ما من شك في أن الاقتصاد المصري لم يمر بظروف أصعب من تلك التي يمر بها حاليا، حيث تعمل جميع الأوضاع لغير مصلحته، مما يترتب عليه تراجع الأوضاع على نحو يضر بمستويات معيشة الغالبية العظمى من المصريين مع تراجع قيمة الجنيه وميل الأسعار نحو الارتفاع نتيجة لذلك مدفوعة أيضا بقيود العرض وضعف معدلات الاستثمار، في الوقت الذي تميل فيه الموارد الرئيسة للنقد الأجنبي، بصفة خاصة الإيرادات من السياحة نحو التآكل.
مشكلة الاقتصاد المصري حاليا هي أنه اقتصاد تزداد درجة اعتماده على الخارج بشكل واضح، في الوقت الذي يعاني قصورا في موارد النقد الأجنبي، فتكون النتيجة الطبيعية لذلك هي تزايد الضغوط على الاحتياطيات من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي وتراجع مستوياتها مع مرور الوقت. فعندما قامت ثورة يناير 2011 كانت احتياطات مصر من النقد الأجنبي نحو 36 مليار دولار، انخفضت إلى نحو النصف في مارس الماضي لتصل إلى 13.4 مليار دولار، لترتفع معها المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الجنيه المصري.
تراجع الاحتياطيات يؤدي إلى تعقيد الأمور على نحو أكبر، فمع كل تراجع في احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي تقل قدرته على التدخل في سوق النقد الأجنبي لتدبير فائض الطلب في السوق ومن ثم الدفاع عن معدل صرف الجنيه، ويؤدي ذلك إلى تغذية الدوافع نحو المضاربة على انخفاض الجنيه، مما يغذي الطلب على النقد الأجنبي على نحو أكبر، ومن ثم تدهور قيمة الجنيه بصورة أسرع. من الطبيعي في ظل هذه الظروف إن تنتشر السوق السوداء للعملة الأجنبية استنادا إلى نقص الاحتياطيات وضعف قدرة البنك المركزي على الدفاع عن قيمة الجنيه في مواجهة تزايد الطلب عليه.
تراجع قيمة الجنيه يتسبب في عدة نتائج تؤدي إلى تعقيد الأوضاع الاقتصادية في مصر على النحو التالي:
فأولا مع تراجع قيمة الجنيه ترتفع معدلات التضخم خصوصا التضخم الناجم عن ارتفاع قيمة السلع المستوردة من الخارج سواء أكانت مواد خام أو سلعة وسيطة تستخدم في عمليات الإنتاج أو سلع نهائية. المشكلة أن الاقتصاد المصري حاليا ترتفع نسبة الواردات فيه إلى الناتج المحلي الإجمالي، مما يؤدي إلى تكثيف هذا الأثر التضخمي لتراجع قيمة الجنيه.
ثانيا: أن ارتفاع الأسعار، بما يؤدي إليه من تراجع القوة الشرائية لدخول المصريين، ستعقبه مطالبات بزيادة الأجور مما يؤدي إلى ضغوط شديدة على الميزانية العامة للدولة وارتفاع مستويات العجز المالي، وارتفاع مستويات الدين بالتبعية، ومن ثم مزيد من العجز وهكذا.
ثالثا: إن ارتفاع الأسعار سيتطلب ضرورة رفع مستويات الدعم للحفاظ على الأسعار الحالية، وهو ما يثقل كاهل الميزانية العامة للدولة والتي شهدت ارتفاعات كبيرة في مخصصات الدعم بعد الثورة، بحيث أصبحت مستوياتها غير مستدامة، كنسبة من الإنفاق العام.
هذه الآثار لنقص الاحتياطيات من النقد الأجنبي تعقد أوضاع الاقتصاد المصري المنهك بعد الثورة، خصوصا في ظل غياب أية رؤى واضحة حاليا حول كيفية معالجة قضاياه الأساسية. غير أنه تنبغي الإشارة إلى أن جانبا كبيرا من هذه الآثار يمكن تجنبه، على الأقل مرحليا، إذا تمكن البنك المركزي المصري من رفع مستوى احتياطياته من النقد الأجنبي، أو تم تدبير جانب من احتياجات مصر من النقد الأجنبي لتدبير الاحتياجات المختلفة، والتي تمثل عنق الزجاجة للاقتصاد المصري في الوقت الحالي.
المصاعب المرحلية التي يواجهها الاقتصاد المصري حاليا تتطلب مساندة خارجية للتخفيف من الآثار السابقة ومساعدته على تخطي المرحلة الحالية بسلام. بشكل عام مصر تواجه صعوبات عديدة في محاولاتها للحصول على المساعدات من الخارج، خصوصا في ظل عدم استقرار الوضع السياسي، والذي يمكن أن يتم الاستناد إليه بسهولة لتبرير رفض منح المساعدات للاقتصاد المصري، ولعل المساعي المرهقة التي تبذل مع صندوق النقد الدولي منذ فترة طويلة خير مثال على ذلك، وفي ظل هذه الأوضاع تلعب المساعدات العربية جانبا مهما في تخفيض الضغوط على الاقتصاد المصري.
لعل أهم الخطوات التي اتخذت لتقديم المساعدة لمصر في أوج أزمتها هو ما قامت به المملكة العربية السعودية، فمنذ بداية الثورة كانت المملكة أول دولة عربية تعلن دعمها للاقتصاد المصري بنحو أربعة مليارات دولار، تتوزع بين منح لا ترد، وقروض ميسرة وودائع مصرفية لدى البنك المركزي. تفاصيل حزمة المساعدات تمثلت في تقديم 500 مليون دولار على شكل منحة عاجلة لدعم الميزانية العامة و500 مليون دولار لشراء سندات للخزانة المصرية، وقرض ميسر بقيمة 500 مليون دولار و500 مليون دولار أخرى في صورة قروض ميسرة من الصندوق السعودي للتنمية، إضافة إلى تخصيص 750 مليون دولار كمساعدات لعملية تمويل الصادرات السعودية إلى مصر، فضلا عن إيداع مليار دولار كوديعة لدى البنك المركزي المصري، بهذا الشكل يبلغ إجمالي المساعدات المقدمة من المملكة الشقيقة إلى مصر 3950 مليون دولار، تم تقديم نحو ملياري دولار من هذه المساعدات، بينما تؤكد المملكة من وقت لآخر استمرار التزامها بمساعدة مصر.
الأسبوع الماضي تم الإعلان عن عزم قطر على شراء سندات مصرية بالدولار قيمتها ثلاثة مليارات دولار. على الرغم من أن الخطوة القطرية تمثل دينا على مصر، إلا أن مصر في الأوضاع الحالية تواجه صعوبات شديدة في عملية الاقتراض الخارجي بسبب تخفيض التصنيف الائتماني للديون السيادية لمصر عدة مرات من مؤسسات التصنيف الائتماني مثل موديز إلى مستويات قريبة من سندات الخردة، والتي عادة ما لا تجد مشتريا لها، وإذا حدث فإنها المقرض عادة ما يطلب معدلات فائدة مرتفعة للغاية نظرا لأن علاوة المخاطرة المضافة إلى معدل الفائدة الأساسي تكون مرتفعة، لكي تعوض حملة هذه السندات عن ارتفاع مخاطر التوقف عن خدمة هذه السندات. ليس لدينا، وحتى الآن، تفاصيل حول شروط هذا القرض من حيث مدته أو معدلات الفائدة عليه، أو عنصر السماح في هذا القرض، ولكن لا بد من الإشارة إلى أنه إن تقدم دولة مثل قطر على شراء ثلاثة مليارات دولار من هذه السندات في مثل هذه الظروف، فإن ذلك أقرب إلى المساعدة منه إلى القرض، ولا شك يمثل إضافة مهمة لرصيد العملات الأجنبية في مصر.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها قطر مساعدات لمصر بعد الثورة، فقد قامت قطر بمنح مصر حزمة مساعدات بقيمة 2.5 مليار دولار، منها نصف مليار منحة لدعم الميزانية العامة؛ كما أودعت ملياري دولار في البنك المركزي المصري، لمواجهة شح السيولة من النقد الأجنبي التي يعانيها البنك المركزي، فضلا عن الإعلان عن تمويل بعض المشاريع في مصر كاستثمار قطري مباشر.
من ناحية أخرى، أعلنت ليبيا الأسبوع الماضي أيضا قيامها بإيداع ملياري دولار في البنك المركزي المصري. القرار الليبي ذو طبيعة مختلفة، حيث يمثل إيداعا بالعملات الأجنبية تحت تصرف البنك المركزي المصري، بالطبع قدرة البنك المركزي على التصرف في هذا الإيداع هي إلى حد ما محدودة، ولكن مجرد وجود هذا الإيداع في حسابات البنك المركزي المصري يدعم حجم الاحتياطيات من النقد الأجنبي وبالتالي يقوي مركز الجنيه المصري في سوق النقد الأجنبي.
بهذا الشكل يكون قد تم من الناحية النظرية إضافة خمسة مليارات دولار إلى احتياطيات مصر بالنقد الأجنبي، لترتفع من الناحية النظرية إلى أكثر من 18 مليار دولار، وهو أعلى مستوى بلغته الاحتياطيات منذ فترة طويلة. بهذا الشكل تتعزز احتياطيات مصر، وتزداد قدرتها على الدفاع عن الجنيه المصري، في الوقت الذي تطمئن فيه المتعاملين في سوق النقد الأجنبي في مصر بارتفاع قدرة البنك المركزي على مواجهة فجوات الطلب على النقد الأجنبي وهو ما يساعد على إحداث استقرار، ولو مؤقت، في معدل صرف الجنيه، حتى تتمكن مصر من التوصل إلى اتفاقات أخرى لتدبير موارد إضافية للنقد الأجنبي والتي على رأسها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والذي من الواضح إنه يتعثر يوما بعد الآخر. الصعوبات التي تواجهها في الاقتراض أو الحصول على المساعدات لا تقتصر فقط على صندوق النقد الدولي، وإنما مع جهات عديدة منها الاتحاد الأوروبي.
الخلاصة أنه في ظل الظروف التي يمر بها الاقتصاد المصري حاليا تلعب المساعدات العربية لمصر دورا حيويا في استقرار أوضاع سوق النقد الأجنبي، وإذا كان الاقتصاد المصري في حاجة مساعدات الأشقاء العرب فمن المؤكد أنه أحوج ما يكون لذلك اليوم أكثر من أي وقت آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق