التقشف أن ما يحتاجه العالم، وبصفة خاصة أوروبا اليوم، هو خلق وظائف جديدة في سوق العمل بالدرجة الأولى، وذلك لرفع مستويات التوظف، وخفض الضغوط في سوق العمل، وهذه لا يمكن أن تتم من خلال خطط التقشف، فالتقشف يغلق الوظائف ولا يفتحها، وإلى أن يحدث ذلك سوف تظل الدول المضطربة ماليا تعاني من الآثار الحادة للتقشف في صورة انخفاض معدلات نموها وارتفاع مستويات البطالة فيها، وبالتالي ارتفاع معاناة الفئات المحدودة في الدخل.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق