حدث تحول جوهري في اتجاه السياسات النقدية والمالية لليابان، فقد بدا من الواضح أن الحكومة اليابانية الجديدة عازمة على الخروج من حالة الركود الاقتصادي الطويل الذي عاشته معظم الفترات خلال العشرين عاما الماضية، والتي قضاها الاقتصاد الياباني بين معدلات نمو سالبة أو انحسار سعري، وذلك بأي ثمن، حيث تم تبني سياسات تحفيز نقدي ومالي غير مسبوقة.
تمثل التحفيز المالي في تبني خطة للإنفاق العام بميزانية 116 مليار دولار تم تخصيص ربعها لمشروعات الأعمال العامة، فيما يشكل تطبيقا مباشرا للروشتة الكينزية في تحفيز مستويات الطلب الكلي من خلال الإنفاق على مشروعات الأعمال العامة في أوقات الكساد. من ناحية أخرى، بعد أن تولى هاروهيكو كورودا رئاسة البنك المركزي الياباني أعلن عن خطط ثورية للتحفيز النقدي، بهدف تحقيق مستوى مستهدف للتضخم عند 2 في المائة، وأعلن أنه سيتخذ جميع الإجراءات لكي يكسر حالة الانحسار السعري الذي تعيشه اليابان منذ وقت طويل، وهي مهمة ثبت أنها صعبة التحقيق في ظل الانكماش السعري الشديد الذي عاشته اليابان في الماضي.
بالطبع فإن تبني معدل تضخم 2 في المائة سيتطلب ضرورة ضخ المزيد من عرض الين للضغط على الأسعار نحو الارتفاع، وبالتالي المزيد من انخفاض معدل صرفه وهنا مكمن الخطر. فوفقا لخطة البنك المركزي الياباني سيتم شراء 7.5 تريليون ين من السندات الحكومية شهريا حتى تتم مضاعفة الأساس النقدي الياباني ليصل إلى 270 تريليون ين في آذار (مارس) 2015. آخذا في الاعتبار هذه المستويات من الأساس النقدي، وبوضع أي تقدير متوسط للمضاعف النقدي، فإن تطبيق هذا البرنامج سيعني أن اليابان مقدمة على عرض هائل من النقود، يتوقع معه أن يرتفع التضخم في اليابان ويتحول الى أرقام موجبة، بعد أن ظل سالبا لمعظم الأوقات مسبقا، وهو ما سيترتب عليه خفض كبير في قيمة الين.
منذ فترة طويلة والين الياباني يميل نحو الانخفاض، غير أن خطط التسهيل النقدي الأخيرة صاحبها تراجع واضح للين الياباني وبشكل كبير، فخلال الأشهر الستة الماضية تراجعت قيمة الين بنحو الربع تقريبا، ومع استمرار تراجع الين الياباني أصبح ثالث أرخص عملة بعد الدولار واليوان، وأصبحت بالتالي الصادرات اليابانية رخيصة بالنسبة لمنافسيها، بصفة خاصة الصين التي من الواضح أن لديها قلقا كبيرا من تراجع قيمة الين، وقد حذرت اليابان أكثر من مرة من مغبة الاستمرار في الضغط على الين نحو التراجع، ومن أن الدول الناشئة هي التي ستدفع ثمن حرب العملات إذا اشتعلت. كذلك أصبحت طوكيو أكثر جاذبية للسياح الأجانب بعد أن انخفضت تكلفة الإقامة بشكل كبير نتيجة لتراجع قيمة العملة.
لا خلاف على أنه في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها اليابان حاليا، يعد الاتجاه نحو تخفيض العملة اتجاها صحيحا من الناحية النظرية، ولكن عندما تكون لاعبا رئيسا في السوق التجاري الدولي، وعندما يكون هذا التحرك في ظل أزمة طاحنة تدك العالم أجمع، بمن فيهم منافسوك، فإن هذه الخطوة سوف تكون لها عواقب وخيمة على الجميع، بمن فيهم البادئ.
للإنصاف، لا بد من الإشارة إلى أن الين الياباني ليس هو العملة الوحيدة في العالم التي تتراجع قيمتها بشكل متعمد، فلا شك أن الدولار الأمريكي واليوان الصيني أيضا ضعيفان في القيمة وبصورة متعمدة أيضا، أي أن عملاقي التجارة الدولية يفعلان ما تفعله اليابان بشكل أو بآخر، فالولايات المتحدة تضخ مئات المليارات من الدولارات في صورة تيسير كمي طويل الأمد، والصين تصر على الابقاء على معدل صرف الرينمنبي منخفضا بعيدا عن قوى السوق، ومن هذا المنطلق فإن اليابان لا تفعل شيئا مختلفا عما يفعله الشركاء الكبار.
غير أن الحكومتين الصينية والأمريكية تعلنان دائما أن أسباب ضعف عملتيهما تأتي نتيجة للأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية، وليس نتيجة خطوات خبيثة قامتا باتخاذها لتعزيز وضع عملتيهما على المستوى الدولي، وهو أيضا ما سارعت اليابان إلى إعلانه، فاليابانيون ينفون أن ما يقومون به من تسهيل نقدي الهدف منه هو إضعاف الين، وإنما الهدف الأساسي منه مقاومة الركود والانحسار السعري الذي تعاني منه اليابان منذ فترة طويلة، وهو أمر له آثاره الإيجابية على اليابان وشركاء اليابان ومنافسيها بل والعالم أجمع.
غير أن الكثير من المراقبين يعتبر الخطوة اليابانية بأنها بمثابة إعلان حرب على العالم، وقد جاءت ردود الفعل على الخطوة اليابانية من عدة أماكن في العالم، ففي شباط (فبراير) الماضي حذر الرئيس الفرنسي هولاند من أن جهود فرنسا لتحسين مستويات تنافسيتها التجارية ربما تذهب هباء بسبب القيمة المرتفعة لليورو في مقابل عملات الدول التجارية الرئيسة في العالم ودعا دول منطقة اليورو إلى وضع مستويات مستهدفة لليورو في الأجل المتوسط للمساعدة على الحفاظ على قيمة اليورو لحماية مصالح الدول الأعضاء في العملة الموحدة. من ناحية أخرى، صرح رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي بأن الباب مفتوح لاتخاذ أي إجراءات نقدية لمواجهة الآثار الاقتصادية المترتبة على ارتفاع قيمة اليورو في مواجهة العملات الأخرى.
كان الأثر المباشر لضعف الين على جارتها كوريا الجنوبية، التي تراجع معدل نمو صادراتها بصورة واضحة هذا العام، في الوقت الذي أخذت فيه صادرات اليابان في التصاعد، وهناك بوادر لتأثر مبيعات وأرباح شركات السيارات الكورية التي يتم عزوها حاليا لضعف الين، ولذلك أعلنت رئيسة كوريا الجنوبية بارك عن أن حكومتها ستتخذ الخطوات الوقائية المناسبة لضمان استقرار الوون الكوري نتيجة الانخفاض الكبير في الين الياباني الذي أضر بشكل واضح بالشركات الكورية الجنوبية، وأنها ستتخذ ما يلزم من إجراءات لضمان حماية الشركات الكورية من تحقيق خسائر من جراء ذلك.
وفي تايلاند أعلن وزير الخارجية كتيرات رانونج أنه يضغط حاليا على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة لمساعدة الصادرات وللحد من تدفقات رؤوس الأموال إلى الداخل التي أدت إلى رفع قيمة البات التايلاندي بالنسبة للين لأكثر من 15 في المائة في الربع الأول من هذا العام الذي يعد الارتفاع الأكبر بين العملات الآسيوية.
أكثر ردود الفعل هجومية جاءت من الصين، فقد أخذ الاقتصاديون الصينيون في مطالبة البنك المركزي الصيني "بنك الشعب" بأن يقوم باتخاذ إجراءات مناسبة للرد على تخفيض قيمة الين من خلال محاولة الضغط على اليوان بالنزول لكي تحمي الصين مصالحها التجارية، حيث يعتقدون أن ما تقوم به اليابان هو من أعمال الحرب التجارية، وأن ما تدعيه اليابان من أن ما تقوم به حاليا هو محاولة لرفع معدلات التضخم التي ظلت منخفضة خلال عقدين من الزمان تقريبا هو في واقع الأمر مؤامرة نقدية من اليابان تستهدف الدول الآسيوية المصدرة مثل الصين، وأن البنك المركزي يجب أن يفعل المزيد من خلال شراء الدولار لكي يخفض اليوان، ولكي يواجه الهجوم الياباني. من ناحية أخرى، حذر رئيس الصندوق السيادي اليابان من استمرار النظر إلى جيرانها على أنهم مستودع للقمامة، وذلك بقيامها بتخفيض الين، وذلك في نبرة خطاب حادة لليابان.
المشكلة الأساسية هي أن اليابان تريد أن تنهي أزماتها في مناخ أزمة كما سبقت الإشارة، وهو توقيت غير مناسب على الإطلاق للتعامل مع استحقاقات الركود الطويل الذي مرت به اليابان، وحتى هذه اللحظة يقف العالم موقف المتفرج دون ردة فعل عملية على الخطوة اليابانية، ربما باعتبار أن الرد سيؤدي إلى انطلاق حرب العملات بين القوى التجارية الرئيسة في العالم، التي ستؤثر سلبا على جميع الاقتصادات بما فيها جيران اليابان، ومن المعلوم أن حرب العملات هي حرب لا رابح فيها، لأنها دائما تستدعي التدخل من جميع الأطراف لمحاولة كل طرف الحفاظ على مصالحه من هجوم الطرف الآخر.
للأسف الشديد فإن انطلاق أي حرب للعملات ستعقبها حرب تجارية وقيود جمركية وغير جمركية يمكن أن تشل حركة الإنتاج والتجارة في العالم، وعندما تتخذ مثل هذه الإجراءات فمن المؤكد أن ذلك سيؤثر أيضا في حركة رؤوس الأموال على المستوى الدولي، وهذا هو مكمن الخطورة من انجراف العالم نحو هذا الاتجاه بعد أن دقت اليابان طبول حرب العملات، إنه باختصار شديد سباق نحو القاع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق